انفجار مرفأ بيروت تشكيليًا: هدوء ما بعد الموت

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • انفجار مرفأ بيروت تشكيليًا: هدوء ما بعد الموت



    انفجار مرفأ بيروت تشكيليًا: هدوء ما بعد الموت
    دارين حوماني
    تشكيل
    (نبيل سعد)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    ثلاثة أعوام مرّت، وبالتأكيد ستمر أعوام كثيرة قبل أن تعود بيروت إلى ما قبل ذلك التاريخ، 4 آب/ أغسطس 2020. زمن ينفرد بنفسه، لا يحتاج إلى أزمنة أخرى، يقف بمفرده على مرفأ مدينة كانت مدينة، قبل أن تتشظى لتصير عددًا من المدائن المنفصلة ثقافيًا والمشتتة ذهنيًا بين يوميات تختزل الموت بأشكال متعدّدة وبين توحّش أحزابها المتحكّمين في السلطة الذين يحتاجون جدًا إلى أن ننسى هذا اليوم، كما نسينا ما اقترفته أيديهم في الحرب الأهلية. 4 آب/ أغسطس اليوم الذي لا يزال نفسه فينا، حاضر في المكان وفي الذاكرة وعلى أجساد كثيرين لا يزالون يعانون من ذكراه. ينسحب هذا الحضور على الجسد المعماري أيضًا، أجساد معمارية كثيرة لم ترمّم جروحها بعد، تنتظر من ينفّذ وعودها لها.

    "إن عالم المدينة مكتفٍ بذاته، له تاريخه الخاص، ومعالمه، ورموزه... غير أن جغرافية المكان تتطور عبر التاريخ... مجمل القول إن المدينة لها تاريخ وشخصية"- يكتب الأنثروبولوجي مارك أوجيه، الراحل مؤخرًا، في كتابه "أنثروبولوجيا العوالم المعاصرة" في سياق حديثه عن المدينة، وبهذا المعنى نرى كيف تتطور بيروت؛ يحدث أن تتطور المدن لتحافظ على تاريخها ثم لتضيف حداثة فوق تراثها وحداثتها، لكن من تولّوا حكم بيروت عرفوا جيدًا صياغة مفهوم التطور عبر التدمير، تدمير متقطّع زمنيًا وغالبًا ممنهج، فحوّلوها بالكامل من مدينة لها "تاريخ وشخصية" إلى تواريخ وشخصيات، وكل تاريخ من هذه التواريخ يمكن أن يقصّ علينا سيرة الجثث التي قُتلت فيه على أرض بيروت أو خُطفت ولا تزال مختفية في مكان ما في هذا العالم.

    والذي يمرّ ببيروت ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا سيخرج منها بقليل أو بكثير منها، والذين عبروا من أمام مكان الانفجار لم يعبروا بالكامل، بقيت أجزاء منهم هناك، هذا يحدث غالبًا مع الجميع، ومع أدبائنا وفنانينا تحديدًا. هنا نعرض لأعمال عدد من هؤلاء الفنانين الذين تسرّب الانفجار من ريشاتهم فأرشفوا الزمن كما عاينته إيقاعاتهم النفسية.
    لوحتا نعيم ضومط (يمين) ومحمد شرف
    بعد ثلاثة أيام على الانفجار قدّم محمد شرف لنا لوحة عن الانفجار بعنوان "بيروت 4 آب" كتب تحتها على صفحته الفيسبوكية "علمًا أنه سيكون من الصعب تصوير هول الكارثة"، لوحة تعبيرية اختار لها الفنان ألوان الدخان والحرائق، لوحة تكاد تكون مقسومة أفقيًا بين الرمادي بتدرجاته اللونية للبيوت البعيدة المحترقة وللمرفأ بأهراءاته ورافعاته وأرضيّته التي يطلّ عليها الأسود لشدّة الاحتراق ويمرّ الأحمر فيها مشيرًا إلى الموت والدم، فيما يقابل هذا الرمادي في سماء المدينة تدرّجات لونية مأخوذة من الأحمر إلى الزهري، ونرى حبيبات القمح الصفراء مكوّمة أسفل الأهراءات.

    وقدّم نعيم ضومط عددًا من اللوحات عن بيروت وانفجار مرفئها، منها لوحة صوّر فيها لحظة الانفجار مستخدمًا التضاد اللوني بين الأحمر والضبابي حيث بدا اللونان متشابكين للأهراءات ولسحابة الانفجار وللمرفأ بكامله في إبراز للأحمر الذي يؤرّخ لاتساع الموت في المكان.

    ثمة تضاد لوني آخر في لوحة نبيل سعد الانطباعية "لحظة من زمن" كأن الفنان يرى لبنان من خلف البحر بزرقة سمائه وبحره وارتفاع جباله ثم يأتي الانفجار ليأخذ مكانه في بيروت مع سحابة دخان برتقالية تكاد تكون مسروقة من لحظة الانفجار نفسها، من المكان نفسه ومن الواقع نفسه. اختار سعد الأزرق لمدينة هادئة تحب الحياة، سلسلة جبال لبنان التي تطل على بيروت هادئة أيضًا بسحرها الأزرق، ورغم أن سحابة الدخان مثل شجرة متجدّدة، مثل فكرة دمار متجدّدة عن بيروت، كما أن ثمة سوادًا ينتشر في أكثر من مكان في البحر، وهو سواد يشير إلى جثث القتلى، ولكن ثمة لمسات ضوئية بيضاء وزهرية تطلّ على اللوحة من فوق تشير إلى تفاؤلية الفنان وإيمانه بما هو قادم، ما يذّكرنا بقول جورج برنارد شو: "لا أعلم ماذا يخبّئ لي الغد ولكني خبأتُ له التفاؤل".
    من أعمال توم يونغ عن انفجار المرفأ
    حكايات بيروت في لوحات توم يونغ عديدة، عن انفجار مرفئها أيضًا، هنا 3 لوحات تختبر الدمار ورفع الدمار. أربعة شخوص يتأملون المرفأ ومبنى الأهراءات من بعيد كأنهم يقفون على سطح مدينة منكوبة. أب وابنه متكاتفان، تكاتف يشي بالقلق من المستقبل، آخر يقف متأملًا، وطفل يقف بعيدًا مدهوشًا من حجم الشقاء في المكان. لوحة تحقّق شروط الخراب الحزين كله، بيروت اليوم تشبه مرفأها بُعيد الانفجار، تشبه هذه اللوحة تمامًا بشقائها وقلقها. الأهراءات وحدها في لوحة ثانية وبنفس الألوان، ذلك الأزرق الممزوج بالدخان وألوان ما بعد الانفجار، مثل هدوء ما بعد الموت. التصدّع الذي طاول جانبًا من مبنى الأهراءات وسقط في فترة لاحقة يرسمه أيضًا البريطاني المقيم في لبنان توم يونغ، تصدّع أسود أسفل المبنى عن مدينة ستسقط لاحقًا. لا يترك هذا الرسام فكرة إلا ويحقّق شروطها. في لوحة ثالثة بعنوان "الملائكة الأقوياء"، شباب محاطون بالخراب، يحاولون إزالته، هنا تلال من الشقاء، علم لبنان أحد مفرداته واقعًا بين الزجاج المتكسّر والوطن المتكسّر. لوحات مأهولة بالأزرق نفسه مشتبكًا مع الرمادي. يشبه المتطوّعون في إزالتهم للخراب لمسة الضوء الصفراء التي تطلّ من بين طوابير الحزن، يضع الفنان ظلالًا لشخوصه على الأرض، ظلال تؤكّد الأثر الذي تتركه هذه الكائنات المتكاتفة لرفع الأسى عن المدينة.
    من أعمال سيروان باران عن انفجار المرفأ
    سيروان باران أيضًا، العراقي المقيم في لبنان، شكّلت واقعية الانفجار تعبيرية عدد من لوحاته. الخراب نفسه أمام قلق الأهراءات كأن المكان نسخة مصغّرة عن العالم بعد نهايته، لا شيء سوى الصمت. صمت اللوحة نفسه يحكي عن نفسه، يحكي كل ما ينبغي أن يُقال، "الصمت الذي يعقب كارثة هائلة هو أشد الأصوات هدوءًا التي يمكن سماعها على سطح الأرض"، تقول الروائية أليف شافاك، لكن ثمة عددًا آخر من اللوحات الصاخبة، ألوان صارخة تتكلم بقسوة وبقوة الجرح؛ في إحداها رجال الإطفاء بالأحمر أمام البوابة رقم 12 حيث بدأت حكاية الانفجار، يمرّر الفنان مساحات بيضاء على أرضية المرفأ، خطوات المنقذين هي البيضاء، المساحات التي يتركونها حيث يمرّون تصير بيضاء، إنه الشفاء من الموت قدر الإمكان. متطوعون آخرون في لوحة ثالثة، منهمكون بالإنقاذ بإزالة الألم، لوحة ممتلئة بالشخوص، هنا موت وخراب ومنقذون في ألوان مشتبكة ببعضها، مكوّنات الانفجار كلها في هذه اللوحة، كأن الفنان يتجادل مع الموت ويتحاور مع محاولات النجاة من الحزن. باران يقدّم لنا عرضًا بصريًا حادًا في لوحاته يكشف فيها عن حجم الألم وعن البعد النفسي للموتى والأحياء وحتى الأشياء. الانتقال بين الألوان لا يهم هنا، يختصرها باران كلها كما اختصر الانفجار شقاء بيروت.
    لوحتا سيروان باران (يمين) وعادل أبو حيدر
    الفنان عادل أبو حيدر التقط لحظة واقعية أخرى من الانفجار. حَدَثَ أن سيدة تهدّم جزء من منزلها الواقع قريبًا من المرفأ فجلست على كرسي البيانو وعزفت، في فعل مقاوم للموت وللحزن بالموسيقى، صوّرها أبو حيدر تشكيليًا كما تخيّل الحدث في لوحة بعنوان "بيروت السلام"، سيدة مسنّة تعزف البيانو ترتدي فستانًا أزرق يدل على الأمل في غرفة نصف مهدّمة، وقع أحد جدرانها وأحد أبوابها على الأرض بفعل قوة الانفجار. الساعة على الكنبة توقفت عند السادسة وعشر دقائق، توقيت الموت الذي حدث ذلك اليوم، لكن الفجوة التي أحدثها الانفجار لا تطل على الشقاء بل على أمل آخر، دخان الانفجار امرأة ورجل بالبرتقالي والأصفر يتعانقان بحب، ثمة حمامة بيضاء تحمل علم لبنان وأخرى مستندة فوق الجدار المهدّم. هو عمل يختصر كل احتمالات التفاؤل والأمل.

    "ليلة مخيفة" هو عمل ليال سلوم الذي اتخذت فيه من فان غوخ "ليلة النجوم" وانطباعية أعماله بألوانها ركيزة عملها، تلك الضربات اللونية القصيرة وحيث يتسع أفق المكان لعدد من الألوان يبرز فيها الأصفر والأزرق والأحمر والبرتقالي، ويمرّ الأسود مرور الموت في سماء المدينة وفي مرفئها. أما فاطمة ضيا فستقدّم بعد أيام قليلة من الانفجار عملًا بعنوان "الملائكة الصاعدة" صوّرت فيه القتلى كملائكة يحومون فوق المدينة. سواد الانفجار والمكان تكسره زرقة البحر كما يكسره بياض الملائكة. عمل تم عرضه بالمزاد العلني وبيع بـ45 ألف دولار تبرّعت فيه الفنانة بكامله للذين فقدوا منازلهم جرّاء الحدث الذي لن يُنسى، ولن يعبر بهدوء من ذاكرتنا.
    لوحتا ليال سلوم (يمين) وفاطمة ضيا
يعمل...
X