بول كلي: "كيف نصوّر الموسيقى"
أسعد عرابي
تشكيل
إحياء توقيعي لـ"أقواس تونس" الملونة (بول كلي)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يتفوّق معرض الفنان بول كلي على كل ما عداه في الموسم الراهن. هو ألماني ـ عبراني، يتفق مؤرخو الفن المعاصر على أنه "الفنان الكامل"، بين مجموعة الرواد الألمان في النصف الأول من القرن العشرين. اكتسب هذه الصفة بسبب تعدديته الفنية ما بين الموسيقى والتشكيل. فقد كان عازفًا لآلة الكمان من الدرجة الاستثنائية، وعضوًا في أوركسترا فايمر للبلدية الألمانية (من والد يعد من أشهر عازفي البيانو والكمان. ومن والدة معروفة بغناء الأوبرا التي يعشقها، والتي أثرت على مسرحه الطفولي). هذا من جهة، وكان من جهة مقابلة متعدد المواهب التشكيلية ابتداء من التصوير والحفر (الشاش الحرير، أو الليتوغراف)، ونحت عرائس قريبة من نظائرها الساخرة في "مسرح الظل" المشرقي. يحدوه دومًا هاجس رفع الحدود بين الموسيقى والتصوير، بين السماعي والبصيرة على هدى الرومي، وسواه من جماعة الذوق المتصوفة. كان يبحث دومًا في الفنون عن البعد الروحي، مؤكدًا أنه كلما تواصل التصوير مع الموسيقى كلما ازداد العمل الفني أصالة ذوقية وروحية، أوصله اهتمامه بتوليف الفنون والصناعات الإسلامية (لحاستي السمع والبصر القلبية) إلى دراسة المواد النورانية في المحراب (الدراسة محفوظة في اليونيسكو لأهميتها).
يستعيد عنوان المعرض تساؤل بول كلي الملح والدؤوب: كيف نصوّر الموسيقى؟
دعاه المهندس غروبيوس، مؤسس مدرسة الباوهاوس التعددية التي بشرت منذ عام 1919 برفع الحدود (كما كانت في العصور الوسطى) بين الحرفيات والفنون النخبوية، بسبب طابعه الروحاني، وثقافته التعددية تربويًا، ليدرس مادة الزجاج المعشق، نظريًا وعلميًا. وقد ازداد ارتباطه بالفن الإسلامي بعد رحلته إلى تونس وارتشاف رحيق ألوانها الفينيقية.
كان قائد الأوركسترا الفرنسي الأول بيير بولينر اكتشف لأول مرة تنويطات التأليف الأوركسترالي لكلي، ثم تيقن بأنه كان يحوّل هذه الموسيقى مخبريًا إلى تجريد لوني، مثلها مثل بعض سوناتات الأورغ لجان سيباستيان باخ. يجد القارئ المهتم نماذجها الموثقة في كتاب بوليز "المواطن المثمرة لدى لول كلي" (من مطبوعات غاليمار 1989م).
"كان بول كلي يبحث دومًا في الفنون عن البعد الروحي، مؤكدًا أنه كلما تواصل التصوير مع الموسيقى كلما ازداد العمل الفني أصالة ذوقية وروحية" |
أغلق النازيون مدرسة الباوهاوس في أواخر الحرب العالمية الثانية، وأحرقوا لوحات مدرسية في ساحة عامة عام 1932 م، وطاردوا بول كلي بسبب يهوديته، فلجأ إلى سويسرا، ولكن رفضوا منحه الجنسية لعدم درايتهم بأهميته.
***
استضاف معرض بول كلي "محترف الألوان" المحدث في الدائرة الحادية عشرة في قلب العاصمة باريس (منذ عشرة أشهر فقط)، وذلك ضمن آلية مستقبلية في العرض تعتمد كل مرة على فريق معروف بالبرمجة المعلوماتية لإسقاط أنوار ألوان اللوحات الأصلية بعد سبرها مخبريًا بأجهزة بصرية سمعية ـ سينيتيك.
يعانق المعرض أكثر من عشرة اختيارات بانورامية، وتجتمع على الأغلب أكثر من لوحة لتطوق الزائر بانوراميًا من الجهات الأربع، وتجتاحه توليفات الصوت والضوء واللون والرفيف القزحي، بحيث تتظاهر اللوحة ضوئيًا بنظارة فيزيائية بصرية غير معهودة، ناهيك عن تواتر ديناميكية العرض بطريقة مشهدية مسرحية، أو بالأحرى بهيئة مدينة خيالية مع كونشرتو من أسماك ذهبية، أو متضاربة الألوان على طريقته الطفولية.
بما أنه غزير الإنتاج، يصل موروثه إلى عشرة آلاف من اللوحات، وقسم من الرسوم والنوطات الموسيقية البكر، ولأن أساس لوحته يرتكز على الموسيقى، نستمع بشبق متعطش لموسيقى موزار في مناخات قطعته الشهيرة "الناي المسحور".
يهندس الفريق المعلوماتي الفراغ البصري الصوتي وفق رؤيوية بول كلي الهندسية، أو البنائية، وبالنتيجة نستحضر إبداعه التعددي بصيغة لم نشهدها سابقًا، وبروح "البرفورمانس"، أي الطقوس البصرية السمعية التي تجري لمرة واحدة بحضور الجمهور، وهو ما يفسر محدودية زمن العرض، وامتداد ترداده كل يوم، على مدار السنة كاملة.
بدأ العرض منذ أواخر فبراير/ شباط من عام 2023م، مستمرًا حتى أواسط يناير/ كانون الثاني من العام القادم