نكبة فلسطين تعود إلى واجهة الإقْرار والإنْكار والتَّهديد
محمد جميل خضر
حجم الخط
على منوال "تاريخُنا وأرشيفُهم"، تتمظهرُ نكبتُنا بوصفِها فرحتَهم، يومَ استقلالِهم. ثنائيةٌ حتميةٌ وجوديةٌ يحاول الكاتب الزميل أنطوان شلحت، في كتيّبٍ من إعداده وتقديمه يحملُ عنوان "من الإنكار إلى التهديد بنكبةٍ جديدة!"، تلمّس بعض تمثّلاتها على الأرض، وإلقاءَ ضوءٍ كاشفٍ على عيّناتٍ من أدبيّاتِ الطَّرح الإسرائيليّ/ الصهيونيّ المعاصر حول النكبة، بوصفها مفصلًا تاريخيًا، وحقيقة إنسانية، واستحقاقًا سياسيًا، ومنعرجًا أخلاقيًا.
في سياق تقديمه للكتيّب الصادر ضمن سِلسلة "أوراق إسرائيلية" (العدد 78 من السلسلة التي تصدر عن "مدار"- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية في رام الله)، والذي يتحدّث أساسًا عن "مستجدّات مقاربةِ النّكبة الفلسطينية في الحيّز العام الإسرائيليّ"، يوضح شُلحت تحت عنوان "إسرائيل وسياسة النكبة" أن السبب الرئيسيّ من وراء إعداد هذا الكتيّب هو عودة النكبة الفلسطينية، في الفترة القليلة الماضية، إلى "جدول الأعمال في إسرائيل على خلفية عدة أحداث مرتبطة بها، بكيفية ما، لعلّ أولها إنتاج فيلم إسرائيلي بعنوان ’طنطورة’ حول المذبحة التي ارتكبها لواء عسكري إسرائيلي ("لواء إسْكندروني") في قرية الطنطورة الفلسطينية (قضاء حيفا) إبّان ارتكاب مجازر النكبة في عام 1948، التي تم إنكارها في الماضي. وثانيها، إحياء ذكرى النكبة في بعض الجامعات الإسرائيلية (جامعة تل أبيب وجامعة "بن غوريون" في بئر السبع) بالرغم من وجود قانون إسرائيلي يمنع إحياءها. وبموازاة هذا استمرت أيضًا عمليات الكشف عن وثائق من الأرشيفات الإسرائيلية تتطرّق إلى ما ارتكب من مجازرٍ وآثامٍ خلال النّكبة، بما جعل هذا الماضي الإسرائيلي المُظلم يلقي بظلالهِ على الحاضر" (الكتيّب صفحة 7).
إنها العودة التي ألقت أحداثٌ كثيرة بظلالها عليها، مثل "الهبّة الفلسطينية التي اندلعت في مايو/ أيار 2021، وشملت على نحو رئيسي ما يعرف باسم "المدن المختلطة" داخل أراضي 1948، وهي في الأساس مدن: اللد، والرملة، ويافا، وعكا، وحيفا. وكشفت هذه الهبّة عن بُنْيةٍ عنصرية لدى قطاعات كبيرة في المجتمع اليهودي لم تسلّم، ويبدو أنها لن تسلّم، بفكرة أن العرب الفلسطينيين في إسرائيل لهم انتماء وطني، وهم جزء من الشعب الفلسطيني، ومن قضيته التي بلغت الذروة في أحداث النكبة" (ص 7).
يقول شُلحت في مقدمته إن هذه الورقة التي أنجزت بالتعاون مع دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية، تسعى، بشكلٍ رئيسي، إلى تقديم "نماذج مختارة من الكتابات الإسرائيلية الجديدة حول النكبة، التي ظهرت على وجه التحديد بعد هبّة 2021 وصولًا إلى مناسبة ذكراها الأخيرة ـ الـ74 ـ في عام 2022، وتتوخَى أن تُطلع من خلالها جمهور القرّاء على ما تحيل إليه هذه الكتابات من مستجدات الموقف الإسرائيلي حيال النّكبة، وكيفية تأثير هذه المستجدات على المواقف السياسية الإسرائيلية إزاء القضية الفلسطينية بشكل عام، وفيما يتعلّق بالجدل الداخليّ القائم في هذا الشأن" (ص 8).
وفي حين يقرّ الباحث في مقدمته بأن الأصوات الإسرائيلية التي اعترفت بأن نكبة 1948 كانت السبب الوحيد لما يُعرف بـ "قضية الأقلية العربية في إسرائيل" تظل، قياسًا مع المِزاج الإسرائيليّ العام، قليلة، إلا أن تنكّب هذا الجدل الدائر، بحسبه، ضروريٌّ، ليس من أجل التقاط صوابه، أو محاكمة عدم دقّته، إنما "لِتوضيح جانبٍ من جوانب التفكير الإسرائيلي في ما يتعلق بالنّكبة، وهو الجانب الذي يشي بهروب أصحابه إلى الأمام من مستحقاتها عمومًا، وخصوصًا في ما يرتبط بما يعرف بعلاقات الأكثرية اليهودية والأقلية الفلسطينية داخل أراضي 1948" (ص8).
كما يقول شُلحت في مقدمته إن أصحاب هذا التفكير يتجاهلون أن الفلسطينيين "أينما كانوا ليسوا في حاجة إلى أي مُسبّب في الظاهر كي يسترجعوا نكبتهم، فهي كما قيل ويُقال مرارًا وتكرارًا مستمرة في الحاضر، سواء من خلال المواجهة التي يخوضونها مع إسرائيل، أو من خلال المواقف التي تستجد بين الفينة والأخرى، إن كان من طرف جهات عربية، أو دولية. وجولة الكفاح التي يخوضها الفلسطينيون في عام 2022، وكذلك الجولة السابقة في عام 2021، التي بدأت من القدس (حي الشيخ جرّاح)، وسرعان ما شملت سائر مناطق فلسطين ولا سيما أراضي 1948، قد تكونان جاءتا بالمُصادفة متزامنتيْن مع ذكرى النكبة الفلسطينية، ولكن لا يمكن بحال من الأحوال عدم رؤية أن السبب الواقف وراءهما يعود إلى تلك النكبة وتداعياتها المستمرة، التي ليس من المبالغة القول إنها بمنزلة الشرارة المتوهجة التي لا تخبو لأي جولة كفاح فلسطينية، بما في ذلك الراهنة والسابقة، وكذلك المقبلة، كما كانت الحال حتى الآن" (ص9). ويكشف في مقدمة الكتيب أن الناطقين بلسان اليمين الإسرائيليّ الجديد يحاولون أن "يَدمِغوا معارضيهم، من أوساط الإسرائيليين، ولا سيما في ما يخص قضية النّكبة، بشبهتيْن: الأولى، أنهم "يساريون"؛ الثانية، أنهم مصابون بقدر كبير من "كراهية الذات"، يصل إلى درجة عقدة نفسيّة يوصم بها كل المُعادين للسامية في أنحاء العالم"! (ص9).
تهمٌ وملاحقاتٌ تسعى، باسْتماتة، إلى "تحويل هؤلاء المناهضين إلى زمرةٍ من اليساريين الكارهين لإسرائيل، الخوَنة، المندسّين، غير الجديرين بأي شرعية في أوساط الرأي العام".
فعن أي ديمقراطيةٍ تتحدّث (إسرائيل) الجاهزة في جعبتِها كل هذه التهم لأيّ محاولة تفكير خارج صندوق (المشروع الصهيونيّ الكبير)؟ وبأيِّ وهمٍ يتمسّك الواهمون بإمكانيةِ إقامةِ حوارٍ مُنْتِجٍ مع منظومةٍ (عصاباتيّة) هذه هي حالها؟ وهل ستقود أيّةُ مفاوضاتٍ مع هكذا خرسانةٍ استعماريةٍ مُصْمَتَةٍ مُنغلقةٍ غارقةٍ بالزّيف والتزييفِ والخُرافة إلى أيِّ أفقٍ غير العبث؟
في سياق ذي صلة يكشف معدُّ الكتيب، وفي مقالٍ آخر له حمل عنوان "ثلاثون عامًا على "اتفاقية أوسلو": ماذا أراد رابين؟"، أن يتسحاق رابين الذي اغتيل في عام 1995، لِـ(تفريطه ومدّ يده للأعداء)، لم يكن في وارده ولا مرّة (التفريط) بأي شبرٍ من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في يونيو/ حزيران 1967، ويكتفي لكشف هذه الحقيقة (المفجعة) بترجمة خطاب رابين أمام الهيئة العامة للكنيست في جلسة التصويت على الاتفاق الإسرائيلي- الفلسطيني بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة يوم 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1995 ("اتفاق أوسلو ب"). فالخطاب وحده، ومن دون أي إضافة، أو تزويق، أو تهويل، يكشف كيف يفكرون، وأنهم ولا مرّة قد يتنازلون. ففي هذا الخطاب، كما يكشف عن نفسه، والذي ألقاه رابين في الكنيست قبل شهر واحد من اغتياله، يؤكّد "ضرورة استمرار السيطرة على أراضٍ من مناطق 1967"، التي عدها في الوقت نفسه، "أرصدة أمنية استراتيجية". وأعلن "رفضه الانسحاب إلى خطوط 4 يونيو/ حزيران 1967. وقال إن الفلسطينيين سيتمكنون من إدارة حياة مستقلة ضمن كيان خاص بهم، وبحسب قوله هذا الكيان سيكون أقل من دولة. كما افترض رابين أن المسؤولية العليا والعملية عن الأمن ستبقى في يد إسرائيل في كل الأراضي الواقعة غربي نهر الأردن. ورأى أن بقاء "القدس الموحدة" تحت سيادة دولة الاحتلال يُعدّ أمرًا ضروريًا"! ("ضفة ثالثة"، 14 سبتمبر/ أيلول 2023).
شُلحت يتطرّق في مقاله إلى افتتاحية صحيفة "هآرتس"، غداة كشف النقاب عن محضر جلسة الحكومة الإسرائيلية التي صادقت فيها على اتفاق أوسلو الأول ("اتفاق إعلان المبادئ"، المبرم عام 1993) والتي قالت فيها: "إن المحضر مثير للغاية بما غاب عنه وربما أكثر مما ورد فيه، فقد تم تجنّب التطرّق إلى الاحتلال الإسرائيلي، أو إلى حق الفلسطينيين في الحرية والاستقلال". وأضافت: "واضح من المحضر أن إسرائيل، حتى عندما كانت تتسلم مقاليد الحكم فيها الحكومة الأكثر يسارية في تاريخها، لم تكن تنوي الانسحاب من أراضي 1967، وأن تقيم فيها دولة فلسطينية. كما أن رابين نفسه عارض أي نقاش حول القدس، وشدّد وزراء حكومته على أهمية استمرار السيطرة على ’الأراضي العامة’، أو ’أراضي الدولة’ في الضفة الغربية (التي تمت تسميتها في وقت لاحق بـ "مناطق ج")، وذلك بهدف الاحتفاظ باحتياطي أراضٍ في سبيل توسعة المستوطنات. ووعد رابين بإقامة سلطة فلسطينية تعمل (من وجهة نظره) كمقاولٍ ثانويٍّ أمنيٍّ لدى الجيش الإسرائيلي وتحاول كبح صعود حركة ’حماس’، ولا شيء أكثر من ذلك!" (المقال المشار إليه أعلاه).
على كل حال، وبالعودة إلى كتيّب النّكبة وسيرورتها في وعيهم من الإنكارِ إلى الإقرارِ إلى التهديد بنكبة جديدة، فإن الباحث يقرّ في تقديمه بأن الأصوات الداعية للمراجعة والاعتراف لا تزال "قليلة جدًّا"، مستدركًا بأنها رغم قلّتها "شديدة الصفاء وبالغة الدلالة"، فهي تدعو في بعض تجلياتها إلى "التحرّر من العقيدة الصهيونية" (ص11)، إنها دعوة، يقول شُلحت، موجهة إلى "جهات تحاول إعادة إنتاج العقيدة الصهيونية عبر تجميل صورتها، في مواجهة آخر مظاهر التطرّف والتوحش، كما تنعكس في الوقت الراهن على سبيل المثال في الأراضي المحتلة منذ 1967 وفي القدس، وذلك على أساس الادعاء أن ما وقف وراءها هو حركة قومية علمانية سعت لتحرير اليهود من ظلم الشتات، منطلقة من علمنة الديانة اليهودية، ضمن أمور أخرى" (ص 11). وهو يخلص، بعد مروره على هذه الأصوات (القليلة ولكن المهمة)، إلى استنتاجيْن متّصليْن: "الأول: أن العقيدة الصهيونية لم تُلطّخ تحت وطأة الاحتلال في عام 1967 فقط، بل ولدت ملّطخة في الأصل، وأن احتلال ذلك العام هو استمرار مباشر للنّكبة الفلسطينية في عام 1948؛ والثاني: أن الطريقة الوحيدة لإنهاءِ الكولونياليّة والأبَارتهايد هي النضال ضد إسرائيل وضد الصهيونية، وليس التحالف معهما من أجل ’تخفيف حدّة’ تطرفهُما أو ’صوْغ’ طابعهُما. وينطوي هذا الاستنتاج على رسالة موجهة بالأساس إلى من يصِفون أنفسهم بأنهم ’يسار صهيوني’ فحواها أن لفظتي اليسار والصهيونية أوكسيمورون فاقع!" (ص 12).
"من الأصوات الأكثر صفاء"، التي يعثر عليها شُلحت، ويمنحنا فرصة التعرّف عليها، "صوتا الأكاديمييْن نيف غوردون، وعيدان لنداو، وكلاهما من جامعة بئر السبع"؛ فالأول كتب بصريح العبارة أن الفكرة الصهيونية هي رديف التهويد، ونقيض الحرية والمواطنة المتساوية. وجزم بأنه حان الوقت للانفصال عن الصهيونية والتمسك بكل قوة بالأيدِيولوجيا التي تدفع بالمساواة قدمًا، وشدّد على أنه لا ينبغي بالمرء أن يكون راديكاليًا حتى يصل إلى مثل هذه الخلاصة، بل يكفي أن يكون ليبراليًا مستقيمًا وعادلًا. أمّا لنداو فأكد أن "الأبارتهايد الإسرائيلي"، كما يصفه، هو "جزءٌ حيٌّ منّا، من تكوينِنا. وليس فقط أن لِغالبية الإسرائيليين حصّة فيه ودورًا، وإنما هي تستفيد منه أيضًا"! ولذا فـ "من الصعب التجنّد ضده، لأن النضال ضده يعني، في الوقت ذاته، النضال ضد مجتمعك، ضد أقاربك، وأحيانًا كثيرة ـ ضد نفسك أنت، أو ضد أجزاء من شخصيتك"!" (ص 14).
إقرارٌ وقح وتهديدٌ ضروس
بعد المقدمة، يضعنا الكتيّب في حيثيات المقالات المختارة لنشرها داخل صفحاته، وهي "نماذج من مقالات كتبها أشخاص، أو كتّاب رأي من شتى أطياف اليمين في إسرائيل، فضلًا عن تحليلٍ جديدٍ من وجهة نظر سوسيولوجية لأستاذة جامعية إسرائيلية متخصصة في دراسات الذاكرة والمصالحة حول آخر المقاربات المتعلّقة بالنكبة في السياق الإسرائيلي، إلى جانب نماذج من مقالات جديدة تقرأ الغايات الكامنة من وراء استمرار سياسة الكذب المتفق عليه بالنسبة إلى النكبة، وغايات اليمين في إسرائيل من وراء الكلام حول النكبة" (ص 14).
يضم الكتيّب، إلى ذلك، ملحقًا يتوقّف عند "الجهود التي قام بها أول رئيس حكومة في إسرائيل، دافيد بن غوريون، من أجل أن يزيح عن كاهل الدولة أي مسؤولية عن عمليات طرد الفلسطينيين من بيوتهم خلال النكبة، وكيف أدى الضغط الذي مارسه الأميركيون من أجل إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى قيامه بتلفيق بحث يظهر كما لو أنه أكاديميّ يروي للعالم أن الفلسطينيين نزحوا طوعًا عن بلدهِم ولم يتعرضوا إلى التهجير بما من شأنه أن يؤول إلى الاعتقاد بأن النكبة هي مُجرّد كذبة أو هراء. وبالإمكان أن نعد أن سلوك بن غوريون هذا مهّد الأرضية أمام اليمين الإسرائيلي لتبنّي هذه السردية وترويجها قبل أن يقرّ قراره على الكفّ عن إنكارها والتهديد بتكرارها" (ص 15).
ولعلّني، هنا، سأتحمّل، وحدي، مسؤولية عدم مناقشة المقالات الواردة في الكتيّب، ولا ذِكْرِ أسماء كتّابها، مكتفيًا بالقول إنها في أحسن أحوالها تتضمّن اعترافًا خجولًا لا يتردّد، مع ذلك، في استخدام مصطلح "حرب الاستقلال" عند الحديث عن نكبتنا، من دون أن ننكر، للإنصاف، أن مقال الصحافي البريطاني جونَثان كوك الذي يحمل عنوان "إسرائيل مستمرة بلا هوادة في انتهاج ’سياسة النكبة’!"، احتشد، بعناوينه جميعها، بوصفه شهادةً شجاعة، وكلمة حق في وجه كل هذا الظلم، علمًا أن كوك المتخصص بالشأن الفلسطيني أقام في الناصرة لمدة 20 عامًا، وبالتالي تحمل آراءه أهمية خاصة، كما لو أن موقفه يمثّل رؤية أبحرت بعمق داخل مفردات الكيان وتفاصيله. كوك لا يتردد في مقاله الطويل (من صفحة 33 إلى صفحة 40) بذكر الأسماء بمسمياتها: "عملية المكنسة"، أي "تنظيف" المناطق و"تدمير مئات القرى الفلسطينية بمجرد أن طرد الجنود الصهاينة سكانها منها، وكان الهدف عدم السماح لهم بتاتًا بالعودة إليها" (ص 36).
كما لا يتردد بربط الصهاينة بعشرات العمليات الإرهابية في "عهد الإرهاب"، ملقيًا الضوء على عشرات المذابح، منها، على سبيل المثال لا الحصر، مذبحة الدوايمة: "في واحدة من أبشع هذه المذابح، قام الجيش الإسرائيلي بإعدام 170 رجلًا وامرأة وطفلًا قريبًا من مدينة الخليل. كما أصيب في تلك الأثناء المئات من الفلسطينيين بجروح رغم أنهم لم يبدوا أي مقاومة" (ص 36)، متحدثًا عن "لغة استئصالية" شائعة بين أوساط الإسرائيليين جميعهم: "يستخدم المسؤولون الإسرائيليون بشكل منتظم لغة من النوع الاستئصالي، ومن ذلك ما صدر عن الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، موشيه يعالون، الذي شبّه التهديد الذي يشكله الفلسطينيون بـ’السرطان الذي لا مفر من استئصاله ومحاربته حتى النهاية’. كما صنفت وزيرة الداخلية الإسرائيلية السابقة، أييلت شاكيد، جميع الفلسطينيين باعتبارهم ’محاربين معادين’، وهو مصطلح يفيد بأنهم أهداف عسكرية مشروعة. وتحدثت عن الفلسطينيين الذين يقاتلون ضد الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ عقود باعتبارهم ’ثعابين’، وأشارت إلى أن عائلاتهم بأكملها يمكن أن تُباد، بمن في ذلك أمهاتهم، وإلا فإن ’ثعابين صغيرة أخرى سوف تنشأ وتترعرع ههنا’" (ص 38).
يقول كوك في هذا الجزء من مقاله "إن الحاخامات في إسرائيل أكثر صراحة. ولقد ألّف اثنان منهم كراسًا مثيرًا بعنوان ’توراة الملك’، يثبتان فيه أن قتل الفلسطينيين مُباح، بما في ذلك الرضّع منهم"، لأنه "من الواضح أنهم حين يكبرون فسوف يضرّوننا". ومع ذلك فـ "إن أيًّا منهما لم يتعرّض إلى مساءلة، أو محاسبة" (ص 38).
أما أخطر إيماءات مقال كوك فهو ما يحمل عنوان "لم تُنجزْ المَهمّة" الذي يشير صراحة إلى ندم الإسرائيليين من أطياف عديدة، على عدم قتل، أو طرد الفلسطينيين جميعهم، إبان (حرب الاستقلال)!! وبالتالي فكثير منهم اليوم، يسار ويمين ووسط، يهدّدون، من دون مواربة، باستكمالِ ما لم ينجزه بن غوريون على أكمل وجه من خلال النكبة!!!
محمد جميل خضر
حجم الخط
على منوال "تاريخُنا وأرشيفُهم"، تتمظهرُ نكبتُنا بوصفِها فرحتَهم، يومَ استقلالِهم. ثنائيةٌ حتميةٌ وجوديةٌ يحاول الكاتب الزميل أنطوان شلحت، في كتيّبٍ من إعداده وتقديمه يحملُ عنوان "من الإنكار إلى التهديد بنكبةٍ جديدة!"، تلمّس بعض تمثّلاتها على الأرض، وإلقاءَ ضوءٍ كاشفٍ على عيّناتٍ من أدبيّاتِ الطَّرح الإسرائيليّ/ الصهيونيّ المعاصر حول النكبة، بوصفها مفصلًا تاريخيًا، وحقيقة إنسانية، واستحقاقًا سياسيًا، ومنعرجًا أخلاقيًا.
في سياق تقديمه للكتيّب الصادر ضمن سِلسلة "أوراق إسرائيلية" (العدد 78 من السلسلة التي تصدر عن "مدار"- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية في رام الله)، والذي يتحدّث أساسًا عن "مستجدّات مقاربةِ النّكبة الفلسطينية في الحيّز العام الإسرائيليّ"، يوضح شُلحت تحت عنوان "إسرائيل وسياسة النكبة" أن السبب الرئيسيّ من وراء إعداد هذا الكتيّب هو عودة النكبة الفلسطينية، في الفترة القليلة الماضية، إلى "جدول الأعمال في إسرائيل على خلفية عدة أحداث مرتبطة بها، بكيفية ما، لعلّ أولها إنتاج فيلم إسرائيلي بعنوان ’طنطورة’ حول المذبحة التي ارتكبها لواء عسكري إسرائيلي ("لواء إسْكندروني") في قرية الطنطورة الفلسطينية (قضاء حيفا) إبّان ارتكاب مجازر النكبة في عام 1948، التي تم إنكارها في الماضي. وثانيها، إحياء ذكرى النكبة في بعض الجامعات الإسرائيلية (جامعة تل أبيب وجامعة "بن غوريون" في بئر السبع) بالرغم من وجود قانون إسرائيلي يمنع إحياءها. وبموازاة هذا استمرت أيضًا عمليات الكشف عن وثائق من الأرشيفات الإسرائيلية تتطرّق إلى ما ارتكب من مجازرٍ وآثامٍ خلال النّكبة، بما جعل هذا الماضي الإسرائيلي المُظلم يلقي بظلالهِ على الحاضر" (الكتيّب صفحة 7).
إنها العودة التي ألقت أحداثٌ كثيرة بظلالها عليها، مثل "الهبّة الفلسطينية التي اندلعت في مايو/ أيار 2021، وشملت على نحو رئيسي ما يعرف باسم "المدن المختلطة" داخل أراضي 1948، وهي في الأساس مدن: اللد، والرملة، ويافا، وعكا، وحيفا. وكشفت هذه الهبّة عن بُنْيةٍ عنصرية لدى قطاعات كبيرة في المجتمع اليهودي لم تسلّم، ويبدو أنها لن تسلّم، بفكرة أن العرب الفلسطينيين في إسرائيل لهم انتماء وطني، وهم جزء من الشعب الفلسطيني، ومن قضيته التي بلغت الذروة في أحداث النكبة" (ص 7).
يقول شُلحت في مقدمته إن هذه الورقة التي أنجزت بالتعاون مع دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية، تسعى، بشكلٍ رئيسي، إلى تقديم "نماذج مختارة من الكتابات الإسرائيلية الجديدة حول النكبة، التي ظهرت على وجه التحديد بعد هبّة 2021 وصولًا إلى مناسبة ذكراها الأخيرة ـ الـ74 ـ في عام 2022، وتتوخَى أن تُطلع من خلالها جمهور القرّاء على ما تحيل إليه هذه الكتابات من مستجدات الموقف الإسرائيلي حيال النّكبة، وكيفية تأثير هذه المستجدات على المواقف السياسية الإسرائيلية إزاء القضية الفلسطينية بشكل عام، وفيما يتعلّق بالجدل الداخليّ القائم في هذا الشأن" (ص 8).
وفي حين يقرّ الباحث في مقدمته بأن الأصوات الإسرائيلية التي اعترفت بأن نكبة 1948 كانت السبب الوحيد لما يُعرف بـ "قضية الأقلية العربية في إسرائيل" تظل، قياسًا مع المِزاج الإسرائيليّ العام، قليلة، إلا أن تنكّب هذا الجدل الدائر، بحسبه، ضروريٌّ، ليس من أجل التقاط صوابه، أو محاكمة عدم دقّته، إنما "لِتوضيح جانبٍ من جوانب التفكير الإسرائيلي في ما يتعلق بالنّكبة، وهو الجانب الذي يشي بهروب أصحابه إلى الأمام من مستحقاتها عمومًا، وخصوصًا في ما يرتبط بما يعرف بعلاقات الأكثرية اليهودية والأقلية الفلسطينية داخل أراضي 1948" (ص8).
كما يقول شُلحت في مقدمته إن أصحاب هذا التفكير يتجاهلون أن الفلسطينيين "أينما كانوا ليسوا في حاجة إلى أي مُسبّب في الظاهر كي يسترجعوا نكبتهم، فهي كما قيل ويُقال مرارًا وتكرارًا مستمرة في الحاضر، سواء من خلال المواجهة التي يخوضونها مع إسرائيل، أو من خلال المواقف التي تستجد بين الفينة والأخرى، إن كان من طرف جهات عربية، أو دولية. وجولة الكفاح التي يخوضها الفلسطينيون في عام 2022، وكذلك الجولة السابقة في عام 2021، التي بدأت من القدس (حي الشيخ جرّاح)، وسرعان ما شملت سائر مناطق فلسطين ولا سيما أراضي 1948، قد تكونان جاءتا بالمُصادفة متزامنتيْن مع ذكرى النكبة الفلسطينية، ولكن لا يمكن بحال من الأحوال عدم رؤية أن السبب الواقف وراءهما يعود إلى تلك النكبة وتداعياتها المستمرة، التي ليس من المبالغة القول إنها بمنزلة الشرارة المتوهجة التي لا تخبو لأي جولة كفاح فلسطينية، بما في ذلك الراهنة والسابقة، وكذلك المقبلة، كما كانت الحال حتى الآن" (ص9). ويكشف في مقدمة الكتيب أن الناطقين بلسان اليمين الإسرائيليّ الجديد يحاولون أن "يَدمِغوا معارضيهم، من أوساط الإسرائيليين، ولا سيما في ما يخص قضية النّكبة، بشبهتيْن: الأولى، أنهم "يساريون"؛ الثانية، أنهم مصابون بقدر كبير من "كراهية الذات"، يصل إلى درجة عقدة نفسيّة يوصم بها كل المُعادين للسامية في أنحاء العالم"! (ص9).
تهمٌ وملاحقاتٌ تسعى، باسْتماتة، إلى "تحويل هؤلاء المناهضين إلى زمرةٍ من اليساريين الكارهين لإسرائيل، الخوَنة، المندسّين، غير الجديرين بأي شرعية في أوساط الرأي العام".
فعن أي ديمقراطيةٍ تتحدّث (إسرائيل) الجاهزة في جعبتِها كل هذه التهم لأيّ محاولة تفكير خارج صندوق (المشروع الصهيونيّ الكبير)؟ وبأيِّ وهمٍ يتمسّك الواهمون بإمكانيةِ إقامةِ حوارٍ مُنْتِجٍ مع منظومةٍ (عصاباتيّة) هذه هي حالها؟ وهل ستقود أيّةُ مفاوضاتٍ مع هكذا خرسانةٍ استعماريةٍ مُصْمَتَةٍ مُنغلقةٍ غارقةٍ بالزّيف والتزييفِ والخُرافة إلى أيِّ أفقٍ غير العبث؟
"يقرّ أ. شلحت بأنّ الأصوات الإسرائيلية التي اعترفت بأن نكبة 1948 كانت السبب الوحيد لما يُعرف بـ"قضية الأقلية العربية في إسرائيل" تظل، قياسًا مع المِزاج الإسرائيليّ العام، قليلة" |
في سياق ذي صلة يكشف معدُّ الكتيب، وفي مقالٍ آخر له حمل عنوان "ثلاثون عامًا على "اتفاقية أوسلو": ماذا أراد رابين؟"، أن يتسحاق رابين الذي اغتيل في عام 1995، لِـ(تفريطه ومدّ يده للأعداء)، لم يكن في وارده ولا مرّة (التفريط) بأي شبرٍ من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في يونيو/ حزيران 1967، ويكتفي لكشف هذه الحقيقة (المفجعة) بترجمة خطاب رابين أمام الهيئة العامة للكنيست في جلسة التصويت على الاتفاق الإسرائيلي- الفلسطيني بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة يوم 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1995 ("اتفاق أوسلو ب"). فالخطاب وحده، ومن دون أي إضافة، أو تزويق، أو تهويل، يكشف كيف يفكرون، وأنهم ولا مرّة قد يتنازلون. ففي هذا الخطاب، كما يكشف عن نفسه، والذي ألقاه رابين في الكنيست قبل شهر واحد من اغتياله، يؤكّد "ضرورة استمرار السيطرة على أراضٍ من مناطق 1967"، التي عدها في الوقت نفسه، "أرصدة أمنية استراتيجية". وأعلن "رفضه الانسحاب إلى خطوط 4 يونيو/ حزيران 1967. وقال إن الفلسطينيين سيتمكنون من إدارة حياة مستقلة ضمن كيان خاص بهم، وبحسب قوله هذا الكيان سيكون أقل من دولة. كما افترض رابين أن المسؤولية العليا والعملية عن الأمن ستبقى في يد إسرائيل في كل الأراضي الواقعة غربي نهر الأردن. ورأى أن بقاء "القدس الموحدة" تحت سيادة دولة الاحتلال يُعدّ أمرًا ضروريًا"! ("ضفة ثالثة"، 14 سبتمبر/ أيلول 2023).
شُلحت يتطرّق في مقاله إلى افتتاحية صحيفة "هآرتس"، غداة كشف النقاب عن محضر جلسة الحكومة الإسرائيلية التي صادقت فيها على اتفاق أوسلو الأول ("اتفاق إعلان المبادئ"، المبرم عام 1993) والتي قالت فيها: "إن المحضر مثير للغاية بما غاب عنه وربما أكثر مما ورد فيه، فقد تم تجنّب التطرّق إلى الاحتلال الإسرائيلي، أو إلى حق الفلسطينيين في الحرية والاستقلال". وأضافت: "واضح من المحضر أن إسرائيل، حتى عندما كانت تتسلم مقاليد الحكم فيها الحكومة الأكثر يسارية في تاريخها، لم تكن تنوي الانسحاب من أراضي 1967، وأن تقيم فيها دولة فلسطينية. كما أن رابين نفسه عارض أي نقاش حول القدس، وشدّد وزراء حكومته على أهمية استمرار السيطرة على ’الأراضي العامة’، أو ’أراضي الدولة’ في الضفة الغربية (التي تمت تسميتها في وقت لاحق بـ "مناطق ج")، وذلك بهدف الاحتفاظ باحتياطي أراضٍ في سبيل توسعة المستوطنات. ووعد رابين بإقامة سلطة فلسطينية تعمل (من وجهة نظره) كمقاولٍ ثانويٍّ أمنيٍّ لدى الجيش الإسرائيلي وتحاول كبح صعود حركة ’حماس’، ولا شيء أكثر من ذلك!" (المقال المشار إليه أعلاه).
على كل حال، وبالعودة إلى كتيّب النّكبة وسيرورتها في وعيهم من الإنكارِ إلى الإقرارِ إلى التهديد بنكبة جديدة، فإن الباحث يقرّ في تقديمه بأن الأصوات الداعية للمراجعة والاعتراف لا تزال "قليلة جدًّا"، مستدركًا بأنها رغم قلّتها "شديدة الصفاء وبالغة الدلالة"، فهي تدعو في بعض تجلياتها إلى "التحرّر من العقيدة الصهيونية" (ص11)، إنها دعوة، يقول شُلحت، موجهة إلى "جهات تحاول إعادة إنتاج العقيدة الصهيونية عبر تجميل صورتها، في مواجهة آخر مظاهر التطرّف والتوحش، كما تنعكس في الوقت الراهن على سبيل المثال في الأراضي المحتلة منذ 1967 وفي القدس، وذلك على أساس الادعاء أن ما وقف وراءها هو حركة قومية علمانية سعت لتحرير اليهود من ظلم الشتات، منطلقة من علمنة الديانة اليهودية، ضمن أمور أخرى" (ص 11). وهو يخلص، بعد مروره على هذه الأصوات (القليلة ولكن المهمة)، إلى استنتاجيْن متّصليْن: "الأول: أن العقيدة الصهيونية لم تُلطّخ تحت وطأة الاحتلال في عام 1967 فقط، بل ولدت ملّطخة في الأصل، وأن احتلال ذلك العام هو استمرار مباشر للنّكبة الفلسطينية في عام 1948؛ والثاني: أن الطريقة الوحيدة لإنهاءِ الكولونياليّة والأبَارتهايد هي النضال ضد إسرائيل وضد الصهيونية، وليس التحالف معهما من أجل ’تخفيف حدّة’ تطرفهُما أو ’صوْغ’ طابعهُما. وينطوي هذا الاستنتاج على رسالة موجهة بالأساس إلى من يصِفون أنفسهم بأنهم ’يسار صهيوني’ فحواها أن لفظتي اليسار والصهيونية أوكسيمورون فاقع!" (ص 12).
"من الأصوات الأكثر صفاء"، التي يعثر عليها شُلحت، ويمنحنا فرصة التعرّف عليها، "صوتا الأكاديمييْن نيف غوردون، وعيدان لنداو، وكلاهما من جامعة بئر السبع"؛ فالأول كتب بصريح العبارة أن الفكرة الصهيونية هي رديف التهويد، ونقيض الحرية والمواطنة المتساوية. وجزم بأنه حان الوقت للانفصال عن الصهيونية والتمسك بكل قوة بالأيدِيولوجيا التي تدفع بالمساواة قدمًا، وشدّد على أنه لا ينبغي بالمرء أن يكون راديكاليًا حتى يصل إلى مثل هذه الخلاصة، بل يكفي أن يكون ليبراليًا مستقيمًا وعادلًا. أمّا لنداو فأكد أن "الأبارتهايد الإسرائيلي"، كما يصفه، هو "جزءٌ حيٌّ منّا، من تكوينِنا. وليس فقط أن لِغالبية الإسرائيليين حصّة فيه ودورًا، وإنما هي تستفيد منه أيضًا"! ولذا فـ "من الصعب التجنّد ضده، لأن النضال ضده يعني، في الوقت ذاته، النضال ضد مجتمعك، ضد أقاربك، وأحيانًا كثيرة ـ ضد نفسك أنت، أو ضد أجزاء من شخصيتك"!" (ص 14).
إقرارٌ وقح وتهديدٌ ضروس
بعد المقدمة، يضعنا الكتيّب في حيثيات المقالات المختارة لنشرها داخل صفحاته، وهي "نماذج من مقالات كتبها أشخاص، أو كتّاب رأي من شتى أطياف اليمين في إسرائيل، فضلًا عن تحليلٍ جديدٍ من وجهة نظر سوسيولوجية لأستاذة جامعية إسرائيلية متخصصة في دراسات الذاكرة والمصالحة حول آخر المقاربات المتعلّقة بالنكبة في السياق الإسرائيلي، إلى جانب نماذج من مقالات جديدة تقرأ الغايات الكامنة من وراء استمرار سياسة الكذب المتفق عليه بالنسبة إلى النكبة، وغايات اليمين في إسرائيل من وراء الكلام حول النكبة" (ص 14).
يضم الكتيّب، إلى ذلك، ملحقًا يتوقّف عند "الجهود التي قام بها أول رئيس حكومة في إسرائيل، دافيد بن غوريون، من أجل أن يزيح عن كاهل الدولة أي مسؤولية عن عمليات طرد الفلسطينيين من بيوتهم خلال النكبة، وكيف أدى الضغط الذي مارسه الأميركيون من أجل إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى قيامه بتلفيق بحث يظهر كما لو أنه أكاديميّ يروي للعالم أن الفلسطينيين نزحوا طوعًا عن بلدهِم ولم يتعرضوا إلى التهجير بما من شأنه أن يؤول إلى الاعتقاد بأن النكبة هي مُجرّد كذبة أو هراء. وبالإمكان أن نعد أن سلوك بن غوريون هذا مهّد الأرضية أمام اليمين الإسرائيلي لتبنّي هذه السردية وترويجها قبل أن يقرّ قراره على الكفّ عن إنكارها والتهديد بتكرارها" (ص 15).
ولعلّني، هنا، سأتحمّل، وحدي، مسؤولية عدم مناقشة المقالات الواردة في الكتيّب، ولا ذِكْرِ أسماء كتّابها، مكتفيًا بالقول إنها في أحسن أحوالها تتضمّن اعترافًا خجولًا لا يتردّد، مع ذلك، في استخدام مصطلح "حرب الاستقلال" عند الحديث عن نكبتنا، من دون أن ننكر، للإنصاف، أن مقال الصحافي البريطاني جونَثان كوك الذي يحمل عنوان "إسرائيل مستمرة بلا هوادة في انتهاج ’سياسة النكبة’!"، احتشد، بعناوينه جميعها، بوصفه شهادةً شجاعة، وكلمة حق في وجه كل هذا الظلم، علمًا أن كوك المتخصص بالشأن الفلسطيني أقام في الناصرة لمدة 20 عامًا، وبالتالي تحمل آراءه أهمية خاصة، كما لو أن موقفه يمثّل رؤية أبحرت بعمق داخل مفردات الكيان وتفاصيله. كوك لا يتردد في مقاله الطويل (من صفحة 33 إلى صفحة 40) بذكر الأسماء بمسمياتها: "عملية المكنسة"، أي "تنظيف" المناطق و"تدمير مئات القرى الفلسطينية بمجرد أن طرد الجنود الصهاينة سكانها منها، وكان الهدف عدم السماح لهم بتاتًا بالعودة إليها" (ص 36).
كما لا يتردد بربط الصهاينة بعشرات العمليات الإرهابية في "عهد الإرهاب"، ملقيًا الضوء على عشرات المذابح، منها، على سبيل المثال لا الحصر، مذبحة الدوايمة: "في واحدة من أبشع هذه المذابح، قام الجيش الإسرائيلي بإعدام 170 رجلًا وامرأة وطفلًا قريبًا من مدينة الخليل. كما أصيب في تلك الأثناء المئات من الفلسطينيين بجروح رغم أنهم لم يبدوا أي مقاومة" (ص 36)، متحدثًا عن "لغة استئصالية" شائعة بين أوساط الإسرائيليين جميعهم: "يستخدم المسؤولون الإسرائيليون بشكل منتظم لغة من النوع الاستئصالي، ومن ذلك ما صدر عن الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، موشيه يعالون، الذي شبّه التهديد الذي يشكله الفلسطينيون بـ’السرطان الذي لا مفر من استئصاله ومحاربته حتى النهاية’. كما صنفت وزيرة الداخلية الإسرائيلية السابقة، أييلت شاكيد، جميع الفلسطينيين باعتبارهم ’محاربين معادين’، وهو مصطلح يفيد بأنهم أهداف عسكرية مشروعة. وتحدثت عن الفلسطينيين الذين يقاتلون ضد الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ عقود باعتبارهم ’ثعابين’، وأشارت إلى أن عائلاتهم بأكملها يمكن أن تُباد، بمن في ذلك أمهاتهم، وإلا فإن ’ثعابين صغيرة أخرى سوف تنشأ وتترعرع ههنا’" (ص 38).
يقول كوك في هذا الجزء من مقاله "إن الحاخامات في إسرائيل أكثر صراحة. ولقد ألّف اثنان منهم كراسًا مثيرًا بعنوان ’توراة الملك’، يثبتان فيه أن قتل الفلسطينيين مُباح، بما في ذلك الرضّع منهم"، لأنه "من الواضح أنهم حين يكبرون فسوف يضرّوننا". ومع ذلك فـ "إن أيًّا منهما لم يتعرّض إلى مساءلة، أو محاسبة" (ص 38).
أما أخطر إيماءات مقال كوك فهو ما يحمل عنوان "لم تُنجزْ المَهمّة" الذي يشير صراحة إلى ندم الإسرائيليين من أطياف عديدة، على عدم قتل، أو طرد الفلسطينيين جميعهم، إبان (حرب الاستقلال)!! وبالتالي فكثير منهم اليوم، يسار ويمين ووسط، يهدّدون، من دون مواربة، باستكمالِ ما لم ينجزه بن غوريون على أكمل وجه من خلال النكبة!!!
- عنوان الكتاب: من الإنكار إلى التهديد بنكبة جديدة: عن مستجدات مقاربة النكبة الفلسطينية في الحيز العام الإسرائيلي
- المؤلف: أنطوان شلحت