أسامة فاروسي
25 نوفمبر 2015
العبقرية والجنون: هل هناك ارتباط فعلي بين الظاهرتين؟!
أوقعتنا الكثير من الروايات والأفلام في تعميم فكرة العالِم المجنون، أو ارتباط العبقرية بالاضطرابات العقلية والغرابة في التفكير، وشاعت هذه الفكرة لدى الكثيرين، لأنهم ربطوها مع الواقع فوجدوا كثيراً من النماذج أمثال أولئك العباقرة الذين يجلسون دوماً في الصفوف الأمامية من مقاعد الدراسة، يرتدون نظاراتهم ولا يهتمون بمظهرهم، يجلسون وحدهم في الحفلات والمناسبات العامة، فالتفاعل مع الوسط الاجتماعي ليس من الأمور التي يحبون القيام بها، لا يحسنون التصرف في جل المواقف الاجتماعية التي يتعرضون لها وكأنَّ لهم قواعد خاصة في التعامل مع الناس فلا يعيرون اهتماماً لما قد يظنه البعض عنهم، لأنهم يتعاملون مع الجميع وفق ما يظنونه صحيحاً، بينما يكون في الواقع شديد الغرابة للكثيرين ولا يمت للتصرف الاجتماعي السليم بصلة.
تجد هذا النوع من الأشخاص مهووس بعمله، لا يتخيل حياته بدونه، يخاف العلاقات الاجتماعية، وغالباً ما يقوم بتصرفات غريبة وأفعال غير مألوفة لدى معظم الناس، لكنه في الواقع يسرح في عالم مليء بالأفكار العظيمة الخلاقة التي انتشلت البشرية في معظم الأحيان من أسوأ لحظاتها، ورفعت حضارات شامخة في وقت كانت فيه مهددة بالانقراض، فكيف صدرت هذه المنجزات العظيمة عن أشخاص حسبنا أنهم مجانين لا يتمتعون بحالة عقلية سليمة؟؟!
هذا ما أريد أن أجيبكم عنه، ولعله سؤال قد دار في ذهنكم كثيراً دون أن تجدوا له تفسيراً مقنعاً لشدة غرابته..
إنه غريب بالفعل، فكيف اجتمعت النعمة مع النقمة؟ وغرابة الأطوار أو الحالة النفسية المزرية مع العبقرية؟
إذا عدنا للتاريخ..
وجدنا كثيراً من الأمثلة التي تؤكد ارتباط الاضطرابات العقلية مع النشاط الذهني الفريد والإبداع، فأحد أهم هذه الأمثلة العالم الشهير إسحاق نيوتن مكتشف الجاذبية ومخترع التلسكوب الذي قفز بالفيزياء قفزة نوعية، فقد كان يعاني من انفصام في الشخصية (شيزوفرينيا) والعديد من الاضطرابات الأخرى، فمثلاً كان يكتب الكثير من الرسائل المليئة بكلام غريب غير مفهوم، وهو ما يعد طبياً من العلامات التي تدل على اضطراب عقلي شديد.
كذلك الأمر مع الكثيرين أمثال عالم الرياضيات جون ناش، الموسيقي الفذ بيتهوفن، الرئيس الأمريكي السابق لينكولين، الرسامان الشهيران مايكل أنجلو وفيسنت فان جوخ، وغيرهم كثير…
أجد نفسي مجنوناً عندما أصنف هؤلاء العظماء الذين أصبحت أعمالهم وأقوالهم قدوة يحتذى بها بين المضطربين عقلياً، لكن هذه هيالحقيقة حسب ما أكدته الدراسات:
وللتأكد من ذلك..
صدرت دراسة عام 2010 تمت على 700,000 مراهق سويدي بأعمار لا تتجاوز 16 سنة، ووجدت احتمالاً كبيراً للإصابة بالاضطراب العقلي المسمى (ثنائي القطب) Bipolar disorder لدى المراهقين ذوي القدرات العقلية العالية خلال عقد من الزمن، وهذا يفوق احتمال إصابة أقرانهم ذوي القدرات العقلية الأدنى أربع مرات!
اضطراب ثنائي القطب يتمثل بتأرجح في المزاج ما بين السعادة الشديدة، والكآبة المفرطة، ووجد الباحثون أن الأفكار العظيمة البناءة تظهر لدى مثل هؤلاء الأشخاص عند الفترة التي يخرجون فيها من الكآبة المفرطة، ويفسر هذا بشكل أساسي بالارتباط بين دارات الدماغ المسؤولة عن الإبداع وتلك الأخرى المسؤولة عن الظواهر المرضيّة أو تأرجح المزاج.
بحثاً عن التفسير..
أشارت أغلب الظنون التي حاولت تفسير مثل هذه الظاهرة أن المصابين بمثل هذه الاضطرابات العقلية لا “يصنفون” الأحاسيس في أدمغتهم كما يحدث لدى الشخص العادي، أي أنهم لا يأخذون مجمل الفكرة ليعطوا جواباً أو رداً إجمالياً، وإنما يتناولون كل التفاصيل التي قد تخطر أو لا تخطر على بالك، ويعود هذا لمشكلة في المهاد، المسؤول الأول عن تلقي الأحاسيس وتصنيفها بين هام وثانوي، فعند اضطراب وظيفته يستقبل الدماغ جميع الواردات الحسية ويحللها حتى أبسط الأمور.
لذلك تصدر عن هؤلاء الأشخاص في بعض الأحيان أفكار عميقة لا يلاحظها الشخص العادي لأنَّ دماغه معتاد على تجاهل الكثير من الأحاسيس دون إدخالها مرحلة الوعي، باختصار نستطيع القول أنهم يتمتعون بحساسية عالية، فأبسط الأفكار قد تثير في أدمغتهم عواصف من الإبداع والانفعالات والارتباطات المختلفة.
وكمثال على هذه القدرات، إذا طلبنا من شخص يعاني القليل من هذا الاضطراب أن يذكر لنا ما يخطر في باله من كلمات لها ارتباط مع كلمة معينة كــ(زهرة)، فإنه يستطيع ذكر ثلاثة أضعاف ما يذكره الشخص العادي من كلمات، مما يبين بوضوح قدرته الفذة على ربط الأشياء ببعضها وفهم العلاقات المعقدة بين الحوادث أو غيرها، وهو ما يمكن أن يكون تعريفاً للعبقرية التي أعتبرها –حسب وجهة نظري– قدرة غير مألوفة على ربط وفهم العلاقات المختلفة ومن ثم الحصول على نتائج غير مسبوقة.
لا تنسَ عزيزي القارئ أن هذا ليس قاعدة عامة، كل ذلك يندرج ضمن قائمة الاحتمالات، ولا شك أنك رأيت في حياتك الكثير من العباقرة الذين لا يعانون أي مشاكل مما ذكرت.
ناحية أخرى..
بالمقابل هناك دراسات تدخل في مجرى آخر، لتربط ما بين الكآبة (التي تعد إحدى الاضطرابات العقلية) ومستوى الـ IQ المنخفض، حيث تبين أن الأشخاص الذين يتمتعون بقدرات عقلية عالية أكثر سعادة ورضا في حياتهم من نظرائهم ذوي القدرات المنخفضة، حيث أن معدل الـ IQ يؤثر بالطبع على التحصيل العلمي لكلٍّ منا، ويقيم كفاءة عملنا، حيث تبين أن نشاط الفص الدماغي الجبهي المسؤول عن العمليات الدماغية المعقدة وجودة الأداء التنفيذي للشخص يكون منخفضاً لدى هؤلاء الذين يعانون الكآبة، وبناء عليه تنخفض انتاجيتهم في المجتمع ويصبحون في كثير من الأحيان عاطلين عن العمل، مما يمنع من قدرتهم على متابعة حياتهم مع عائلاتهم، وتتقطع العلاقات الاجتماعية لديهم، دخلهم منخفض، وحياتهم فوضى، إذاً لديهم الكثير من الأسباب التي قد تدفعهم للاكتئاب.
لا تزال الأبحاث بهذا الشأن متواصلة ولم نستطع حتى الآن الوصول إلى جواب نهائي، فالدماغ البشري شديد التعقيد، ومتفرع الحالات، لكنني قدمت إليكم آخر ما استطاعت الأبحاث الوصول إليه وتفسيره، وبغض النظر عن وجود ارتباط بين العبقرية والجنون أو عدم وجوده، فإن هذه الحقائق يجب أن تبث فينا الوعي إلى أن هؤلاء العباقرة الذين لا تحبون الاختلاط بهم لا شأن لهم فيما أصبحت عليه شخصيتهم، فهذا ما يحصل داخل رؤوسهم دون إرادة منهم.