بغداد عبر التأريخ
بغداد الف ليلة وليلة (لوحة ايطالية عالمية)
"بلدة طيبة ورب غفور"
هكذا اقترن أسمها بذلك القبس من القرآن الكريم ، فلم يرقَ إسم حاضرة إسلامية مثلما تبوأته بغداد، ومن دلالها كثرت أسمائها ، فقد نعتت بدار السلام و كنيت بالزوراء ، وأطلق عليها مدينة المنصور وتغزل وقيل عنها (سرة الدنيا) أو (أم الدنيا).
وصفوها في ايام عزها أنها اقتطعت من الخلد خضرتها وبساتينها وماءها ورخائها،فها هي دجلة تسقيها من حليب الفردوس ومن الفرات خمرها. وتسامت حتى وطأت الإعجاز وتكافأت مع أسم بابل العظيمة ، حتى أمتزج الأمر لدى الأوربيين بتوارد التسميات لردح من الزمان. وكان رديفها القسنطينينية التى كنوها فيما بعد كوصيفة لها (بغداد البسفور) ، كما ذكر ذلك المستشرق الالماني نولدكه. وقد حاولت قرطبة وفاس والقيروان والقاهرة وأصفهان المنافسة فارتقين الى الذروة ولكن دونها منزلة.
لقد كسبت الدنيا والدين برجالاتها الأعلام ، وسيان الحال في حياتهم أو بعد لحدهم ، حيث مازالت أسماؤهم تصدح ومجدهم يصول ، حتى تخال الدنيا بهم ومنهم فها هو الإمام موسى الكاظم إبن جعفر الصادق وهاهو الإمام أبو حنيفه صاحب مذهب أهل العراق..وهاهم صوفيتها من الحلاج الى الجنيد والسهروردي وعبدالقادر الكيلاني ومعروف الكرخي الذي رفض هجرها، بإيمان مطلق منه أن مدينة تحوي رفات هذا الكم من الصالحين لايمكن أن تموت.
اختار موقع بغداد الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور ،عاصمة لدولته على بطحاء من الارض عند اعوجاج نهر دجلة عند التقائه مع نهر الصراة ودار حولها نهر كرخايا. لقد ورد في وصف المنصور بانه كان نحيفا اسمر اللون خفيف العارضين ذا صلابة وشدة، وكانت امه وزوجته من بربر شمال أفريقيا، ويقال بالتحديد من القيروان. وقد بنى بغداد بعد ان ضاق ذرعا في الهاشمية التي أبتناها على مقربة من الكوفة بعد قلاقل الراوندية والزنادقة فيها.اما السبب غير المعلن فهو رغبة من العباسيين في التملص من العهود التي قطعوها امام اولاد عمومهم من العلويين ومناصريهم التي تعج بهم المدينة و الإقليم. وان يمسو هؤلاء سوسة قلاقل ومفسدة لاتباعهم وعامتهم والخشية من التأثير على قناعات خاصتهم. فأثروا الرحيل واختاروا هذا الموقع القريب من (المدائن) العراقية ومن ضمن نطاق (براثا) الآرامية.
وتماشيا مع وضع الدولة الإسلامية حينما وطأت الذروة، فقد اريد لبغداد أن تكون استثنائية في كل شئ؛ الصفة و الموقع و التصميم والملكة. و تواشجت تلك الغايات مع الاسطورة وخوارق الروحانيات والفلك والطالع.حيث أريد لها موقعا وسطا بين البلدان، موحيا بوسطية الدين مستوحيا من قوله تعالى (كذلك جعلناكم أمة وسطا).وقد اختير لها شكل دائري رامز للوسطية والقسطاس.
ومن الجدير ذكره أن للتدوير شجونا متجذرة في الرمزية وروحانيات الأشكال الموروثة في العقلية المحلية والمجاورة ولاسيما الآسيوية. فقد ذكر لنا حماد التركي (بنى المنصور المدينة مدورة لأن لها معان ليست للمربعة وذلك ان المربعة إذا كان الملك في وسطها كان بعضه اقرب اليه من بعض والمدورة كان امرها الى وسطها مستوياً لايزيد بعضه على بعض). وغير ذلك للشكل المدور وضع ممركز، ومغازٍ هيكلية ووظيفية للبناء، ناهيكم عن المغزى الإقتصادي للمساحة. وهنا نذكر بأن الارض المدورة تكون أصغر من المربعة المساوية لها بنسبة 11،37%.
والمدن المدورة سّنة عمرانية عراقية موروثة ، وردت ربما بسبب تسطيح ارضها الذي يسمح برسم الدائرة على مبسوط أرضها. و على خلاف ذلك نجد في مدن مصر ذات الشكل الشريطى الطولى الذي كرسته سجية وادي النيل الضيقة. وثمة نقوش آشورية تمثل المعسكرات المدورة ذات الطرق والمداخل المحورية التي أنشات في زمن سلمناصار الثالث (858-824 ق.م) وسنكيريو في نينوى (705-687 ق.م) ناهيك عما كان ملموساً في مدينة سنجرلي (القرن الثاني قبل الميلاد) الموجودة شمال الموصل ومدينة أشور جنوبها ومدينة الحضر (من القرن الاول الميلادي) جنوب غربها وكذلك حران شمال الجزيرة والمدائن القريبة من بغداد(25كم جنوبها) ،اما في التمصير الاسلامي، فدوران الكوفة ثم واسط ليس إلا تكريسا للمبدأ العمراني الموروث نفسه والذي استرسل إسلاميا في الامصار اللاحقة.
وذكر البعض أن تأسيس المدينة تعلق بروحانية الاعداد وسحرها كما ذكر ذلك (ف.أندرس) ، أو بالتنجيم والطالع كما ذكر لنا البيروني في كتابه الاثار الباقية ، حيث ورد إن العمل في الإنشاء ابتدأ يوم الثلاثاء 23- تموزعام 1074 للأسكندر (25- ربيع الثاني عام 145هجري أو عام 761م وان نوبخت المنجم الفارسي وكذلك ابراهيم بن محمد الغزاوي كانا قد توليا اختيار الوقت المناسب بما يناسب هيئة النجوم والأبراج ،ثم شرع بالعمل. وذكر اليعقوبي مقولة ابي جعفر المنصور عند وضعه الأساس: (بسم الله والارض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين..ابنوا على بركة الله).
وفي اختيار موضع بغداد من ابي جعفر دلالات في إعتدال الجو بعدما ترعرع في الشام وفارس المعتدلتين حراريا. فهواء بغداد العليل كان مضرب الامثال. و مما يثير الحيرة في نفوسنا اليوم، ان درجات الحرارة في بغداد - خاصة في فصل الصيف - اصبحت لا تطاق. الأمر الذي يعني ان تغيرا ما طرأ على وضع بغداد البيئي . ويمكن أن يكون ذلك مرده إختفاء المساحات الخضراء و المسطحات المائية التي كانت بغداد عامرة بها في السابق ،حيث طوقت بغداد شبكة من الانهار، منها نهر عيسى القادم من الفرات جنوبي الانبار، ويتفرع منه نهر الصراة، ثم نهر صرصر القادم من فوق المدائن على دجلة ، ونهر (الملك) الذي يصب جنوبي المدائن ، ثم الى الجنوب نهر (كوثي) ونهر (الصراة الكبرى) ، وغير ذلك من السواقي الرابطة التي ذكرها ياقوت الحموي في (معجم البلدان) ، ولعل هذه الشبكة هي التي أدت الى توازن بيئي، واسهمت في تنشيط حركة الهواء في اجزاء المنطقة، وكان ذلك من مناقب اختيار المنصور لموقع عاصمته.
وكان لبغداد اسماء عديدة اختلف الباحثون في مرجعيتها فالاسم بغداد ذكره ياقوت الحموي في معجمه بأنه مشتق من جذور فارسية بصيغة (باغ- داد) وتعني بستانا لشخص يدعى داد ولكن الحفريات الحديثة اوصلتنا لمعنى آخر اقدم كثيراً جاء منقوشا على رقم بابلي طيني تذكرها بالاسم الارامى (بكددوا) او (بغددوا) وما يمكن ان يؤكد ذلك كون جل المواقع القريبة تحمل اسماء ارامية مثل: براثا وكلواذه (الكراده)وبعقوبة وكوثى وبدره وبتدين وباكفيا. وتفسير اسمها الارامي يمكن ان يكون مصدره الكلمة المركبة (بيت كداد) التي تعني بيت القطيع او بيت الغنم او الحظيرة او ربما معنى مجازي يعني المرعى وهى اقرب الى واقع الحال. وتكتفي عادة الصيغ الآرامية المركبة باقتضاب الباء من كلمة بيت كما هو وارد في اسم بتدين أي بيت الدين وبكفيا أي بيت الصخرة وبعقوبة أي بيت العقوبة او السجن أو الحجز وبصرياثا (البصرة) وتعني بيت الاكواخ او ما يطلقون عليه في العامية العراقية (صرايف) والتي عربت حتما من (صرياث). ومما يؤكد هذا المنحى لاسم بغداد هو ما اكده الطبري في تأريخه بقوله : (وكان في قرن الصراة مما يلي قصر الخلد في الجانب الشرقي لبغداد قرية ودير كبير تسمى سوق البقر) ولكن المسعودي ذكره بان اسمه سوق الغنم.
ما اسمها دار السلام فربما يكون مقتبسا من اسم دجلة نهر السلام ونهر اللبن في انهار الجنة وتيمنا بقوله تعالى لهم دار السلام عند ربهم ، وهو وليهم بما كانوا يعملون) (سورة يونس الآية 25) او قوله تعالى : (والله يدعوا الى دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) (سورة الانعام الآية 127). وكان هذا الاسم يخص المدينة المدورة قبل توسعها اللاحق. اما اسم الزوراء فكما ذكرنا بسبب ازورار قبلة مسجدها الجامع او ربما ازورار نهر دجلة وانعطافه المفاجئ نحو الغرب عند موضع بغداد.
ومن وحي الاسماء والغيبيات وتفسيراتها نذكر نادرة اسم (مقلاص) الذي ذكرته الاساطير في امتلاك او بناء ارض مدينة بغداد والذي اكده ابو جعفر بأنه هو المقصود فعلا فقد كانوا يطلقون عليه اسم مقلاص في طفولته بسبب دلاله ونزقه وعناده ومن الجدير ذكره بأن نفس التعبير مازال ماكثا في لهجات عربية مثلا اهل العراق يقولون لمن يتدلل (يتمقلج) او ما يقولوه في الغرب العربي (مقلش).
وخضع بناء المدينة وتطورها منذ تأسيسها حتى اليوم لخمس مراحل من التطور هي الآتية :
المرحلة الأولى (المدينة المدورة)
انطلقت الحركة الدؤوبة في ورشة بناء بغداد بمئة الف عامل يشرف عليهم وعلى مطابقة التنفيذ بالخطة مجموعة من المهندسين واساطين الحرفة منهم الحجاج ابن أرطأه كمعمار وبمساعدة أربعة معماريين: هم عبدالله بن محرز وعمران بن الوضاح وشهاب بن كثير وبشر بن ميمون الذي ذكره البلاذرى بأن عهد اليه ببناء الطاقات عند باب الشام. وقد اشرف على ادارة الشؤون المالية وتخمين الجدوى الفقيه الاعظم ابوحنيفة النعمان (رض)، الذي كان قد استحدث طريقة رياضية سبق له ان استعملها في بناء مدينة واسط ، وذلك بحساب عدد مداميك الآجر بواسطة قصبة مدرجة ليتسنى له عند ضربها مع معامل حجم الاجر الى حساب كمية العمل المنجز والتي يصرف على ضوئها أجرة البناء. ومن مآسي القدر أن يموت هذا الرجل الصالح عام 767م في احدى قبوات المدينة عمل في بنائها وأحبها وفقه الناس فيها ، حيث مات حبيسا لابو جعفر وضحية لمبدأ أخلاقي لم يحيد عنه.
أما اسقاط المخطط على الطبيعة فقد ثبته الفلكيون، ثم تلاه نثر الرماد على قطر الدائرة ووضع فوقها كرات من القطن مشبعة بالنفط وأحرقت لتترك اثرها بندب يستدل بها في حفر الأساسات للبناء. وقد استعمل مقياس الذراع واجزاءه حتى الشبر والاصابع بما يدعو بالقياس البلدي حتى اليوم كنظام لمودول القياسات ، وقد قدر المستشرق الأنكليزي كريزول مقدار الذراع ب 51،8 سم ويحسب للسهولة عادة بمقدار نصف متر . أما الخطوط الشعاعية للبناء المتجهة نحو المركز والتي تحصر بينها أشكال أسفينية لاتلاحظ بالنظر لسعة قطر الدائرة. وعلى العموم فإن قطر المخطط إجمالا قدر بـ 2710 متر.
وقد استعمل نظام الفرق العاملة بالتوازي في الإنجاز وشرع أولاً في بناء القصر وعلى تخومه المسجد الجامع ، أما الاسوار والارباض فقد قسمت الى أربع قواطع يشرف على كل منها أحد المهندسين .وأحتل مركز الدائرة القبة الخضراء التي تغطي قلب قصر الخليفة المدعو قصر باب الذهب والمغطي لقاعته المركزية التي يتناظر من حولها في الاتجاهات الاربعة أربعة أيوانات على مثل حال قصر ابو مسلم الخراساني في مرو الواقعة في آسيا الوسطى . وابعاد القصر كانت 200 م مربع وارتفاع القبة كان يسمو الى 40م أما المسجد المحاذي للقصر من جهة القبلة فأبعاده 100 م مربع .
ويطوق البناء خندق مائي عرضه 6م ينهل ماؤه من نهر كرخايا وبغرض المعالجة لحالة التاثيرات المائية على السور فقد استعمل في الاساس نوع من الملاط خليط النورة والرمل مع الرماد الذي يكسبه خاصية المقاومة المائية. وكان البناء يشتمل على ثلاثة أسوار متتابعة وكان الوسطاني أضخمها واكثرها سمكا وارتفاعاً وتعلوه القبب فوق الطاقات التالية للمداخل الذي يكرس حالة دفاعية ناهيكم عن معالجة بصرية جمالية. ويحيط بكل سور فيصل فارغ من البناء يدور حولها ويساعد في حركة الحرس الدائرية.
وكان للمدينة اربعة ابواب باسماء البلدان المتجهة اليها وهي الشام والكوفة والبصرة وخراسان والمداخل من النوع المنكسر لغرض الحماية وتعلو كل مدخل قبة باسقة لغرض الاستدلال على المدخل من بعد. وكان للسور هدفين احداها عسكري والثاني لغرض السيطرة على سكان المدينة.اما من الناحية الرمزية فانه فأصل صريح بين المدينة والحقل المفتوح الذي يحيطها والريف والذي ينعكس نفسيا في أطمئنان النفوس والشعور بالامان لسكانها.كذلك يمكن ان يدل علىة نزعة إستبدادية ويجسد هيئة حصن منيع تهب السلطان الامان على ملكه ضاما إليه صفوة شعبه ومصدر ثقته.
أما المرافق السكنية والخدمية للعامة فتقع بين السورين الاوسط والداخلى وقد خطت على شكل ارباض قاطعية الشكل تحوي ديارا من طابق واحد حتى ثلاث طوابق تحيط بحوش سمائي على الطراز العراقي الموروث منذ القدم. أما مايلي السور الداخلي حتى أسوار قصر الخليفة والمسجد الجامع فياتي تباعاا من الخارج قصور الامراء ورجالات الدولة ثم دواوين ومطبخ العامة الذي يتبعه قصور أولاد الخليفة وخاصته.
لقد كان للطين حضورة في بناء المدينة ، حيث استعمل على صيغتين ؛ اولها الطوب المصبوب في قوالب والمجفف تحت وهج الشمس والمسمى (الطوب الاخضر المتكون من الطين والتبن). وقد استعمل في بناء الاسوار والاجسام نصف السطوانية الساندة له من الخارج وكذلك الحيطان الساندة لأجزاء البناء الاخرى. اما النوع الثاني فقد كان الآجر المفخور(الطابوق) ، والذي كان يستعمل في بناء العقود والطوق والقبوات وكذلك القباب ويوجد نوع من الطوب المحروق الذي يستعمل عادة في تنفيذ الاساسات لمقاومته نفاذية الماء.
وتكمن الحذاقة المعمارية هنا في إختصار استعمال الخشب الى الحد الادنى في التسقيف و السقالات والقوالب الموضوعة لعناصر التسقيف الانشائية ولا سيما في القبوات. ومن المؤكد استعملت سنة بنائية عراقية تعتمد على إتكاء الطاق على حائط ثالث واصل بين الحائطين الأساسيين الساندين ، كما هي الحال في طاق المدائن(طاق كسرى) . وهنا تستثمر حالة (الشك) أو الجفاف السريع لخامة الجص العراقي بأقصى مايكون، وهذه الخاصية مازالت شائعة حتى اليوم. وقد استعمل الخشب كذلك في الاساطين (الدلكات) في حرم المسجد واروقته والمساحات المفتوحة وكانت تعمل عادة من قطعتين معقبتين بالعتب والغرى وضبات الحديد.وهذه الطريقة توارثوها اهل بغداد حتى العمائر الاخيرة. واستعمل في حينها التاج الناقوسي وهو ماكان شائع في تلك الفترة مثلما وجدناه في سامراء. اما التيجان المقرنصة فقد ظهرت في حقبة لاحقة . واستعمل الخشب كذلك في التسقيف بطريقة الجسور الخشبية على بحور محددة والمعقودة بالاجر فيما بينها او جسور اولية مغطاة بجريد النخيل بعدة طبقات منتهية بلياسة طينية للحماية. أما مايتعلق باللمسات الفنية واعمال النهو فاستعمل الجص البسيط والمعالج بالالوان والرسوم والطلائات (الفريسكو) او المنقوش بواسطة الحفر المشطوف.
المرحلة الثانية (الأنتقال الى الرصافة)
توفي ابو جعفر المنصور في يوم 7 تشرين الاول (اكتوبر) عام775، بعد تسع سنوات من مكوثه في بغداد التي استغرق بناؤها خمسة اعوام . وخلفه ابنه المهدي حتى عام 785م ، حين بدأ الضيق يبدو على المدينة وارباضها ، وأقيمت حولها الأسواق وبعض الدور العشوائية.وهكذا أضطر الى بناء قصرا له في الرصافة على الجانب الآخر من دجلة متحاشيا الزحمة ، ثم تلاها انتقال العامة حولها. المشكلة تكمن في أن بغداد المدورة مدينة غير قابلة للاتساع محدود وثابت المساحة والهيكل.
ثم أتى موسى الهادي بعد والده المهدي ، لعام واحد ، ليخلفه اخوه هارون الملقب بالرشيد (787-809م) الذي انفجر بزمانه مجد بغداد وابهتها ، فذكرها الخطيب بقوله : (لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلاله قدرها وفخامة امرها وعظم اقطارها وسعة اطرادها وكثرة دورها ومنازلها ودروبها وشعوبها ومحالها واسواقها وسككها وازقتها ومساجدها وحماماتها وخاناتها وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وافيائها واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها. ولم تصمد المدينة المدورة لعوادي الزمن بسبب انتقال الخلفاء الى قصورهم خارجها وانتقال العامة عنها والاهمال الذي سبب الخراب لها ، و زاده فيضان نهر دجلة، وعدم مقاومة الاسوار بسبب بنيتها الطينية غير المقاومة للماء بالرغم من وجود الهياكل الاستنادية نصف الإسطوانية على سورها الخارجي . ويبقى من اهم عوامل خرابها الصراعات السياسية وحروب الاخوين الامين والمأمون لا سيما حصار ابن طاهر قائد جيوش المامون لها عام 814 م وضربها بالمنجنيق. ومما زاد الطين بلة الاهمال الذي اصابها عند انتقال العاصمة الى سامراء لمدة 58 عاما على يد المعتصم عام 835. وفي عام 941 تهدم قصر الذهب بسبب الاهمال ، وسبقه الخراب الذي خلفته ثورة المساجين على الخليفة المقتدر عام 919، وتكسيرهم لأبواب المدينة ، ثم فيضان دجلة المهول عام942، الذي ذكره المقدسي في تأريخه ، و ادى الى سقوط الطاقات. ثم حدث أن اقتلع معز الدولة البويهي بيبانها الحديدية ، ونقلها لقصره في الشماسية(الأعظمية) عام 961 م. ويبقى وصف ابن بطوطة لمسجدها الذي زاره عام 1327 ذات دلالات ، بأنه مكث باقيا مقاوما لقرون بعد الخراب والإهمال.
وقد آثر الخلفاء العائدون من سامراء الاقامة في الرصافة وعندها ابتدأت المرحلة الثانية من اعمار بغداد، واشتهرت بقصورها ومساجدها ودور العلم فيها مثل قصور الجعفري والتاج والفردوس ودار الشجرة والسلام وقصر البرامكه وقصر الزندورد وقصر المعتصم. وكان للمدينة سور ومداخل سميت باسماء باب الظفرية وباب الحلبة (الباب الوسطاني) الذي بقي وحيدا في الوقت الحاضر ، وباب الطلسم الذي شيده الخليقة الناصر لدين الله وفجره الأتراك قبل إنساحبهم من بغداد عام 1918. وامتد العمران للكرخ على الجانب المجاور للمدينة المدورة وربطت الجهتين بجسور ثلاثة ، وحينئذ انتقل اسم بغداد من المدينة المدورة الى جانبي النهر في الكرخ والرصافة الذي ما زال حتى يومنا هذا. وجدير بالذكر ان اسم الكرخ يحتمل وروده من اصل فارسي بمعنى الدار وآرامي بمعنى القلعة.
المرحلة الثالثة (العد التنازلي)
بدأت معاناة بغداد الحقيقية عندما تدخل في شأنها البويهيون الفرس تارة والسلاجقة الاتراك تارة اخرى، وكان لبغداد ان تشهد على ايديهم ثلاثة من خلفاء بني العباس يخلعون وتسمل عيونهم ويصبحون في احط درجات الحاجة وهم القاهر (934م) والمتقي (944م) وا لمستكفي (947م) ويعتبر المؤرخون ان الراضي (934-940م) هو خاتمة الخلفاء الاقوياء. وقد حاول الخليفة الناصر عام 1180 ان يتخلص من ربقة هؤلاء واعادة الهيبة لبغداد ولم يفلح كثيرا في مسعاه.
وإبان تلك المرحلة شاع بناء القصور البويهية وخاصة في منطقة الشماسية محاذية لشاطئ النهر (الكريعات اليوم). وقد ابتدأها عام 961 م أحمد بن ابي شجاع الملقب بمعز الدولة البويهي، الذي نقل الاجر على ظهر طوافات من سامراء واستغرقت ورشة البناء سبعة اعوام، حتى توفى ليدفن في احدى حجر القصر ، ثم نقل بعد حين الى باب التين في مقابر قريش في الكاظمية . وقد بنى أمراء البويهيين سلسلة من القصور في هذه المنطقة على اقصى درجة من الابهة والبذخ ثم تصافت وامتدت حتى وطأت طريق خراسان (ربما الجديدة و الرضوانية) وسمي هذا الحي (دار المملكة) والذي افل نجمها عند انقراض الدولة البويهية عام 1075م.ومن اهم البناءات المدنية كان المارستان (المشفى) العضدي الكبير الذي انشأه عضد الدولة عام 982م في الجانب الغربي من المدينة كما ذكره ابن جبير عام 1184م باأه بناءً مهيبا ثم وجده ابن بطوطة خرباً عام 1327م.
واستمرت تلك المرحلة من تأريخ بغداد عندما حل السلاجقة الاتراك واستحوذوا على امرها ولاسيما آلب ارسلان وولده ملك شاه. ولكن الحظوة والتصدر للسلطة فيها كان لوزيرهم الحاذق نظام الملك وهو صاحب المناقب في بناء المدارس النظامية، والتي بلغ عددها تسعة. ويعتقد ان باكورتها كانت في بغداد عام 1067م في موضع الى الامام من المدرسة المستنصرية اليوم بإتجاه شارع النهر وفي منتصف المسافة بين الجرف و شارع الرشيد. وكذلك في البصرة والموصل وامهات المدن في المنطقة وذلك لمبرر طائفي ؛ الا وهو محاربة التشيع الذي دعموه اسلافهم وأعدائهم البويهيين . وقد أجبر السلاجقة الخلفاء العباسيين على تبديل مذهبهم الى المذهب الشافعي ، بعد ان كانوا قد غيروه ثلاث مرات في السابق من المالكي الى الحنفي ثم الى الشافعي . واهتم أمراؤهم باعمار جامع ومدرسة ومشهد الامام المعظم ابي حنيفة النعمان (رض) وكذلك مدارس الامام عبدالقادر الكيلاني والشيخ عمر السهروردي وكذلك بعض المساجد منها جامع السلطان جنوب العيواضية اليوم عام 1092م والتي نقل اليها آجر وخشب سامراء ، ثم مسجد الشريف الزيدي و رباطا للصوفية على مقربة المدرسة النظامية.
وفي هذه المرحلة من اعمار بغداد شهدت العمارة قفزات جديده تمثل في ولوج البناء ذي الايوانات الاربع المتصالبة حول حوش سماوي مربع أو مستطيل ، والذي كرس نوع جديد من مخطط المساجد الذي اقتبسته اصلا من المدارس و الذي لم يكن مطبقا في السابق ، حينما كان يسود المسقط النبوي (العربي)، ومخططه متكون من مستطيلين متداخلين. وهذا المخطط سنة بنائية عراقية وجد أقدم نماذجه في معبد شحيرو في الحضر.
ومايخص التسقيف فقد بدأ استعمال التغطية بقبب هرمية او مخروطية سنامية الشكل يدعوها العراقيون(الميل) كما في قبر زمرده خاتون وإمام الدور. وتبدو تلك السقوف وكأنها متراكبة من عنصرالمقرنص ، من الداخل والخارج ، ومرتبة فوق بعضها بشكل تناقصي، ويسمو فوق ذروتها فانوس مأذنة. ويحضر لقطر المخروط المدور قاعدة مضلعة سداسية او ثمانية. والمغزى الهيكلي هنا مبرره ان العزوم تقل قيمتها تبعا لطول المسافة بين النقاط الحاملة ، وهذا يعني ان العزوم هنا تكون بمقداره الأدنى. وقد بدأت مرحلة جديدة في التركير على وفرة المعالجات الفنية الخارجية وقد اعتني بالريازة وعولج الآجر بتراكبات ناتئة مضلعة أو انسيابية لقطعه وصفوفه ومداميكه، وكثرت الحشوات اوالأشكال الحصيرية واستحدث حفر الآجر ونقشه بالزخارف او الخط العربي ، التي يلعب الضوء والظل الطبيعي فيها لعبة الجمال الأخاذ.
وضمت بغداد في ايام عزها الى صدرها هجين الملل والنحل والاعراق وطئ تعدادهم المليوني نسمة في القرن العاشر الميلادي وهي حالة إستثنائية في تأريخ التمدن البشري ، و أمست بحق أول مدينة عالمية . وللعامل البشري في تهاجن الأجناس في البوتقة البغدادية أثره الفعال في تصاعد التحسن التوريثي لأهلها المتمخض عن إختلاط الحضر والاعراب والفقراء والمترفين والأعراق والأجناس المتشابكة.
لقد ترك لنا السلاجقة كثيرا من بناءات الشواهد والقبور واكثرها شهرة في بغداد تربة الشيخ عمر السهروردي ثم مرقد السيدة زمرد خاتون ام الخليفة المستضئ بالله العباسي المتوفية عام 1201م في مقبرة الكرخ (الشيخ معروف أوالرحمانية اليوم) والذي استعمل فيه نوع من القرنصة البنائية والتغصين الجانبي مما يشبه جنبذة الزهرة قبل التفتح ويعتقد ان الاول جعل لتضليل الكوي التي تنير داخل القبة ثم توسع فية البناء لياخذ شكلا مميزا.وهذا النوع من القباب المخروطية او الهرمية تكاد تكون خاصة باضرحة الائمة وصفوة القوم.
المرحلة الرابعة (سقوط بغداد وويلاتها)
استباح هولاكو بغداد ابتداء من صباح العاشر من كانون الثاني (يناير) 1258م ، وحكمها اتباعه الذين انزلوا المدينة من عليائها ، وقضموا ثرواتها وازالوا حضارتها. وخلفهم الشيخ حسن الجلائري الذي حكم واولاده 73 عاما، أنهوا بها آخر بصيص امل لإحياء بغداد. وعمل من خلفهم على اعادة بعض عمران المدينة لاسيما الإقتصادية والدينية كما الخانات والمساجد. ومن هؤلاء (علاء الدين عطا ملك الجويني) الذي حكم 22 عامأ ، و قام بترميم بعض معالمها وبناء الربط في محلاتها كما الحال في الكاظمية، لكن لن ينفع مسعاهم هذا في تحسن الأحوال. و شهدت المدينة بعضأ الإعمار أيام الشاب الجميل اويس الملقب بمعز الدين 1356م والذي تقرب له الناس لما لكن له من مواهب فنية وادبية.وقد حل محلة رئيس خدم البلاط امين الدين بن عبدالله الملقب الخواجة مرجان بعد غياب السلطان اويس في اخماد القلاقل في ايران والذي حاول ان يستحوذ على السلطة بلا جدوى ولهذا الرجل آثار شاخصة في بغداد تؤرخ لقوة العمارة وسمو مهارة صناعها وهي جامع وخان ومدرسة مرجان.
والمدرسة المرجانية بنيت على اطلال المدرسة النظامية وبمساحة اقل منها واقل من المدرسة المستنصرية وكان مخططها مربع الشكل مع قطع في احدى زواياه والتي بقيت حتى العشرينيات من القرن العشرين حينما قرر امين العاصمة تقويض هذا المعلم ، بحجة توسعة شارع الرشيد.ولم يسلم الجامع من هذا التفريط المجحف.
ومن معالم هذه الحقبة جامع محمد الفضل وجامع الآصفية (المولى خانه) المجاور للمدرسة المستنصرية من جهة الجسر والذي بناه محمد جلبي كاتب ديوان احمد الطويل والذي اصبح فيما بعد تكية لدراويش المولوية (اتباع المولى جلال الدين الرومي) ثم رممة داود باشا والي بغداد عام 1825م الذي كان ينعت بـ(أصف زمانه). ومن المعالم كذلك جامع العاقولي بالقرب من الحيدرخانة من جهته الشرقية في محلة العاقولية ويرجع بناؤه الى عام 1327 م وجامع النعماني في شارع الكيلاني اليوم والمبني سنة 1381 م وجامع الشيخ سراج الدين عمر القزويني في محلة الصدرية المبني سنة 1325 م وجامع السيد سلطان علي الواقع قرب محلة المربعة على شاطئ دجلة ولايعرف بالضبط تأريخ بنائه ولكنه رمم خلال 1836 و1892 م. وثمة معلمان ضائعان من بغداد أحدهما مسجد منيف وهوذو قبة باسقة مزدوجة الهيكل في مكان القشلة اليوم ، والآخر برج مثمن على مدخل سوق السراي اليوم،عند نهاية الجسر مقابل جامع الآصفية، وقد تركت لنا صور الرحالة الغربيين معالم تلك العمائر.
واستمرت الحال تقهقرا حتى قدوم تيمورلنك واستمراره على المنوال نفسه بين (1400-1405م)، ثم استباحها خلال 87 عاما رجال دولة الخروف الاسود (قره قوينلي) التركية البدوية الذين انتهت على يد خروف آخر يدعى الخروف الابيض (ا ق قوينلي) ليناطحهم ويكسب الجولة لمدة اربعين عاما، حتى حلول العام 1508م حين دخلها الصفويون الفرس حتى مجيء الاتراك العثمانيون عام 1534م ايام السلطان سليمان القانوني، واستمر الحال حتى تولي بكر صوباشي ، حيث هاجمها الشاه عباس الصفوي واحتلها لمدة عشرين عاما ، ليعود العثمانيون دواليك ، و انتهت بدخول السلطان العثماني مراد الرابع الى بغداد من باب الطلسم (باب الحلبة) عام 1639 م والذي اوصده بعده اعلانا لعدم ولوج غيره خلاله. ومما تركه هذا السلطان المدفع المسمى(طوب ابو خزامه) الذي نسج عليه العامة اساطير وهالة من القدسية . وسبب الصراع بين الفرس والترك خراب بغداد والعراق ، حتى اطلق البغداديون اهزوجة مكثت في الذكرة الشعبية تقول بين العجم والروم احنا ابتلينا) و المقصود بالعجم الفرس والروم الاتراك وإن العراقيين مبتلون بينهم.
واستمر ذلك الهبوط الحضاري حتى العام 1748م حينما قفز المماليك (الكرجيه) لحكم بغداد، منتهزين ضعف العثمانيين.وانتهى الأمر بمجزرة الانكشارية وطاعون وفيضان داود باشا عام 1831م. ولم يبقِ من سكان بغداد الا النزر اليسير حتى وصل مادون الاثني عشر الف نسمة وكادت ان تدرس وتتحول الى اطلال عفى عليها الزمن لولا قدرها بالبقاء والاستمرار كالعنقاء تنهض من جديد.
هبطت بغداد الى درك أسفل في ملكات الحضارة ، ولم تعد تلك المدينة مضرب الامثال،وطواها الزمن ونستها الايام. شهدت الفترة التي اعقبت احتلال الاتراك العثمانيين للعراق حركة هدم وخراب معماري.و بعدما اهتم الولاة العثمانيون بجمع الاتاوات من الناس بالغصب او الزور ودعاهم ورعهم هذا الى التكفير عما يلحق بهم من سيئات عن طريق بناء المساجد نفاقا، مظهرين بأنهم اصحاب تقوى وصلاح.
واستمرت الحال هبوطا ثلاثة قرون ولد فيها 28 جيلا من العراقيين الذين لم يتطبعوا مع سلطة الترك وثقافتها لأسباب إجتماعية ومذهبية.وقد انعكست ذلك جليا في العمارة حينما لم تتأثر خلال تلك الحقبة بعمارة الترك مع عدم اغفال الجانب البيئي ، و كون العمارة التركية تنتمي الى مدارس العمارة الاسلامية (المتوسطية) ، حالها مثل المدرسة المصرية - الشامية التي استطاعت التداخل والامتزاج معها بيسر، بالرغم من ان العمارة التركية قد نسخت من العمارة البيزنطية ولاسيما في فترة مابعد فتح القسطنطينية عام 1453 م، والتي جسدها بحذق ومهارة المعمار سنان، والذي تسنى له ان يبني في بغداد قبة ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني بطلب من السلطان سليمان القانونى عام 1534 م. لكن لم يترك هذا التدخل ولو من احد اساطين العمارة ادنى تأثير في عمارة العراق وبغداد بالرغم من انه وائم موهبته مع خصوصية العمارة العراقية و استعمل الآجر بحذر في بناء القبة المفلطحة البيزنطية كونه وارد من مدرسة متمرسة على الحجر. وعلى عكس ما حدث من تأثير تركي في عمائر بعض المدارس العربية،فان العمارة العراقية قد ازدادت تشبثا بالعلاقة المشيمة العتيقة مع عمارة إيران بسبب كثير من شجون الإقتباسات الفارسية من العمائر العراقية من الجذر البابلي والرافدي عموما.
وقد ترك الأتراك مجموعة من الشواهد والقبور والمساجد وعددا من الترميمات لبعض المعالم الدينية والملاحظ ان كلها بنيت على الطراز المحلي.ومن اهم المساجد من تلك الفترة :
جامع جديد حسن ويقع مقابل سراى الحكومة وامر ببنائه السلطان سليمان القانوني والذي كان يؤمه المرحوم الملك غازي والذي رممه عام 1933م ثم رمم في العهد الجمهوري.
جامع حسين باشا (السلاحدار) الذي بناه هذا الوالي في محلة الحيدرخانه عام 1639م ومسجد (بابا كركر) ومعناة الاب النوراني والذي بني على قبر احد شيوخ الطريقة الصوفية البكداشية التي كانت الطريقة الرسمية للجنود الانكشارية عام 1670م في محلة الميدان قرب سوق الهرج.
جامع القبلانية الذي بناه الوالي قبلان مصطفى باشا عام1680 م
جامع الوزير الواقع في سوق السراي في رأس جسر الشهداء الذي جددت عمارته عام 1722م
جامع الاوزبك الواقع داخل وزارة الدفاع المبني سنة 1680م
جامع الخاصكي الذي بناه الوالي محمد باشا الخاصكي عام 1656م المعروف بمحرابه الثمين الذي اجمع المختصون على إنه ماخوذ من مسجد بغداد المدورة الذي شاده ابوجعفر المنصور والذي يكون من ابداع صناع شاميين ويعود الى فترة مبكرة من الفن الاسلامي.
جامع المرادية وبناه مراد باشا والي بغداد عام 1570م ويقع في محلة الميدان.
جامع القلعة ويقع داخل اسوار وزارة الدفاع العروفة بالقلعة لدى الاتراك وبني عام 1638م.
جامع الحمدية في الميدان والذي بناه الوالي احمد باشا الكهية عام 1780.
جامع الحيدرخانه بنى هذا المسجد داود باشا اخر الولاة المماليك عام 1826م.
ومجموعة اخرى من المساجد مثل جامع عادلة خاتون وجامع نازندة خاتون وجامع براثا ومسجد الشيخ الصوفي جنيد المتوفي عام 856م وجامع الشيخ صندل وجامع الكهية وجامع النعمانية وغيرها.
اما البنايات المدنية فأهمها سراي بغداد والتي انشأها الوالي المملوكي سليمان باشا الكبير عام 1802م على انقاض عدة بنايات قديمة والذي زاد عليه داود باشا عام 1820م.أما القشلة المحاذية لها فهي من بناء نامق باشا عام 1852 والقشلة لفظة تركية اصلها (قاشلاغ) و تعني (اشتى) حيث كان يسكنها الجنود في الشتاء ولا يخرجون للحرب. وقد زاد عليها مدحت باشا عام 1870 م طابق علوي من انقاض سور بغداد الشرقية الذي هدمه وحرم بغداد من احدى معالمها الجميلة.
تبلغ مساحة الارض التي يشغلها السراي والقشلة 250×50م وقد انشأ في ساحتها الداخلية برج وضع في اعلاه ساعة ارتفاعه 23م وهو مبنٍ من الآجر والجص.والطراز العام لهذا المجمع ومن ضمنه البوابة هو هجين بين الطراز العراقي المدجن مع عناصر من العمارة التركية ذي الاصول البيزنطية الصريحة مثل الفتحات في اعلى القبب وبعض من المعالجات الفنية نضراً لكون غالبية اجزاء البناء تمت على يد عمال عراقيين.
وعلى العموم وبالرغم من قرب الوقت الذي خرجوا فيه الاتراك من العراق فإن الاغراض البنائية المحصورة في المعالم الدينية وغياب المدني والخدمي منها يؤكد حالة التخلف والانحطاط ولاسيما عدم وجود بناءات ذو حذلقة معمارية وافكار جديدة تدعو للتوقف عندها مثلما وجدناه قبلها في خان مرجان.
المرحلة الخامسة (الأزمنة الحديثة)
دخلت بغداد القرن العشرين أسيرة مهمشة ومنفى لولاة الترك حيث أطلقوا عليها (سيبيريا العثمانية). وتبدأ مرحلة جديدة بعيد الحرب العالمية الاولى حينما دخل الانكليز وخرج الاتراك الذين جثموا اربعة قرون على صدر العراق. ولم يندم على خروجهم الا القليل.
ولدى تصفيحنا لمصير بغداد يجدر أن ننقل نصين صحفيين واردين من أواخر المرحلة الرابعة ، نجد شهادتين مصريتين إحداها تعود للعام 1908 نشرت في مجلة (المنار) عنوانها (كلمات عن العراق وأهله)، يقول فيها كاتبها (العراق ولا ازيدك علما من أفضل الأقطار تربة ، وطيبة هواء وعذوبة ماء ، وبه أنهار عظيمة كدجلة والفرات...غير أن أكثره خراب ، ينعق فيه البوم والغراب) ، والأخرى كتبها إبراهيم حلمي في مجلة (لغة العرب) في عدد حزيران 1912 خلال مقال بعنوان (العراق) جاء فيه (كلما سرحت طرفي في تأريخ هذه البلاد ، أخذت أفتش عن تلك المعاهد والمنتديات ، وتلك المدارس والكليات ، وتلك المعالم والمستشفيات ،ل أجد فيها الآثار قائمة على جرف هار كالمستنصرية ، وقد أصبح قسم منها دار مكس ، وآخر مطبخا ،وشطرا منه شرب قهوة للبطالين ،و أهل الفراغ ، فيا لخجل العراق والعراقيين).
وكان عمران بغداد أكثف في الصوب الغربي (الرصافة) منه في شرقها (الكرخ) الذي يربطهما جسر كان حتى زمان قريب يطوف فوق زوارق خشبية مثبت على تخوم «سراي الحكومة» أو القشلة، عابرا الى الكرخ في موضع يدعى اليوم «ساحة الشهداء».
ولم يكن جهل الناس بتأريخها، وحده الذي قض مضاجعها بقدر ما كان للولاة الأتراك من نزوات «حضارية» حيث ترد لنا أسماء ثلاثة ولاة هم عبد الوهاب باشا الذي حكم عامي 1904 ـ 1905 وفكر بفتح شارع أو جادة مستقيمة (شوصة) وسط المدينة التأريخية في الرصافة يربط بين صراي الحكومة ومحلة رأس القرية، ليتسنى له السيطرة على القلاقل التي كان يثيرها تمرد أهل الحي الدائم . وكان هذا بداية مشروع يعنف المدينة القديمة ويبدأ بسلسلة من الكوارث التخطيطية توجت بما أطلق عليه فيما بعد اسم «شارع الرشيد» الذي يمكن اعتبار الوالي ناظم باشا «الكرجي» الذي حكم بين عامي 1910 ـ 1911 هو من وسعه ونفخ فيه روح «العصرية»، وأطلق عليه في حينه شارع ناظم (ناظم جادة سي). ثم كانت للأحداث التي شهدتها السلطنة العثمانية وصعود نجم أصحاب «المشروطية» لم تدع أحد الولاة الاستمرار في خوض غمار إضافة شيء للشارع حتى حل خليل باشا الذي حكم خلال عامي 1916-1917 في الحرب الأولى، وشهد سقوط بغداد بيد القوات البريطانية في الساعة الحادية عشر من صباح يوم 11 مارس (آذار) 1917، وبداية مرحلة جديدة في تأريخها. لقد مد ووسع خليل باشا ذلك الشارع ليصل الى بعض محلات المتعة والمجون التي كان يؤمها في عمق بغداد، ورام الخلود المتزامن مع تلك النزوة، فأطلق على ذلك الشارع اسم (خليل جادة سي).
ومنذ اعلان الدولة العراقية عام 1921 بدأ بتكملة ماشرع به بعض الولاة الأتراك المتأخرين وإبتداءً من مدحت باشا عام 1869 حتى خليل باشا. ولم يجد الانكليز وصفة طبية سريعة لعلة بغداد المستعصية ، وتركوا الباب واسعا امام السلطات المحلية للتصرف بالعمران ، لاسيما الموظفين الوافدين مع الملك فيصل الأول، وكلهم لم يكونوا من أهل بغداد ، مثل أمناء بلديتها: أرشد العمري وحسام الدين جمعة ورهط الوزراء المستوردين.
ولم يتلقف ذهن القادمين من الادارات التركية فكرة إنشاء توسعات للمدينة بعيدا أو على نطاق المركز التأريخي لها كونها لم تهمهم من الأساس ، واعتبروها غنيمة يثرون منها ما بقي لهم من أيام فيها. واستشرى الفساد التنظيمي للمدينة ... وجدير بالذكر أن نشير الى النزاع الذي جرى بين العمري المتخرج من المهندس خانة في اسطنبول وبين الخاتون (كرترد بل 1869-1926) على خلفية قرار اتخذه العمري بصفته (أمينا) للعاصمة على هدم جامع ومدرسة الخواجة مرجان. وقد رفضت الخاتون (الأجنبية) نزق أرشد العمري ودخلت في سجال ضده. ولم يثنه عن مرامه إلا وفاتها المفاجئة عام 1926، بعدما أقلقه اهتمامها ورعايتها لآثار بابل وسامراء وقصر الأخيضر. لقد كانت(رحمها الله) أكثر حمية وأمانة على وعندما تولى أرشد العمري أمانة العاصمة عام 1944 هدم أجمل عمائر بغداد ، ليعدل استقامة شارع الرشيد ويوسعه وليبني محلها بناية الدفتردار وبنك الرافدين التي جاءت نشازا حقق العمري من جراءه أرباحا وصفقات ملتوية. وقد انعكست مهزلة فتح شارع الرشيد والرواق الزائف الذي لصق على جانبيه وبالا على بغداد القرن العشرين، بحيث فتح الباب على مصراعيه لمن رام خراب بغداد تباعا.
شقت الطرق الواسعة الموازية لشارع الرشيد كما هو شارع الخلفاء،ثم الكفاح على أنقاض البيوت العتيقة التي تحمل عبق الماضي ، ولم يجد في عبقريتهم نذرا يرشدهم للتوسع على أطراف المدينة القديمة وخارجها في بطحاء مسيرو الحقبة الملكية الأرض الشاسعة الخلاء المحيطة لتنفيذ مآربهم وترك حق العيش للمدينة التأريخية، كما هي الحال ما فعله المخططون الغربيون في مدن شمال أفريقيا مثل فاس والرباط وطرابلس وتونس وغيرها. وفي التوسعات التي بدأت إبان عهد محمد علي في مدينة القاهرة والتي لم تمس قلبها التاريخي فاحتفظت بماضيها الثري. و الحال نفسه يتكرر في دلهي الجديدة عاصمة الهند على تخوم (دلهي) الإسلامية.
وبدأت مرحلة إنشاء أحياء جديدة طرفية في بغداد بعيد الحرب الثانية، وأنشأ حي بغداد الجديدة مثلا على يد مخطط مصري بشكل تجريبي ، ثم أنشا مجلس الإعمار في بواكير الخمسينيات الذي أخذ على عاتقه توسعة المدينة وارساء بنيتها التحتية . ثم جرت عمليات ترقيعية لتوسعتها، حتى جاء مشروع مخطط بغداد الحديث على يد اليوناني- الاميركي دوكسياديس والذي نشط في تنفيذ خطته إبان سلطة الجمهورية عام 1958 حينما أراد أن يبعد التوسعة عن النواة التأريخية للمدينة ، وشق قناة الجيش في وتر مستقيم بين شمال بغداد على دجلة ونهر ديالي قبل التقائهما جنوب بغداد، ليتسنى عبر ذلك نقل الاحياء الجديدة بعيدا عن المركز التأريخي.وجاء فتح قناة الجيش وإحياء نهر الخير في الكرخ بمبرر حب البغداديين الجم للمكوث والعيش قريبا من الانهار. وأهتم بحي الثورة تحديدا، الذي أريد منه أن يلغي بها الأحياء الهامشية البائسة على أطراف بغداد. وقد بذل الزعيم المرحوم عبدالكريم قاسم جهدا كبيرا في ذلك، لكن خطته توقفت بعدما حلت سلطة البعث بعد إنقلاب 8 شباط 1963.
وشهدت المدينة عنفا جديدا ضد تراثها. فاستبيحت أحياء بغداد المركزية في الكرخ والرصافة بحجج واهية كانت مخادعة لسكانها الذين أغووا بتركها أو أجبروا عليه، وكان منهم من رفض تركها فاخرجوا مكرهين لمقتضيات (المصلحة العامة) والوعد بترميمها وإعادتها إليهم.ويذكر سكان الكرخ أن ثمة خان كبير كان يقع على تخوم ساحة الشهداء هدمه طاهر يحيى رئيس الوزراء في حقبة عارف ، في أواسط الستينيات ليستولي على أرضه.
وهدمت الديار في أحياء الكرخ والشواكة والصالحية وباب الشيخ والشيخ عمر والنهضة والسفينة في الاعظمية و الكاظمية. وأرسي الأساس لبنايات سكنية وإدارية تخدم السلطة العراقية. وكانت عمارات خرسانية قامت على تخطيطها وتنفيذها شركات أوروبية وكورية ويابانية كما في شارع حيفا في الكرخ، لما يتمتع به من مركزية الموقع ومن منزلة في تأريخ المدينة و قربه من مركز السلطة في أحياء كرادة مريم والجادرية. وهكذا خطط لشارع حيفا أن يكون طوقا سكنيا كالحصن، الهدف من ورائه الأمن والأمان للسلطة و(القائد الضرورة) وقصوره وإداراته. ثم تكرس ذلك حينما سكنت تلك الأحياء الفئة المقربة للسلطة والحاشية والحمايات العسكرية وإدارات المخابرات، وكل المنعمين الجدد في بغداد. وشهدت الأيام على هذا المقصد بعد السقوط المدوي لسلطة البعث عام 2003،ومكوث تجمعات من الموالين لسلطة البعث في تلك التجمعات السكنية الدخيلة.
لقد حكم بغداد خلال عمرها البالغ نحو 1242 عاما 210 حاكم بين خليفة ووال وملك ورئيس ، كان الخليفة العباسي الناصر لدين الله اطولهم مدة حكم ، حيث بلغت 47عاما من عام 1180 ولغاية عام 1225، اما اقصر فترة حكم فكانت خلافة المرتضي بالله العباسي (ابن المعتز) بمدة يوم واحد فقط قبل ان يقتلة المقتدر بالله عام 909. ويرجع الفضل في كتابة تأريخ بغداد الى اليعقوبي والخطيب. وجد الاول هو جعفر بن وهب امين السر للامير محمد بن صالح بن الخليفة المامون الذي ابتدأ تدوين اخبار بغداد منذ عام 891 م ذاكراً المئة والثلاثون سنة الماضية.أما الخطيب فهو ابو بكر احمد بن ثابت الخطيب الذي عاش بين (1002-1071م).
وبعيدا عن العمران وتقلبات السياسة فمن ميزات بغداد أنها مستوعبة للوافدين والمهاجرين إليها،وثمة عاطفة تربط كل من يلجها أو يمكث بها مع أهلها و نهرها ومائها ونخيلها وتراثها.فقد أستوعبت بغداد الاعداد الكبيرة من الطموحين الى علمها و رخائها (البغدده)، حتى تزايدت اعداد اهلها ، وفاقت اليوم الملايين الستة .
ليس في بغداد اليوم سوى ثماني معالم معمارية من الحقب التأريخية الثانية والثالثة من عمرها، وهي تحتاج لعمليات بحث وترميم للكثير من معالمها حتى المتأخرة منها. ولدينا في تلك الشجون أمل بأن تنشط حركة تنقيبية عن بغداد المدورة في منطقة بساتين العطيفية واخراجها للنور، بالإعتماد على البحوث التي تركها لنا الاساتذة (احمد سوسة ومصطفى جواد وهرزفلد وكريزويل) ونأمل أن يعاد بناء المدينة المدورة في الموضع نفسه او على تخومه. كل هذا يحتاج الى مؤازرة كل محب لهذه المدينة الرائعة.وها هي بغداد التي ملأت الدنيا فضلا وأغدقت على البشرية جودا وعلما،تنتظر منا عرفانا وإعادة بعضا من جميلها.
مجلة ميزوبوتاميا
م ن
**************************************************