٤ - علم النفس والروح والقوى النفسية
4 - Psychology, spirit, and psychic powers
البحث في الروح والقوى النفسية. لقد كان الفلاسفة يقولون ان الفلسفة تبغى في هذا العلم بيان حقيقة النفس وماهيتها ، فيذكرون أنها جوهر روحاني بسيط مجرد عن المادة قائم بنفسه غير متحيز متعلق بالبدن للتدبير والتحريك ؛ إلا انه مفارق له لا يفنى بفنائه ولا ينحل بانحلاله، بل يبقى بعد انحلال البدن خالداً . وهو الباعث على حدوث الاحساس والعاطفة والتفكير، لا يتغير بتغير الظواهر النفسية ، ولا يتبدل بتبدلها . لكن هل يمكن الوصول بالطريقة العلمية إلى ادراك هذا الجوهر البسيط ، وهل نستطيع بالمشاهدة والاستقراء والتجربة أن نقف على كنهه ؟ نحن في علم النفس لا نبحت في النفس بل نكتفي بدراسة آثارها وأعراضها الظاهرة، ولا نلتفت إلى الجوهر الخفي الذي لا يدرك . فاذا نظرنا إلى داخلنا مثلا شاهدنا بالتأمل الباطني جرياناً نفسياً تنسجم فيه الذكريات والرغائب والأفكار والعواطف ، وهذا الجريان النفسي يمكن ملاحظته ووصفه وتصنيف أحواله ، واستنباط قوانينه ، وهكذا نقول رداً على الفلاسفة القدماء أن السيكولوجيا ليست علماً في النفس ، وانما هي علم بريء من يبحث (۱) النفس
لقد أصبح من المؤكد في أيامنا هذه بعد انتقادات ( كانت ) و (اوغوست كونت) أن اتباع الطريقة الفلسفية في المباحث النفسية لا يجيء لها بحل ، اننا نرى مع كثير من الفلاسفة ان المذهب المادي أكثر شراً على علم النفس من المذهب الروحاني . ذلك لأن هذين المذهبين لا يكتفيان بدراسة الظواهر النفسية ، بل يريدان أن يذهبا إلى ما بعدها . الروحانيون ينسبونها إلى جوهر الروح ، والماديون يرجعونها إلى جوهر المادة
وليس من شك في أن الطريقة العلمية الحديثة تقتضي الإبتعاد عن هذه الطريقة الفلسفية، كما تقتضي الإبتعاد عن فرضية القوى النفسية التي كان يقول بها القدماء، وذلك أن الأقدمين كانوا يعتقدون أن النفس مركبة من قوى كثيرة ، كقوة الذاكرة ، وقوة الإرادة ، وقوة التخيل ، وقوة الاستدلال ، وغير ذلك . فقال ( ويليام جيمس ) في الذين يستحسنون هذا النمط ، أنهم يقررون لكل حادثة نفسية قوة نفسية تبعث على حدوثها. وهذا يذكرنا بدور ما بعد الطبيعة الذي وصفه ) اوغست كونت) . إلا أن العلوم الطبيعية لم تصل
إلى الدور الوضعي الا بعد أن أعرضت عن هذه القوى الخفية المستترة تحت ظواهر الاشياء ، فالطبيعي إذا أراد اليوم أن يعلل اشتعال الاجسام لا يورد في تعليله قوة الاحتراق ، وكذلك علماء الحياة ، فانهم لا يستندون إلى قوة الحياة في تعليل وظائف الأعضاء ومنافعها ، بل يكتفون بتعليل الحوادث بعضها ببعض ، فيربطون اللاحق
بالسابق ، ويتخذون من هذه العلاقة الدائمة قانوناً يسيطرون به على الحوادث ان هذه القوى النفسية لا تدرك بالمشاهدة والاستقراء والتجربة ، ولا تصلح أن تكون موضوعاً للعلم ، على أن كثيرين من علماء النفس يسلمون بمسألة القوى النفسية ، لا لأنهم يعتقدون ان وراء كل حادثة نفسية قوة تبعت على حدوثها ، بل لأن هذه الأسماء من ذاكرة ، وإرادة ، وعادة ، هي عناوين صالحة لتصنيف الظواهر النفسية المختلفة ، فيدخل كل ما يتعلق بالحفظ والتذكر ، تحت عنوان الذاكرة ، ويدخل كل ما ينسب إلى الرغائب والعزائم ، تحت عنوان الارادة .
إلى عدم المحافظة على وما كنا لنعترض على هؤلاء الفلاسفة ، لولا ان استعمال هذه العناوين يدعو في الأغلب معناها الأول ، فينتقل الانسان ، من حيث لا يشعر ، الى الظن ان هذه الأسماء تدل على قوى خفية تصدر عنها الظواهر النفسية المختلفة
. ثم ان القول بهذه القوى يدعو إلى تضييق ميدان علم النفس، فنكتفي مثلا في ايضاح التذكر بقولنا انه صادر عن قوة التذكر، وهو أمر طبيعي لا ضرورة للبحت عن أسبابه ، إلا إذا قصرت هذه القوى الكامنة في النفس عن القيام بوظائفها . وعلى ذلك فإن البحت في الذاكرة يقتصر على موضوع النسيان، وهذا تضييق للمباحث النفسية ، لان التذكر نفسه يحتاج إلى ايضاح أيضاً ، كايضاح شروطه النفسية والفسيولوجية، وتأثير التكرار والاستعمال ، وعلاقة الفساد الذي يصيب بعض خلايا المخ بزوال بعض الذكريات مع بيان أنواع التذكر وقوانينه ، فهل تكفي نظرية القوى النفسية لايضاح ذلك كله ؟ أضف إلى ذلك ان تقسيم النفس إلى عدد محدود من القوى دليل على سخف الرأي وضعف النظر، ومن دقق في الأحوال النفسية وجدها أبعد من أن تجمع في قوى بسيطة ، فالذاكرة مثلاً قوة مركبة ، لأن الانسان قد ينسى الألفاظ ، ولا ينسى كتابتها، وقد ينسى
معناها ، ولا ينسى أصوات حروفها ، وقد ينسى القراءة ، ولا ينسى الانشاد والتلاوة عن
ظهر القلب
(١) وقد انتقد صموئيل بايلي ) Samuel Bailey ( أحد علماء الانكليز هذه النظرية ، فقال فيها : ( إن الموجود العاقل يظهر في هذا الرأي كملك دستوري يدير حكومته وزراء ، الذهن وزير الداخلية ، وقوة الحكم وزير العدلية ، والعقل رئيس الوزراء ) و هذا امتع ما قيل في نتقاد هذه النظرية للسخر منها و الهزء بها . ان الادلة التي سقناها اليك في هذه الفقرة تكفي للبرهان على وجوب الاعراض عن السيكولوجيا العقلية أو النظرية (Psychologie rationnelle ) التي هي فرع من علم ما بعد الطبيعة . والسيكولوجيا العلمية كما رأيت لا تنظر إلا في الظواهر النفسية، فتنبذ كل نزعة ميتافيزيقية ، وتتقيد بالطريقة التي كانت سبباً في تقدم العلوم . تلك الطريقة الطريقة التجريبية التي لا تطلب معرفة الحقائق النهائية للأشياء، بل تكتفي بالايضاح الوضعي، هل نبدأ في علم الطبيعة بالبحث عن ماهية المادة وحقيقتها ، وفي علم البيولوجيا بالبحث عن حقيقة الحياة ؟ لا لعمري، ان البحث المباشر في حقيقة المادة قد يمنعنا من الكشف عن قوانين الظواهر الطبيعية . نحن لا نقول أن معرفة حقيقة المادة مسألة ممتنعة لا يأتينا العلم لها بحل ، بلى نؤمن أن العلم سيوصلنا في المستقبل إلى كثير من الأشياء التي نتوهم أنه لا طاقة لنا بها ، وكذلك الحال في علم النفس . إننا لا نقرر الآن أن إدراك حقيقة النفس محال ؛ ولكننا نعتقد أن البحث في طبيعة القوى النفسية وحقيقة النفس قد يمنع هذا العلم من التقدم ، وأن الطريقة التجريبية المقصورة على دراسة الظواهر النفسية أفضل الطرق وأنفعها . هي
(۲) قال ريبو ستكون السيكولوجيا التي نبحت فيها هنا تجريبية محضة ، وسيكون موضوعها الظواهر النفسية وقوانينها وعللها المباشرة ، لا جوهر النفس ولا ماهيتها . ولما كانت هذه المسألة فوق التجربة والتحقيق أحلناها على علم ما بعد الطبيعة ) .
4 - Psychology, spirit, and psychic powers
البحث في الروح والقوى النفسية. لقد كان الفلاسفة يقولون ان الفلسفة تبغى في هذا العلم بيان حقيقة النفس وماهيتها ، فيذكرون أنها جوهر روحاني بسيط مجرد عن المادة قائم بنفسه غير متحيز متعلق بالبدن للتدبير والتحريك ؛ إلا انه مفارق له لا يفنى بفنائه ولا ينحل بانحلاله، بل يبقى بعد انحلال البدن خالداً . وهو الباعث على حدوث الاحساس والعاطفة والتفكير، لا يتغير بتغير الظواهر النفسية ، ولا يتبدل بتبدلها . لكن هل يمكن الوصول بالطريقة العلمية إلى ادراك هذا الجوهر البسيط ، وهل نستطيع بالمشاهدة والاستقراء والتجربة أن نقف على كنهه ؟ نحن في علم النفس لا نبحت في النفس بل نكتفي بدراسة آثارها وأعراضها الظاهرة، ولا نلتفت إلى الجوهر الخفي الذي لا يدرك . فاذا نظرنا إلى داخلنا مثلا شاهدنا بالتأمل الباطني جرياناً نفسياً تنسجم فيه الذكريات والرغائب والأفكار والعواطف ، وهذا الجريان النفسي يمكن ملاحظته ووصفه وتصنيف أحواله ، واستنباط قوانينه ، وهكذا نقول رداً على الفلاسفة القدماء أن السيكولوجيا ليست علماً في النفس ، وانما هي علم بريء من يبحث (۱) النفس
لقد أصبح من المؤكد في أيامنا هذه بعد انتقادات ( كانت ) و (اوغوست كونت) أن اتباع الطريقة الفلسفية في المباحث النفسية لا يجيء لها بحل ، اننا نرى مع كثير من الفلاسفة ان المذهب المادي أكثر شراً على علم النفس من المذهب الروحاني . ذلك لأن هذين المذهبين لا يكتفيان بدراسة الظواهر النفسية ، بل يريدان أن يذهبا إلى ما بعدها . الروحانيون ينسبونها إلى جوهر الروح ، والماديون يرجعونها إلى جوهر المادة
وليس من شك في أن الطريقة العلمية الحديثة تقتضي الإبتعاد عن هذه الطريقة الفلسفية، كما تقتضي الإبتعاد عن فرضية القوى النفسية التي كان يقول بها القدماء، وذلك أن الأقدمين كانوا يعتقدون أن النفس مركبة من قوى كثيرة ، كقوة الذاكرة ، وقوة الإرادة ، وقوة التخيل ، وقوة الاستدلال ، وغير ذلك . فقال ( ويليام جيمس ) في الذين يستحسنون هذا النمط ، أنهم يقررون لكل حادثة نفسية قوة نفسية تبعث على حدوثها. وهذا يذكرنا بدور ما بعد الطبيعة الذي وصفه ) اوغست كونت) . إلا أن العلوم الطبيعية لم تصل
إلى الدور الوضعي الا بعد أن أعرضت عن هذه القوى الخفية المستترة تحت ظواهر الاشياء ، فالطبيعي إذا أراد اليوم أن يعلل اشتعال الاجسام لا يورد في تعليله قوة الاحتراق ، وكذلك علماء الحياة ، فانهم لا يستندون إلى قوة الحياة في تعليل وظائف الأعضاء ومنافعها ، بل يكتفون بتعليل الحوادث بعضها ببعض ، فيربطون اللاحق
بالسابق ، ويتخذون من هذه العلاقة الدائمة قانوناً يسيطرون به على الحوادث ان هذه القوى النفسية لا تدرك بالمشاهدة والاستقراء والتجربة ، ولا تصلح أن تكون موضوعاً للعلم ، على أن كثيرين من علماء النفس يسلمون بمسألة القوى النفسية ، لا لأنهم يعتقدون ان وراء كل حادثة نفسية قوة تبعت على حدوثها ، بل لأن هذه الأسماء من ذاكرة ، وإرادة ، وعادة ، هي عناوين صالحة لتصنيف الظواهر النفسية المختلفة ، فيدخل كل ما يتعلق بالحفظ والتذكر ، تحت عنوان الذاكرة ، ويدخل كل ما ينسب إلى الرغائب والعزائم ، تحت عنوان الارادة .
إلى عدم المحافظة على وما كنا لنعترض على هؤلاء الفلاسفة ، لولا ان استعمال هذه العناوين يدعو في الأغلب معناها الأول ، فينتقل الانسان ، من حيث لا يشعر ، الى الظن ان هذه الأسماء تدل على قوى خفية تصدر عنها الظواهر النفسية المختلفة
. ثم ان القول بهذه القوى يدعو إلى تضييق ميدان علم النفس، فنكتفي مثلا في ايضاح التذكر بقولنا انه صادر عن قوة التذكر، وهو أمر طبيعي لا ضرورة للبحت عن أسبابه ، إلا إذا قصرت هذه القوى الكامنة في النفس عن القيام بوظائفها . وعلى ذلك فإن البحت في الذاكرة يقتصر على موضوع النسيان، وهذا تضييق للمباحث النفسية ، لان التذكر نفسه يحتاج إلى ايضاح أيضاً ، كايضاح شروطه النفسية والفسيولوجية، وتأثير التكرار والاستعمال ، وعلاقة الفساد الذي يصيب بعض خلايا المخ بزوال بعض الذكريات مع بيان أنواع التذكر وقوانينه ، فهل تكفي نظرية القوى النفسية لايضاح ذلك كله ؟ أضف إلى ذلك ان تقسيم النفس إلى عدد محدود من القوى دليل على سخف الرأي وضعف النظر، ومن دقق في الأحوال النفسية وجدها أبعد من أن تجمع في قوى بسيطة ، فالذاكرة مثلاً قوة مركبة ، لأن الانسان قد ينسى الألفاظ ، ولا ينسى كتابتها، وقد ينسى
معناها ، ولا ينسى أصوات حروفها ، وقد ينسى القراءة ، ولا ينسى الانشاد والتلاوة عن
ظهر القلب
(١) وقد انتقد صموئيل بايلي ) Samuel Bailey ( أحد علماء الانكليز هذه النظرية ، فقال فيها : ( إن الموجود العاقل يظهر في هذا الرأي كملك دستوري يدير حكومته وزراء ، الذهن وزير الداخلية ، وقوة الحكم وزير العدلية ، والعقل رئيس الوزراء ) و هذا امتع ما قيل في نتقاد هذه النظرية للسخر منها و الهزء بها . ان الادلة التي سقناها اليك في هذه الفقرة تكفي للبرهان على وجوب الاعراض عن السيكولوجيا العقلية أو النظرية (Psychologie rationnelle ) التي هي فرع من علم ما بعد الطبيعة . والسيكولوجيا العلمية كما رأيت لا تنظر إلا في الظواهر النفسية، فتنبذ كل نزعة ميتافيزيقية ، وتتقيد بالطريقة التي كانت سبباً في تقدم العلوم . تلك الطريقة الطريقة التجريبية التي لا تطلب معرفة الحقائق النهائية للأشياء، بل تكتفي بالايضاح الوضعي، هل نبدأ في علم الطبيعة بالبحث عن ماهية المادة وحقيقتها ، وفي علم البيولوجيا بالبحث عن حقيقة الحياة ؟ لا لعمري، ان البحث المباشر في حقيقة المادة قد يمنعنا من الكشف عن قوانين الظواهر الطبيعية . نحن لا نقول أن معرفة حقيقة المادة مسألة ممتنعة لا يأتينا العلم لها بحل ، بلى نؤمن أن العلم سيوصلنا في المستقبل إلى كثير من الأشياء التي نتوهم أنه لا طاقة لنا بها ، وكذلك الحال في علم النفس . إننا لا نقرر الآن أن إدراك حقيقة النفس محال ؛ ولكننا نعتقد أن البحث في طبيعة القوى النفسية وحقيقة النفس قد يمنع هذا العلم من التقدم ، وأن الطريقة التجريبية المقصورة على دراسة الظواهر النفسية أفضل الطرق وأنفعها . هي
(۲) قال ريبو ستكون السيكولوجيا التي نبحت فيها هنا تجريبية محضة ، وسيكون موضوعها الظواهر النفسية وقوانينها وعللها المباشرة ، لا جوهر النفس ولا ماهيتها . ولما كانت هذه المسألة فوق التجربة والتحقيق أحلناها على علم ما بعد الطبيعة ) .
تعليق