"فيرمير الأخير": عن تاريخ الفنّ وأخلاقيّاته
عمر شبانة
سينما
الفيلم يدور حول صراع أوروبا مع هتلر
شارك هذا المقال
حجم الخط
"فيرمير الأخير" للمخرج دان فريدكين واحد من موجة أفلام باتت شائعة في تناولها الحرب العالمية الثانية، وصراع أوروبا مع هتلر والنازية في هذه الحرب. والأشدّ مدعاة للالتفات والانتباه في هذه الموجة من الأفلام هو سعي صانعيها، مخرجين ومنتجين، إلى دسّ اليهود و"المسألة اليهودية" فيها بأي طريقة كانت، حتى لو لم يكن لهذا الحضور اليهودي ما يبرّره على نحو مقنع. ففي هذا الفيلم، ومنذ البداية، نحن حيال ثروات من الأعمال الفنية المنهوبة، والعائدة ملكيتها إلى أثرياء اليهود الهولنديين، وكذلك، وفي الوقت نفسه، فإن المحقق النقيب بيلر يهوديّ، من دون أن تؤدّي يهوديته هذه أي دور في خلق الوقائع، أو تغييرها على الأرض.
فهل هي "صرعة" من صرعات السينما الأميركية، أم سياسة موجّهة لخدمة الدعاية الصهيونية حول علاقة النازيّة باليهود، وكأنّ هتلر لم يستهدف بمجازره ومحارقه سوى اليهود؟ وبمناسبة الحديث عن العلاقة بين السينما واليهود، فقد شاهدت قبل أيام، أيضًا، فيلمًا بعنوان "عازف البيانو"، موضوعه ما تعرض له يهود بولندا من قتل وتعذيب على أيدي النازيين أثناء احتلال وارسو، ولم ينجُ إلا عازف البيانو اليهودي، وبمساعدة من ضابط ألماني يحميه ويتستّر عليه، حتى وصول القوّات الروسية وقيامها باعتقال الجنود الألمان والتنكيل بهم، ومحاولة العازف البحث عن الضابط الألماني لإنقاذه ورد الجميل له... كل هذا على نحو شديد السذاجة والسطحية.
الواقع والتاريخ في الفيلم
لا أقول إن أيًّا من الفيلمين يمكن وصفه بالصهيونيّ، ولكن ما أوردته بات يشكّل ظاهرة في السينما العالمية. أمّا الفيلم الذي نحن في صدد تناوله، فهو يراوح ما بين الأفلام التاريخية والدرامية، مع قدر من التوثيق في تناول حياة فنّانين هولنديّين مختلفين في القيمة والأهميّة، ومتباعدين زمنيًّا. الأوّل (يوهانِس فيرمير 1632 ـ 1675)، أي أنّه ينتمي إلى فنّ العصور الوسطى، أي من الفترة الباروكية، ومن أكبر فناني القرن السابع عشر الميلادي في أوروبا. والثاني هو الرسام هان فان ميغيرين، المولود عام 1889، وكان رسّامًا مغمورًا، لكنه كان موهوبًا وحيويًا وانتهازيًا وساخرًا وناقدًا، كما تكشف مسيرته الفنية المبكرة، حيث إن معرضه الشخصي الأول عام 1917 انتهى بنتائج سلبية، ما جعله يتحول إلى تاجر فني، حقق نجاحات كبيرة عن طريق تزوير أعمال الفنانين الكبار والمتاجرة بها مع النازيين، وهذه عقوبتها الإعدام، لكنه في النهاية تحوّل إلى بطل قومي... كما في نهاية الفيلم.
"يوهانس فيرمير ينتمي إلى فنّ العصور الوسطى، أي من الفترة الباروكية، ومن أكبر فناني القرن السابع عشر الميلادي في أوروبا" |
يمتلك فيلم المخرج دان فريدكين هذا، وهو أحدث أفلامه (إنتاج 2019)، ويجري عرضه حاليًا على منصة نيتفليكس بترجمة عربية، مجموعة من العناصر والسّمات منحته نجاحًا على غير مستوى في السينما الجديدة، فقد جمع المخرج الأميركي عناصر أساسية تبدأ بالنص المتحوّل إلى سيناريو وحوارات ذكية ومحكمة الصياغة (سيناريو جون أورلوف (تحت الاسم المستعار جيمس ماكجي)، ومارك فيرغوس وهوك أوستبي)، ويستند إلى كتاب/ قصةThe Man Who Made Vermeers "الرجل الذي صنع فيرمير"، من تأليف Jonathan Lopez، وصدر عام 2008، وصولًا إلى الأداء المتميز من الممثلين لأدوار صعبة، ومرورًا بكثير من التفاصيل المتعلقة بتعامل المخرج مع المكان والمجاميع البشرية الثانوية المشاركة (الكومبارس)، فضلًا عن الملابس والتقنيات الخاصة بالصوت والموسيقى والإضاءة وحركة الكاميرا بين الإضاءة والإعتام.
بداية الفيلم ونهايته
ينفتح المشهد الأوّل من هذا الفيلم على ما يشير إلى أن حربًا قد وقعت هنا وانتهت، ونحن الآن حيال الآثار المتمثلة في سيطرة قوة منتصرة، هي الجيش الهولنديّ، وقوّات الحلفاء التي كان لها الدور الأبرز في إلحاق الهزيمة بجيوش هتلر النازية، لذا فهي التي تدير البلاد، وتحت مظلّتها يقوم الضابط/ النقيب جوزيف بيلر (الممثل كلايس بانغ)، بالبحث عن لوحة للفنان الهولندي العالمي تحمل عنوان "المسيح والزانية"، ويُعتقد أن هناك من سرقها وباعها للألمان بسعر خياليّ كي تصل إلى هتلر الذي يشار إلى اهتمامه بالأعمال الفنية. ومع المتابعة، يجري اتّهام فان ميغيرين (الممثل جاي بيرس)، وهو فنّان فاشل ومعروف، بأنه يتاجر بأعمال كبار الفنانين من جهة، وبالتعامل مع الألمان وبيع اللوحة لهم بما يقارب المليوني فيلدار (دولار). ومنذ بداية الفيلم يشهد بيلر واحدة من "حفلات" إعدام المتعاونين مع المحتلّ النازيّ.
وضمن سياقات دراميّة متقلّبة، يقوم النقيب أوّلًا باعتقال ميغيرين والتحقيق معه بحزم حول واقعة اختفاء لوحة فيرمير، وتنفتح التحقيقات على سلسلة شخصيات من تجار الفنّ، ممن تعاملوا مع الألمان، لكن ميغيرين هو أبرزهم وأشدهم تعقيدًا، إذ يتبين في التحقيق وفي المحكمة، أنه لم يكن يبيع الألمان أعمال فيرمير الأصلية، بل أعمالًا مزوّرة يقوم هو بإنجازها تقليدًا لأعمال فنانين عالميين، منهم فيرمير، وخصوصًا لوحته "المسيح والزانية"، فتبدو اعترافاته هذه ليست مجرد دفاع عن نفسه، بل هي تبيّن قدرته على استغلال المحتلّين وبيعهم أعمالًا مزوّرة. كما أن الاعترافات تشكّل فضيحةً ومحاكمة لخبراء الفن الذين يصرّون على أن الأعمال التي باعها أصلية وتعود إلى مئات السنين.
ثمّة منعطف يظهر فيه النقيب، العامل ضمن قوات التحالف، غير راضٍ عن سلوك وزارة العدل وموظّفيها، بل يصطدم معهم ويقوم بتهريب ميغيرين من السجن إلى بيت مستقلّ، ويوفّر له أدوات الرسم والجو الملائم، ويتركه يرسم مع حارس له، ليواصل الصدام مع من يدعى الخبير الفني، وتظهر هنا بيروقراطية لا علاقة حقيقية تربطها بالفن، فيتصاعد الخلاف، إلى أن يعاد اعتقال ميغيرين وتقديمه للمحاكمة بتهمة "العمالة".
هنا يبدأ تحول موقف النقيب إلى التعاطف مع ميغيرين، حتى إنه يخوض صراعًا مع القاضي ومع الخبير الفني مدير المتحف الذي سرقت منه اللوحة، ويثبت أنها لوحة مزوّرة، فينقذ صاحبه من حكم الإعدام، الذي صدر بحقه. ولكن ينتهي الفيلم بالمحقق وهو يكتشف أن ميغيرين هذا كان قد أهدى كتابَ أعمال فنية "إلى قائدي الفيورر الحبيب، تعبيرًا عن امتناني الصادق..."، وحين يواجهه بحقيقة الكتاب والإهداء، يردّ ميغيرين بأنه كان يريد النجاة بروحه، ثم يبوح بما يسمّيه "نازية" هولندا وأوروبا قبل نازية هتلر "في مستعمرات الزمن الماضي كنا نحن النازيين... اغتصبنا وقتلنا وأخذنا العبيد. حتى إننا ألقينا الرضّع في النار. وتماثيل الرجال الذين قاموا بذلك تملأ ساحاتنا العامة...". وما بين السخرية والجد، يشرب الاثنان نخب "الانتصار" على المحكمة، كما على النازيين أيضًا! ويأتي المشهد الأخير المتمثل في إحراق بيلر للكتاب المُهدى إلى هتلر ليعبّر عن موقفه (وهو اليهوديّ) في التسامح تجاه ميغيرين. لكنّه في حقيقته ليس تسامحًا، بل إشفاق عليه من الإعدام.
مقولات أساسيّة
فضلًا عن جماليّات الفيلم، وجوانبه الفنيّة بتفاصيلها الكثيرة، التي أتركها للنقاد المتخصّصين، وفضلًا عن المقولة العامة فيه، فإنّ ما يبقى من الفيلم، وفي الأساس والجوهر، هو مقولاته الفكريّة، وما ينطوي عليه من فلسفة خاصة، ومن تفاصيل في القول. فالفيلم، وبما أنّه يعرض لتاريخ الفن التشكيلي والرسم، من خلال واحد من أبرز رموزه، وما تعرض له هو، وغيره من الفنّانين، من اعتداءات لاأخلاقيّة، يتناول فلسفة أخلاق الفنّ، والقيم السائدة والمتحكمة بهذا العالم الغريب.
في حوار بين النقيب والرسام ميغيرين، يسلط هذا الأخير الضوء على سوق الفن، متسائلًا عن سبب تقييم بعض الأعمال الفنية بالملايين، وبعضها الآخر بضع مئات من الغيلدرات (الدولارات) فقط، ويستفسر من الذي يتخذ القرارات في هذه الأمور... معلنًا حقده على دعاة النقد الفني الذين يُسقطون فنانًا مبدعًا مثله ـ كما يعتقد ـ ويرفعون من شأن آخرين، وربما يكون هذا هو أبرز أسباب اتجاهه لتزوير أعمال الفنانين، من ناحية لإبراز موهبته أمام نفسه، ومن ناحية ثانية فهو يسخر من النقاد وخبراء الفن الذين يدّعون أنهم يستطيعون كشف الأعمال المزيفة، والتفريق بينها وبين الأصلية، ولم يستطيعوا اكتشاف أعماله، إضافة إلى سعيه للحصول بسهولة على ملايين الغيلدرات. فهو ـ كما ظهر في الفيلم ـ شخص انتهازي وموهوب في آن، ومثله يستطيع تبرير أيّ عمل يقوم به، أو سلوك يسلكه.
ولا بد من التنويه هنا إلى أن النقيب بيلر لم يكن يدافع عن انتهازية ميغيرين، ولا عن أعماله المزوّرة، بل عن "فكرة" أن هذا "الإنسان" لم يكن يبيع للألمان كنوزًا فنية أصلية، وبالتالي فهو ليس خائنًا. ولهذا لا يجوز إعدامه ككلّ المتعاملين مع العدوّ، وهذه واحدة من التفصيلات المهمّة في رسالة الفيلم ومقولته الأساسية. وهو ما يجعله يسخر منه، مستبعدًا إيّاه من عالم الفنّانين، قائلًا "الفنانون العظماء حقًّا يسيرون بشجاعة بين نيران النقاد والمشككين... ليحصلوا على مكانتهم التاريخيّة... استمتع بانتصارك"، ويردّ عليه ميغيرين "انتصارنا"، فيتركه وينسحب ليحرق الكتاب الذي يرى فيه ذكرى للتعامل مع النازيّين بصورة ما.