في مديح النسوية وهجائها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في مديح النسوية وهجائها



    "باربي": فيلم في مديح النسوية وهجائها

    سينما
    أثار "باربي" ردود فعل غير عادية حول العالم
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    تزامن عرض فيلم "باربي" مع عرض الفيلم الجدلي "أوبنهايمر"، الذي يتتبع فيه كريستوفر نولان لحظة صنع القنبلة الذرية، وذكرى تفجيرها في 2 أغسطس/ آب (1945)، على سكان هيروشيما وناغازاكي، وهو ما أثار ناشطين يابانيين فأطلقوا عددًا من الهاشتاغات ترفض السخرية من معاناة شعبهم، ما حفز عددًا من هواة الفوتوشوب إلى نشر مجموعة صور جمعت بين الفيلمين، واستطاعت أن تنحت بعض المصطلحات التي تم تداولها بغزارة، مثل "باربينهايمر"، أو "باربيكور".
    جرب أن تكتب اسم باربي الآن على محركات البحث، فإذا بزخات وردية تنطلق في وجهك وتلون الشاشة، كعلامة على الاستقبال الهائل للفيلم الأميركي المعنون باسمها، من بطولة الممثلة الأسترالية مارغوت روبي في دور "باربي"، والكندي رايان غوسلينغ في دور "كين"، بمشاركة الأميركي المخضرم ويل فيرل، أما الإخراج فللممثلة الأميركية الشابة غريتا غرويغ، وهي كاتبة سيناريو ومسرح بدأت حياتها عام 2006، وحصل فيلمها الأول، كمخرجة، "ليدي بيرد" على أربعة ترشيحات لجائزة الغولدن غلوب سنة 2017، كما اختير من معهد الفيلم الأميركي، وقوائم مجلة التايم، كأحد أفضل عشرة أفلام في ذلك العام.
    احتفلت غرويغ في الرابع من الشهر الجاري بعيد ميلادها الأربعين، ويبدو أنه عام سعدها؛ فإلى جانب الضجة العالمية، حقق الفيلم إيرادات هائلة، ما جعلها أول امرأة في تاريخ السينما تتخطى أعلى الإيرادات. رغم ذلك، لم تكن الصورة وردية تمامًا كعالم باربي، حيث قوبل الفيلم بتحذيرات كثيرة حتى قبل عرضه، ورفض عدد من الدول استضافته بحجة أنه يتعارض مع الأخلاق، ويروج للمثلية الجنسية، علاوة على وجود مشاهد خارجة على المألوف، واتهم الفيلم في بعض الدول بالسخرية من مآسي الشعوب.

    صيحة "باربيكور"
    ردود فعل غير عادية اجتاحت مختلف المناطق حول الفيلم، منها المؤيد، ومنها المعارض، كما هي الحال في مواضيع اختلاف الرأي، إلا أن ثمة ظاهرة، أو حركة مجتمعة وغير منظمة تحدث الآن وتتنامى منذ عرضه على مواقع التواصل الاجتماعي بالأخص، ربما تحتاج هذه الحركة لجهود علماء النفس والاجتماع لتتبع ما يسمى بالهوس الوردي، أو الـ"باربيكور"، كما ذكرت بعض الصحف الأجنبية؛ إذ لم يقتصر الأمر عند حد صبغ الشعر، أو إطالة الأظافر، وارتداء ملابس باربي زاهية الألوان، بل تسلل ببساطة إلى الموت نفسه، بإصدار جديد لشركة مكسيكية، هو عبارة عن توابيت وردية ومزركشة تُصاحبها صور للدمية وهي في داخلها أشبه بالنائمة، وإعلان يقول: "هكذا يمكنك أن ترتاح مثل باربي".
    "اللون الزهري المُكون لعالم "باربي" هو معادل لدنيا الأحلام الزاهية في ما يخص حياة النساء"
    اخترق اللون الوردي كذلك جدران دور السينما، والشوارع، والأدوات المنزلية، وصبغ ملابس، وإكسسورات عدد كبير من مشاهير السوشيال ميديا، ناهيك عن حفنة من التغريدات طالبت شركات تصنيع السيارات بموديلات "باربيَّة". أما على مستوى مساحيق وأدوات التجميل، فذكرت شركة "ماري كلير" أن مبيعات ربطات الشعر "سكرانشيز"، التي تشتهر باربي بارتدائها، قفزت مبيعاتها بنسبة 1099%، كما ارتفعت مبيعات صبغات الشعر الأشقر بنسبة 47%، فضلًا عن عودة قصة الشعر الشهيرة ـ ذيل الحصان ـ إلى الرواج مرة أخرى، وذلك وفق ما ورد في صحيفة الغارديان. وأخيرًا، وبعد هذه الجولة الاستهلاكية، إذا ما شعرت بالجوع، يمكنك ببساطة أن تطلب "برغر باربي" من أقرب مطعم، ولكن احذر، فشرط بقاء اللون الوردي في قطعة اللحم هو تقديمها شبه نيئة!
    خرجت شخصية باربي إلى الوجود لأول مرة في أواخر الخمسينيات
    كثيرًا ما تم استغلال فكرة باربي لأكثر من غرض، مثل الدمية السمراء لإحدى الرائدات ألكسندرا باستاني، أول امرأة طبيبة سوداء في أمراض القلب في كندا، وقد أصدرت شركة "ماتيل" أكثر من شكل لباربي، ومنها دُمى تحمل سمات المصابين بمتلازمة داون، هذا إلى جانب نسخ لعدد من النجوم الشهيرة، ففي سنة 2018 أصدرت الشركة نسخة لأيقونة الموضة الأميركية آيريس آبفيل لتكون أول باربي مُسنة في تاريخ الدمية.
    ونرى أن اللون الزهري المُكون لعالم "باربي" هو معادل لدنيا الأحلام الزاهية في ما يخص حياة النساء، وهو ما تحلم به كل امرأة، أو ما كانت تظنه في صغرها، فهنالك هوة كبيرة بين التوقعات، وما يحدث على أرض الواقع، وربما يشترك الرجل أيضًا في الإشكالية نفسها؛ إلا أن وضع المرأة عبر كل العصور تقريبًا يجعلها أكثر المتضررين.

    في سبيل الحرية
    خرجت شخصية باربي إلى الوجود لأول مرة في أواخر الخمسينيات، عن طريق مبتكرتها روث هاندلر، المولودة سنة 1916 في مدينة دنفر، وهي الابنة الأصغر بين عشرة أخوة. في ظهيرة أحد الأيام، جلست ابنة روث تلعب بالدمى الورقية، وأعطت لكل واحدة منهن اسمًا وسمتًا كي تستطيع التحدث معهم وإدخالهم إلى دراما عالمها. لفت انتباه الأم أن طفلتها دائمًا ما كانت تعطي للعرائس أدوار البالغين في قصتها المرتجلة، من هنا نبتت الفكرة في ذهنها، لماذا لا نصنع دمية على هيئة البالغين؟
    في مشهد الافتتاح، يؤكد الفيلم ـ من خلال صوت الراوية ـ أن الدُمى وجدت في دنيانا منذ وجود "أول طفلة" على الأرض، مستعرضًا عددًا من الصغيرات يجلسن متباعدات في منطقة صحراوية ربما هي أقرب للأرض البكر، يلعبن بعرائسهن وهن في غاية الرضى والاستكانة، حتى تظهر باربي عملاقة بحجم الجبال التي خرجت من خلفها وهيئتها البراقة، وهو ما يُحدث ثورة عارمة بين الفتيات فيأخذن في تحطيم أصنامهن القديمة، وتقديم الولاء للدمية الجديدة، وبينما هي تتابع عملية التطهير تبتسم للفتيات غامزة، إيذانًا ببدء عصر نسوي جديد، حيث المرأة هي النموذج الأسمى.
    تعيش المرأة النموذج حياة مثالية وفاخرة إلى أقصى درجة، حتى تصطدم في يوم ما بشعور غريب يمتلكها، وهو خاطر الموت الذي لا يفارقها. تندهش باربي وكل من حولها من هذا الخاطر؛ فكيف يتسنى لدمية أن تفكر في الموت، أو ينتابها الهلع حين ترى علامات السيلوليت تزحف على ساقيها. تُخبرها باربي مسنة أن مشكلتها نتيجة خطأ خلق فجوة بين عالم مدينة باربي والعالم الحقيقي، تُخبرها المرأة أن الطفلة التي كانت تلعب بها لم تعد سعيدة، وهو ما يشعرها بهاجس الموت، وكان على باربي الانتقال إلى عالم البشر للبحث عن الطفلة، ومحاولة إسعادها، تجنبًا لأذيتها.

    أن تُريد ما أريد...
    يعرض سيناريو الفيلم عالمًا مصنوعًا وخياليًأ للنساء داخل مدينة "باربي لاند"، أرض السحر والإمكانيات غير المحدودة؛ فـ"الباربيات" هنا قادرات على صنع المعجزات التي لم تتحقق لهن في الواقع بالشكل الأمثل، حيث يمكنهن قانون المدينة من الحصول على أعلى الجوائز، مثل نوبل في الآداب، والعلوم، والصحافة، ومجالات أخرى، وفي سماء المدينة أيضًا يمكن للنساء قيادة الطائرات، والعمل كرائدات فضاء، وهو ما نراه في أثناء السير اليومي لباربي في شوارع مدينتها تتفقد الرعية.
    يعرض سيناريو الفيلم عالمًا مصنوعًا وخياليًأ للنساء داخل مدينة "باربي لاند"
    كما تدعو قوانين المدينة إلى نبذ أي تسلط ذكوري للنظام الأبوي المهيمن على العالم، والذي يخول الرجل سلطة مركزية تمكنه من السيطرة والتحكم في التنظيم المجتمعي وسن القوانين وتطبيقها، ولذلك تفرض النساء في المدينة تكميم صوت رأس المال في ما يخص الشركات التجارية...، "حتى لا تتحول ديمقراطيتنا إلى بلوتوقراطية"، كما تقول إحدى السيدات؛ وهو حكم الأثرياء. في كتابه "الرجال من المريخ... النساء من الزهرة"، يقول الكاتب الأميركي جون غراي: "إننا نتوقع أن يكون الجنس الآخر يشبهنا تقريبًا... ونرغب منهم أن يريدوا ما نريد، وأن يشعروا كما نشعر".
    وكما هو واضح، نجد أن الصبغة النسوية قد هيمنت على الفيلم بشكل كبير ـ ربما زاد عن الحد في بعض الأحيان ـ بداية من أعداد النساء الغفيرة التي امتلأت بها المشاهد، في مقابل تمثيل لا يذكر للرجل، وتطرح المخرجة صورة الذكورة في شكل مائع وتابع للمرأة كان أميل إلى الحكم القيمي على الرجل، وربما هذه هي صورة آدم الحقيقية في عين حواء ليس إلا، لكنها حصرت الفكرة وكأنها انتقام جندري بين جنسين، فما هو غير متحقق في الحياة لا ضرر من تحقيقه في الخيال... "فبفضل باربي.. هنالك حلول لكل المشكلات النسوية"، كما يخبرنا صوت الرواية في التعليق على الأحداث.
    "اخترق اللون الوردي جدران دور السينما، والشوارع، والأدوات المنزلية، وصبغ ملابس، وإكسسوارات عدد كبير من مشاهير السوشيال ميديا"

    بجانب سيطرة النساء على زمام الأمور في مجريات الأحداث، وتعدد واختلاف نماذجهن؛ كان الذكر المتمثل في كين نمطيًا ومملًا لا تمييز يذكر في ما بينهم سوى على مستوى لون البشرة لا أكثر، تخبرنا الراوية في الفيلم أن "باربي" دائمًا ما تشعر بروعة الحياة في كل يوم بعادية، بينما كين لا يحظى بالروعة نفسها إلا إذا نظرت إليه، ونراه يستأذن كطفل في طلب أن يزورها في بيتها، فيما هي تُخبره بلا مبالاة "لدينا حفلة ديسكو كل البربيات... يمكنك الانضمام". وفي المجمل، نجد أن كين ورجاله ظهروا في هيئة مجموعة أشبه بالمخنثين، لم يمنع ذلك من ظهور طيف خفيف للثنائي الشهير "روميو وجولييت" في علاقة الوله بين كين وباربي، وإن كانت الأخيرة لا تعتد بذلك كثيرًا.

    المجد للبشر
    تخرج باربي في رحلة للبحث عن الطفلة التي كانت تلعب بها، وحين تجدها تتفاجأ بشيئين؛ الأول هو أن الصغيرة لم تعد كذلك، وأصبحت في سن المراهقة، أما الشيء الآخر فهو أن فتاة اليوم لم تعد تحمل لها مشاعر، بل وتنعتها بالفاشية، فحين لعبت باربي في عقول الأطفال بأن الشكل المثالي لمن يحملون البشرة الوردية والشعر الأصفر والعيون الملونة؛ لم تفعل سوى ما فعلته النازية قديمًا، حين أطلق هتلر رجاله حول العالم في رحلة انتقاء للجنس البشري، والبحث عن الآريين الذين كانوا بالمواصفات نفسها.
    تُذكرنا نهاية الأحداث بخاتمة الفيلم المميز "عرض ترومان" (1998)، من بطولة النجم جيم كاري، حين يكتشف ترومان حقيقة العالم المصنوع الذي كان يعيش فيه، وكيف تواطأ كل من حوله على خداعه. تتشابه باربي مع ترومان في أن كليهما عاش في عالم غير واقعي، وتختلف عنه بأنها كانت على دراية بحقيقة عالمها، كما أنها تستدعي الفنان الايطالي مايكل أنجلو، والتفصيلة الشهيرة لليدين في لوحته "خلق آدم"، حين تمد "روث" يدها إلى باربي بالطريقة نفسها، في مشهد أشبه بسفر التكوين، حيث سنتابع بعد قليل ميلادًا جديدًا للدمية باربي، حتى وإن كان بشكل فانتازي.
    تسير باربي سعيدة بصحبة مبتكرتها التي تُخبرها بتميزها كدمية، حيث الخلود الأبدي، في حين أن كل حيوات البشر نهايتها الموت، أما الأفكار فلها من العمر أطول من سيرة أصحابها. تتحمس باربي في البداية لخوض حياتها الجديدة الأبدية، لتكون أحد "الأفراد الذين يصنعون المعنى"، وليس الفكرة نفسها، لكنها تنتصر للإنسانية رغم كل بشاعتها وهشاشتها في الوقت ذاته، وتخضع لتبعات خطيئة المعرفة، حتى وإن أخرجتها من الجنة، كما فعلت مع آدم من قبل، تختار أن تكون أنثى حقيقية بكل انكساراتها وهزائمها وانتصاراتها القليلة ـ نرى ذلك من خلال لقطات سريعة ترصد كل تمثلات الأنثى المختلفة ـ على أن تكون دمية خارقة، وتسعد بزيارتها الأولى لطبيبها النسائي!
يعمل...
X