من يريد قراءة الأفلام عليه أن ينتبه إلى ثلاثة جوانب
السعودي عادل خميس الزهراني: الفيلم السينمائي شيخ خبير فهم الحياة كما يجب.
سحر الواقع الموازي
انتشر الفن السينمائي في شتى أقطار العالم، وتجاوز مسألة الترفيه ليصبح منصة لإطلاق رسائل غاية في التأثير. فتقريبا لا وجود لفن أكثر تأثيرا من السينما اليوم، إذ يجمع مختلف الفنون من الصورة إلى الأدب والموسيقى والأداء وغيرها ليقدم عملا يقترح واقعا موازيا يسحب المتفرجين إليه. لكن قراءة الأفلام تتطلب وسائل خاصة، وفي هذا الإطار يقترح الكاتب والأكاديمي السعودي عادل خميس الزهراني كتابه الجديد.
يرى ويليام كوستانزو أن دراسة السينما تعني “الانخراط في بعض أعظم القصص في العالم؛ فالأفلام تقحمنا في حيوات مختلفة، وتنقلنا إلى أزمنة وأماكن أخرى، وتجعلنا نستكشف أقاصي أنحاء الطبيعة البشرية”. كما أنها في الوقت ذاته، وبقدر ما تخبرنا عن الآخرين فإنها – أي الأفلام السينمائية – تجعلنا نرى أنفسنا، و”تعكس هويتنا الثقافية، وموقعنا، وحالتنا في الحياة، ومكاننا في عالم متغير؟”.
انطلاقا من تلك الرؤية إلى السينما يأتي كتاب “في نقد السينما تقاطعات السينما، الأدب والفلسفة” للكاتب والأكاديمي السعودي عادل خميس الزهراني، والصادر ضمن السلسلة المعرفية من مهرجان الأفلام السعودية بالتعاون بينها وبين دار جسور.
السينما ورسائلها
ينطلق الزهراني في كتابه من تمهيد تاريخي سريع، ثم ينتقل للحديث عن بعض التقاطعات بين السينما ومجالات إنسانية أخرى مثل الفلسفة والأدب، كما يحاول توفير منهجية مقترحة لنقد الفيلم السينمائي، تكون بمثابة مرشد يساعد الباحثين والباحثات لكتابة نقد منهجي للخطاب السينمائي. ويتناول الفصل الثالث جانبا مهما من العلاقة بين الأدب والسينما، يتمثل في المسافة بين الرواية والفيلم المقتبس منها بشيء من التطبيق.
يؤكد الزهراني أن شمس السينما اليوم لا تكاد تغيب عن أيّ دولة من دول العالم، إذ أصبحت دور العرض جزءا مهما من النسيج الاقتصادي والترفيهي في المدن الحديثة، وفي البلدان الصغيرة. كما أن معظم الدول تجتهد لتترك بصمتها في هذا العالم عبر إنتاج الأفلام المحلية، وتأسيس معاهد وأكاديميات فنية تسهم في تخريج أجيال من الكتاب والممثلين والمخرجين ومتخصصي الإنتاج السينمائي بمختلف جوانبه.
ويذكر أن هناك قرابة أربعة آلاف فيلم سنويا تشترك في إنتاجها مئة دولة، بينما لا تنتج الولايات المتحدة سوى 6 في المئة منها، بينما نصيب آسيا النصف، وأوروبا الثلث، والباقي يتوزع بين أفريقيا وأميركا الجنوبية والشرق الأوسط.
ويرى أن السينما تشترك مع الأدب في القصة التي ترويها، وفي طريقة سردها بأدوات مختلفة، وفي مساءلتها ونقدها للواقع، عبر صنع واقع مواز. وإذا كان الشعر يعتمد على لغة تخيلية مخاتلة، تتخذ من التورية منطلقا، ومن الاستعارة جوهرا (لا يعني الشعر ما يقول فعلا ولا يتلقاه المتلقي بناء على ظاهر القول)، فإن السينما تعتمد على تورية ثقافية – سردية، حينما تصنع عالما موازيا، وتحكي قصة تشبه قصص الواقع، لكنها مبنية على مساءلة هذا الواقع ونقده.
يقول الزهراني “من المهم التذكير دوما بأن السينما تخلق جوا خاصا يمكنها من إيصال رسالتها – أو رسائلها – عبر قالب جذاب وممتع. إن واحدة من أهم المزايا التي تذكر للسينما هي أن مرتاديها يتركون كل شيء، لقضاء ساعتين أو أكثر في غرفة مظلمة تماما، يثبّتون فيها أعينهم نحو شاشة تستمر في بث الرسائل والصور. وكثيرا ما تأتي هذه الرسائل والصور على صيغة عبارات مكثفة ومشحونة بالحكمة والشاعرية التي تأخذ متلقيها نحو آفاق من التأمل والتفكير العميق”.
الكتاب يرصد التقاطعات بين السينما ومجالات إنسانية أخرى مثل الفلسفة والأدب مقترحا منهجية خاصة لنقد الفيلم السينمائي
ويضيف “يقول كارل ماركس الصغير (Young The Marx Karl 2017) ‘كل شيء عرضة للتغيير، لا شيء يدوم‘. فتسوق العبارة خيال المشاهد نحو هذا الوجود الذي يخلو من أيّ حقيقة ثابتة فيه سوى التغير. ونشاهد شون كونري وهو يؤدي دور الشاعر المتخيل ويليام فورستر في فيلم (البحث عن فورستر Finding Forrester 2000) يقول ‘نحن نهرب من أحلامنا لأننا نخشى أن نفشل، أو الأسوأ من ذلك، لأننا نخشى أن ننجح‘. فلا نستطيع أن نسيطر على عقولنا وهي تسبح في عمق هذه العبارة وأبعادها”.
ويرى أن واحدة من نقاط قوة السينما تكمن في انفتاحها على الحياة باعتبارها مفهوما واسعا للتفكير والاختلاف والمضي قدما. وتقدم السينما في الكثير من جوانبها محتوى مغايرا مخالفا للسائد ولا تنقصه الحكمة مع ذلك. الفيلم السينمائي في رأيه شيخ خبير فهم الحياة كما يجب، وعرف قدره فيها، وحظه منها. شيخ يتلبّس مرة مارتن لوثر كينغ الذي يؤدي دوره البريطاني ديفيد أويلوو في فيلم “Selma 2014″، يتلبّسه في آخر أيامه وهو يعلن “نحن لا نعيش حياتنا بشكل كامل إذا لم نكن مستعدين للموت من أجل من نحبهم، ومن أجل ما نؤمن به”، وأخرى يختار لينطق بلسان عالم الفيزياء العجيب ـ بتجربته وكشوفاته العظيمة – ستيفن هوكينغ، وهو يذكّرنا “يجب ألا تكون هناك حدود للمساعي البشرية. نحن جميعا مختلفون، ومهما بدت الحياة سيئة، فهناك دائما شيء يمكنك القيام به والنجاح فيه. طالما هناك حياة فهناك دوما أمل”.
وتارة أخرى يختار شيخ السينما شيخا غريب الأطوار والتجربة، كان عمره يتناقص فيما تزداد أعمار الناس. إنه بنجامين بوتن (براد بيت بطل فيلم الحالة الغريبة لبنجامين بوتن The Curious Case of Benjamin Button 2008) ذلك الذي ولد عجوزا ومات طفلا رضيعا بعد أن شاهد كل من حوله يشيخون ويقضون هرما، ليذكرنا دوما “إنها الفرص هي ما يصوغ حيواتنا، بما في ذلك تلك الفرص التي نفوّتها”.
مراجعة الأفلام
السينما تعلمنا الحكمة (فيلم “الحالة الغريبة لبنجامين بوتن”)
يؤكد الزهراني أن هذا التفاعل الخلاق بين المجالات الثلاثة (الشعر، والفلسفة، والسينما)، قاد الفيلسوف الفرنسي المهم جيل دولوز لأخذ السينما بجدية، توجها بكتابه المرجعي ذي الجزأين “سينما: الصورة ـ الحركة”، و”سينما: الصورة ـ الزمن”. ويعد دولوز ظهور السينما حدثا علميا مهما، ومرحلة من مراحل تطور مفهوم الحركة العلمي “العلاقة بين المدار والزمن اللازم لقطعه عند كيبلر، مسافة سقوط الأجسام وعلاقتها بزمن السقوط عن غاليلي، نقطة ديكارت على الخط المستقيم المتحرك، الحساب المتنامي الصغر عند نيوتن ولايبنز. في كل مكان، كان التعاقب الآلي للحظات يحل محل النظام الجدلي للوضعيات، ويبدو أن السينما هي فعلا المولود الأخير لهذه السلالة”.
ويقول الزهراني إنه على من يريد تحليل فيلم ما تحليلا منهجيا أن ينتبه إلى وجود ثلاثة جوانب في أيّ فيلم سينمائي، ويحتاج أن يراعيها خلال عمله، هناك أولا قصة ما يحكيها الفيلم، وهناك ثانيا طريقة لسرد هذه القصة، تختصرها عملية إنتاج الفيلم بكل ما تحويه “الإخراج، الأداء، الإنتاج، التكنولوجيا… الخ”. ثم هناك ثالثا رسالة الفيلم التي تشير إلى المعنى أو الخطاب المضمر الذي يبثه الفيلم عبر عرض القصة بطريقة ما.
هذه الجوانب الثلاثة متداخلة، ويكمّل بعضها بعضا، لكننا في بعض الأفلام نجد أن القصة تأخذ حيزا أكبر لقوتها وجاذبيتها ـ مثلا ـ بحيث لا يحتاج، أو بالأحرى يحتاج المنتج للتركيز عليها بطريقة مباشرة، ويمكن أن نضرب مثلا بفيلمThe Shawshank Redemption.
وهناك أعمال سينمائية تتميز بإنتاجها وإخراجها المميز (لعل كثيرا من أفلام كونتن ترنتينو Quentin Tarantino تحضر في الذاكرة الآن. لكننا قد نلاحظ أن تركيز بعض الأعمال يكون منصبا على الرسالة التي يحاول الفيلم تسريبها ولا يعني هذا فشل العمل أو نجاحه بطبيعة الحال)، فالقصة والإنتاج يدخلان ويتدخّلان في هذه المسألة، ويعتقد أننا يمكن أن نضع فيلم “the farther” (الأب) ضمن هذه المجموعة التي تشير إلى الرسالة التي يبثها العمل، بطريقة أخاذة وعجيبة. أداء هوبكنز في الفيلم عبقرية لا تتكرر كثيرا في تاريخ البشرية.
ويضيف “يمكن أن أشير أيضا إلى الفيلم القصير والجميل (Two Distant strangers – غريبان تجمعهما حتمية القدر)، بوصفه مثالا جيدا للفيلم الذي يركز على الرسالة مع إنتاج مميز”.
ويؤكد المؤلف أن هناك فرقا بين الأفلام ومراجعة الأفلام؛ إذ يمثل الثاني قراءة مختصرة وعاجلة لا تخلو من الانطباعات الشخصية حول العمل السينمائي أو بعض تقاطعاته مع الواقع، فيما تسعى الورقة النقدية نحو إنتاج نص متكامل يبدأ من تحليل الفيلم بوصفه نصا متكاملا له بنيته الخاصة التي جعلت وجوده وتلقيه مستقلا أمرا ممكنا.
ويتابع الزهراني “يهدف نقد الفيلم إلى مناقشة وسائل إنتاج الفيلم وتقديم بعض النصائح العملية حول ما يمكن تغييره لجعل الفيلم أفضل. لذلك ينصح دائما بمشاهدة الفيلم أكثر من مرة، وتسجيل ملاحظات حول الحبكة، وحول المنهج أو التيار الفكري الذي يتبع له الفيلم، وحول زاوية النظر في الفيلم، وحول الأداء وأجواء الفيلم الجغرافية والتاريخية”.
ويرى أنه خلال المشاهدة الثانية يمكن ملاحظة التفاصيل التي لا تلاحظ في المرة الأولى. كما أن القراءة فيما كتب عن الفيلم وعن فريق العمل من مقالات، وحوارات، وتحقيقات يساعد على استيعاب الفيلم أكثر. خلال هذه المرحلة يمكن للناقد استخلاص خطاب الفيلم، يعني الرسائل التي يسعى الفيلم لإيصالها.
الرواية والفيلم
حين تغلب القصة في الفيلم (فيلم The Shawshank Redemption)
يلفت الزهراني أن الرواية (المقروءة) في الكتاب، والمشاهدة على الشاشة فيلم سينمائي، تشتركان في اتكائهما على الحكاية وعلى السرد. وهو ما يجعل اشتراكهما في عناصر السرد الأخرى أمرا حتميا؛ يعني الزمان والمكان والشخصيات والأحداث والحوار والوصف وغيرها من عناصر السرد وتقنياته.
لكن هذا لا يعني أنهما (الرواية والفيلم) تجربتان متطابقتان؛ فطبيعة التجربة تجعلها تختار نظامها الإشاري، وتوجه تقنياتها السردية وفقا لمقتضياتها، حيث يشترك السرد اللغوي المقروء (النص الروائي) مع السرد الصوري المرئي (النص الفيلم) باعتمادهما على سرد أحداث معينة، وبوصفهما فنين سرديين تتوالى الأحداث في كل منهما بتحولاتها المختلفة. لكن ما يجعل هذين النظامين السرديين مختلفين هو طبيعة أنظمتهما العلامية ووسائطهما.
ويوضح بأن النص الروائي يعتمد أساسا على الكلمة، فيما يعتمد النص الفيلمي على الصورة والصوت. ويرى أنه من الضروري التذكير هنا أن الفيلم السينمائي روائيا كان أو غير ذلك، يعتمد غالبا على ما يسمى بالسيناريو أو نص الفيلم وهو مصطلح ظهر عام 1908، ليشير إلى النص الذي يعتمد عليه المخرج في إنتاج الفيلم؛ حيث يقوم ـ في معظم الأفلام المقتبسة – كاتب متخصص في كتابة السيناريو السينمائي بتحويل الرواية إلى مادة تصلح لأن تكون فيلما سينمائيا.
ويبيّن بأن النص يحتوي في العادة على كل التفاصيل الخاصة بالأحداث والحوارات والشخصيات والخلفيات والملابس والإضاءة وحركة الكاميرا. ومن هنا يكون للفيلم السينمائي كاتب مختلف، غير مؤلف الرواية التي يقتبسها الفيلم، يقصد به كاتب المنشور السينمائي (السيناريو).
الإنتاج السينمائي ليس حكرا على أميركا
ويضيف لذلك يمكن أن يكون الفرق بني التجربتين (المكتوبة والمرئية) في طبيعة الحكاية، أو في التبئير (زاوية الرؤية)، وربما في الثيمة الأساسية للعمل، أو توجيه السرد، أو في اللغة والتقنيات السردية وزمن القصة والخطاب. وقد يتباين تأثير العناصر بين الرواية والفيلم، أو يعاد ترتيبها من حيث الأهمية، بالإضافة إلى إمكانية التركيز على أحداث دون أخرى، وزيادة تفاصيل مختلفة، أو تغييرها، أو حذفها تماما.
ويؤكد أنه إذا كان للرواية المكتوبة ظروفها الثقافية والاجتماعية وقوانينها الفنية، فإن للفيلم السينمائي أيضا ظروفا خاصة به، تتمثل في الجانب الفني التقني، الخاص بالكاميرا (حركة الكاميرا ونوعها وزاويتها، وزاوية اللقطة ونوعها)، ومسائل المونتاج المعقدة، وعالم التمثيل والممثلين، والإخراج، وتقنيات الصوت والسكوت والحركة والإضاءة والخلفيات والألوان.. إلخ.
ويخلص الزهراني إلى أن واحدة من أهم قناعات كتابه تتلخص في أن شعرية السينما تتمحور حول القصة وآليات سردها في الفيلم السينمائي، وذلك لأن النص السينمائي فن أدبي سردي في الأساس، وبقدر ما ينتج الفيلم قصة محكمة ومشوّقة بقدر ما يكون أقرب إلى تحقيق قبول الجماهير ورضا النقاد.
من هنا يقترح منهجية تحليل تنطلق من علم السرديات، وتسعى لتتبع العناصر البنيوية للحكاية في الفيلم وتحليلها، ويعني السلسلة السردية والوظائف (أفعال الشخصيات وأوصافها)، وتقنيات الزمن، وتوظيف المكان، ودراسة زاوية النظر (التبئير) الذي تتحكم فيه الكاميرا بوصفها الراوي الرئيس للفيلم ، بالإضافة إلى بقية العناصر الخاصة بالأزياء والموسيقى والإنارة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
السعودي عادل خميس الزهراني: الفيلم السينمائي شيخ خبير فهم الحياة كما يجب.
سحر الواقع الموازي
انتشر الفن السينمائي في شتى أقطار العالم، وتجاوز مسألة الترفيه ليصبح منصة لإطلاق رسائل غاية في التأثير. فتقريبا لا وجود لفن أكثر تأثيرا من السينما اليوم، إذ يجمع مختلف الفنون من الصورة إلى الأدب والموسيقى والأداء وغيرها ليقدم عملا يقترح واقعا موازيا يسحب المتفرجين إليه. لكن قراءة الأفلام تتطلب وسائل خاصة، وفي هذا الإطار يقترح الكاتب والأكاديمي السعودي عادل خميس الزهراني كتابه الجديد.
يرى ويليام كوستانزو أن دراسة السينما تعني “الانخراط في بعض أعظم القصص في العالم؛ فالأفلام تقحمنا في حيوات مختلفة، وتنقلنا إلى أزمنة وأماكن أخرى، وتجعلنا نستكشف أقاصي أنحاء الطبيعة البشرية”. كما أنها في الوقت ذاته، وبقدر ما تخبرنا عن الآخرين فإنها – أي الأفلام السينمائية – تجعلنا نرى أنفسنا، و”تعكس هويتنا الثقافية، وموقعنا، وحالتنا في الحياة، ومكاننا في عالم متغير؟”.
انطلاقا من تلك الرؤية إلى السينما يأتي كتاب “في نقد السينما تقاطعات السينما، الأدب والفلسفة” للكاتب والأكاديمي السعودي عادل خميس الزهراني، والصادر ضمن السلسلة المعرفية من مهرجان الأفلام السعودية بالتعاون بينها وبين دار جسور.
السينما ورسائلها
ينطلق الزهراني في كتابه من تمهيد تاريخي سريع، ثم ينتقل للحديث عن بعض التقاطعات بين السينما ومجالات إنسانية أخرى مثل الفلسفة والأدب، كما يحاول توفير منهجية مقترحة لنقد الفيلم السينمائي، تكون بمثابة مرشد يساعد الباحثين والباحثات لكتابة نقد منهجي للخطاب السينمائي. ويتناول الفصل الثالث جانبا مهما من العلاقة بين الأدب والسينما، يتمثل في المسافة بين الرواية والفيلم المقتبس منها بشيء من التطبيق.
يؤكد الزهراني أن شمس السينما اليوم لا تكاد تغيب عن أيّ دولة من دول العالم، إذ أصبحت دور العرض جزءا مهما من النسيج الاقتصادي والترفيهي في المدن الحديثة، وفي البلدان الصغيرة. كما أن معظم الدول تجتهد لتترك بصمتها في هذا العالم عبر إنتاج الأفلام المحلية، وتأسيس معاهد وأكاديميات فنية تسهم في تخريج أجيال من الكتاب والممثلين والمخرجين ومتخصصي الإنتاج السينمائي بمختلف جوانبه.
ويذكر أن هناك قرابة أربعة آلاف فيلم سنويا تشترك في إنتاجها مئة دولة، بينما لا تنتج الولايات المتحدة سوى 6 في المئة منها، بينما نصيب آسيا النصف، وأوروبا الثلث، والباقي يتوزع بين أفريقيا وأميركا الجنوبية والشرق الأوسط.
ويرى أن السينما تشترك مع الأدب في القصة التي ترويها، وفي طريقة سردها بأدوات مختلفة، وفي مساءلتها ونقدها للواقع، عبر صنع واقع مواز. وإذا كان الشعر يعتمد على لغة تخيلية مخاتلة، تتخذ من التورية منطلقا، ومن الاستعارة جوهرا (لا يعني الشعر ما يقول فعلا ولا يتلقاه المتلقي بناء على ظاهر القول)، فإن السينما تعتمد على تورية ثقافية – سردية، حينما تصنع عالما موازيا، وتحكي قصة تشبه قصص الواقع، لكنها مبنية على مساءلة هذا الواقع ونقده.
يقول الزهراني “من المهم التذكير دوما بأن السينما تخلق جوا خاصا يمكنها من إيصال رسالتها – أو رسائلها – عبر قالب جذاب وممتع. إن واحدة من أهم المزايا التي تذكر للسينما هي أن مرتاديها يتركون كل شيء، لقضاء ساعتين أو أكثر في غرفة مظلمة تماما، يثبّتون فيها أعينهم نحو شاشة تستمر في بث الرسائل والصور. وكثيرا ما تأتي هذه الرسائل والصور على صيغة عبارات مكثفة ومشحونة بالحكمة والشاعرية التي تأخذ متلقيها نحو آفاق من التأمل والتفكير العميق”.
الكتاب يرصد التقاطعات بين السينما ومجالات إنسانية أخرى مثل الفلسفة والأدب مقترحا منهجية خاصة لنقد الفيلم السينمائي
ويضيف “يقول كارل ماركس الصغير (Young The Marx Karl 2017) ‘كل شيء عرضة للتغيير، لا شيء يدوم‘. فتسوق العبارة خيال المشاهد نحو هذا الوجود الذي يخلو من أيّ حقيقة ثابتة فيه سوى التغير. ونشاهد شون كونري وهو يؤدي دور الشاعر المتخيل ويليام فورستر في فيلم (البحث عن فورستر Finding Forrester 2000) يقول ‘نحن نهرب من أحلامنا لأننا نخشى أن نفشل، أو الأسوأ من ذلك، لأننا نخشى أن ننجح‘. فلا نستطيع أن نسيطر على عقولنا وهي تسبح في عمق هذه العبارة وأبعادها”.
ويرى أن واحدة من نقاط قوة السينما تكمن في انفتاحها على الحياة باعتبارها مفهوما واسعا للتفكير والاختلاف والمضي قدما. وتقدم السينما في الكثير من جوانبها محتوى مغايرا مخالفا للسائد ولا تنقصه الحكمة مع ذلك. الفيلم السينمائي في رأيه شيخ خبير فهم الحياة كما يجب، وعرف قدره فيها، وحظه منها. شيخ يتلبّس مرة مارتن لوثر كينغ الذي يؤدي دوره البريطاني ديفيد أويلوو في فيلم “Selma 2014″، يتلبّسه في آخر أيامه وهو يعلن “نحن لا نعيش حياتنا بشكل كامل إذا لم نكن مستعدين للموت من أجل من نحبهم، ومن أجل ما نؤمن به”، وأخرى يختار لينطق بلسان عالم الفيزياء العجيب ـ بتجربته وكشوفاته العظيمة – ستيفن هوكينغ، وهو يذكّرنا “يجب ألا تكون هناك حدود للمساعي البشرية. نحن جميعا مختلفون، ومهما بدت الحياة سيئة، فهناك دائما شيء يمكنك القيام به والنجاح فيه. طالما هناك حياة فهناك دوما أمل”.
وتارة أخرى يختار شيخ السينما شيخا غريب الأطوار والتجربة، كان عمره يتناقص فيما تزداد أعمار الناس. إنه بنجامين بوتن (براد بيت بطل فيلم الحالة الغريبة لبنجامين بوتن The Curious Case of Benjamin Button 2008) ذلك الذي ولد عجوزا ومات طفلا رضيعا بعد أن شاهد كل من حوله يشيخون ويقضون هرما، ليذكرنا دوما “إنها الفرص هي ما يصوغ حيواتنا، بما في ذلك تلك الفرص التي نفوّتها”.
مراجعة الأفلام
السينما تعلمنا الحكمة (فيلم “الحالة الغريبة لبنجامين بوتن”)
يؤكد الزهراني أن هذا التفاعل الخلاق بين المجالات الثلاثة (الشعر، والفلسفة، والسينما)، قاد الفيلسوف الفرنسي المهم جيل دولوز لأخذ السينما بجدية، توجها بكتابه المرجعي ذي الجزأين “سينما: الصورة ـ الحركة”، و”سينما: الصورة ـ الزمن”. ويعد دولوز ظهور السينما حدثا علميا مهما، ومرحلة من مراحل تطور مفهوم الحركة العلمي “العلاقة بين المدار والزمن اللازم لقطعه عند كيبلر، مسافة سقوط الأجسام وعلاقتها بزمن السقوط عن غاليلي، نقطة ديكارت على الخط المستقيم المتحرك، الحساب المتنامي الصغر عند نيوتن ولايبنز. في كل مكان، كان التعاقب الآلي للحظات يحل محل النظام الجدلي للوضعيات، ويبدو أن السينما هي فعلا المولود الأخير لهذه السلالة”.
ويقول الزهراني إنه على من يريد تحليل فيلم ما تحليلا منهجيا أن ينتبه إلى وجود ثلاثة جوانب في أيّ فيلم سينمائي، ويحتاج أن يراعيها خلال عمله، هناك أولا قصة ما يحكيها الفيلم، وهناك ثانيا طريقة لسرد هذه القصة، تختصرها عملية إنتاج الفيلم بكل ما تحويه “الإخراج، الأداء، الإنتاج، التكنولوجيا… الخ”. ثم هناك ثالثا رسالة الفيلم التي تشير إلى المعنى أو الخطاب المضمر الذي يبثه الفيلم عبر عرض القصة بطريقة ما.
هذه الجوانب الثلاثة متداخلة، ويكمّل بعضها بعضا، لكننا في بعض الأفلام نجد أن القصة تأخذ حيزا أكبر لقوتها وجاذبيتها ـ مثلا ـ بحيث لا يحتاج، أو بالأحرى يحتاج المنتج للتركيز عليها بطريقة مباشرة، ويمكن أن نضرب مثلا بفيلمThe Shawshank Redemption.
وهناك أعمال سينمائية تتميز بإنتاجها وإخراجها المميز (لعل كثيرا من أفلام كونتن ترنتينو Quentin Tarantino تحضر في الذاكرة الآن. لكننا قد نلاحظ أن تركيز بعض الأعمال يكون منصبا على الرسالة التي يحاول الفيلم تسريبها ولا يعني هذا فشل العمل أو نجاحه بطبيعة الحال)، فالقصة والإنتاج يدخلان ويتدخّلان في هذه المسألة، ويعتقد أننا يمكن أن نضع فيلم “the farther” (الأب) ضمن هذه المجموعة التي تشير إلى الرسالة التي يبثها العمل، بطريقة أخاذة وعجيبة. أداء هوبكنز في الفيلم عبقرية لا تتكرر كثيرا في تاريخ البشرية.
السينما تشترك مع الأدب في القصة التي ترويها وفي طريقة سردها بأدوات مختلفة وفي مساءلتها ونقدها للواقع
ويضيف “يمكن أن أشير أيضا إلى الفيلم القصير والجميل (Two Distant strangers – غريبان تجمعهما حتمية القدر)، بوصفه مثالا جيدا للفيلم الذي يركز على الرسالة مع إنتاج مميز”.
ويؤكد المؤلف أن هناك فرقا بين الأفلام ومراجعة الأفلام؛ إذ يمثل الثاني قراءة مختصرة وعاجلة لا تخلو من الانطباعات الشخصية حول العمل السينمائي أو بعض تقاطعاته مع الواقع، فيما تسعى الورقة النقدية نحو إنتاج نص متكامل يبدأ من تحليل الفيلم بوصفه نصا متكاملا له بنيته الخاصة التي جعلت وجوده وتلقيه مستقلا أمرا ممكنا.
ويتابع الزهراني “يهدف نقد الفيلم إلى مناقشة وسائل إنتاج الفيلم وتقديم بعض النصائح العملية حول ما يمكن تغييره لجعل الفيلم أفضل. لذلك ينصح دائما بمشاهدة الفيلم أكثر من مرة، وتسجيل ملاحظات حول الحبكة، وحول المنهج أو التيار الفكري الذي يتبع له الفيلم، وحول زاوية النظر في الفيلم، وحول الأداء وأجواء الفيلم الجغرافية والتاريخية”.
ويرى أنه خلال المشاهدة الثانية يمكن ملاحظة التفاصيل التي لا تلاحظ في المرة الأولى. كما أن القراءة فيما كتب عن الفيلم وعن فريق العمل من مقالات، وحوارات، وتحقيقات يساعد على استيعاب الفيلم أكثر. خلال هذه المرحلة يمكن للناقد استخلاص خطاب الفيلم، يعني الرسائل التي يسعى الفيلم لإيصالها.
الرواية والفيلم
حين تغلب القصة في الفيلم (فيلم The Shawshank Redemption)
يلفت الزهراني أن الرواية (المقروءة) في الكتاب، والمشاهدة على الشاشة فيلم سينمائي، تشتركان في اتكائهما على الحكاية وعلى السرد. وهو ما يجعل اشتراكهما في عناصر السرد الأخرى أمرا حتميا؛ يعني الزمان والمكان والشخصيات والأحداث والحوار والوصف وغيرها من عناصر السرد وتقنياته.
لكن هذا لا يعني أنهما (الرواية والفيلم) تجربتان متطابقتان؛ فطبيعة التجربة تجعلها تختار نظامها الإشاري، وتوجه تقنياتها السردية وفقا لمقتضياتها، حيث يشترك السرد اللغوي المقروء (النص الروائي) مع السرد الصوري المرئي (النص الفيلم) باعتمادهما على سرد أحداث معينة، وبوصفهما فنين سرديين تتوالى الأحداث في كل منهما بتحولاتها المختلفة. لكن ما يجعل هذين النظامين السرديين مختلفين هو طبيعة أنظمتهما العلامية ووسائطهما.
ويوضح بأن النص الروائي يعتمد أساسا على الكلمة، فيما يعتمد النص الفيلمي على الصورة والصوت. ويرى أنه من الضروري التذكير هنا أن الفيلم السينمائي روائيا كان أو غير ذلك، يعتمد غالبا على ما يسمى بالسيناريو أو نص الفيلم وهو مصطلح ظهر عام 1908، ليشير إلى النص الذي يعتمد عليه المخرج في إنتاج الفيلم؛ حيث يقوم ـ في معظم الأفلام المقتبسة – كاتب متخصص في كتابة السيناريو السينمائي بتحويل الرواية إلى مادة تصلح لأن تكون فيلما سينمائيا.
ويبيّن بأن النص يحتوي في العادة على كل التفاصيل الخاصة بالأحداث والحوارات والشخصيات والخلفيات والملابس والإضاءة وحركة الكاميرا. ومن هنا يكون للفيلم السينمائي كاتب مختلف، غير مؤلف الرواية التي يقتبسها الفيلم، يقصد به كاتب المنشور السينمائي (السيناريو).
الإنتاج السينمائي ليس حكرا على أميركا
ويضيف لذلك يمكن أن يكون الفرق بني التجربتين (المكتوبة والمرئية) في طبيعة الحكاية، أو في التبئير (زاوية الرؤية)، وربما في الثيمة الأساسية للعمل، أو توجيه السرد، أو في اللغة والتقنيات السردية وزمن القصة والخطاب. وقد يتباين تأثير العناصر بين الرواية والفيلم، أو يعاد ترتيبها من حيث الأهمية، بالإضافة إلى إمكانية التركيز على أحداث دون أخرى، وزيادة تفاصيل مختلفة، أو تغييرها، أو حذفها تماما.
ويؤكد أنه إذا كان للرواية المكتوبة ظروفها الثقافية والاجتماعية وقوانينها الفنية، فإن للفيلم السينمائي أيضا ظروفا خاصة به، تتمثل في الجانب الفني التقني، الخاص بالكاميرا (حركة الكاميرا ونوعها وزاويتها، وزاوية اللقطة ونوعها)، ومسائل المونتاج المعقدة، وعالم التمثيل والممثلين، والإخراج، وتقنيات الصوت والسكوت والحركة والإضاءة والخلفيات والألوان.. إلخ.
ويخلص الزهراني إلى أن واحدة من أهم قناعات كتابه تتلخص في أن شعرية السينما تتمحور حول القصة وآليات سردها في الفيلم السينمائي، وذلك لأن النص السينمائي فن أدبي سردي في الأساس، وبقدر ما ينتج الفيلم قصة محكمة ومشوّقة بقدر ما يكون أقرب إلى تحقيق قبول الجماهير ورضا النقاد.
من هنا يقترح منهجية تحليل تنطلق من علم السرديات، وتسعى لتتبع العناصر البنيوية للحكاية في الفيلم وتحليلها، ويعني السلسلة السردية والوظائف (أفعال الشخصيات وأوصافها)، وتقنيات الزمن، وتوظيف المكان، ودراسة زاوية النظر (التبئير) الذي تتحكم فيه الكاميرا بوصفها الراوي الرئيس للفيلم ، بالإضافة إلى بقية العناصر الخاصة بالأزياء والموسيقى والإنارة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي