قرطبة
حاضرة الإمارة وزهرة الخلافة الأموية، قاعدة الأندلس وأم مدائنها. تقع على سفح جبل على منحنى الضفة الشمالية لنهر الوادي الكبير Guadalquivir المصدر الأهم للمياه في جنوبي إسبانيا، مرتفعةً إلى أكثر من 370قدماً فوق مستوى البحر.
واسم قرطبة، يعود إلى أصل فينيقي قرطاجي ويعني (المدينة الصالحة)، وقيل إنه محلي مأخوذ من Salduba الاسم الإيبيري القديم للقيصر أغسطس، فبعد الحرب القرطاجية الثانية أصبحت المدينة مركزاً تجارياً ثرياً مهماً، وغدت مستوطنة رومانية باسم مستوطنة باتريشيا Colonia Patricia منذ 152ق.م، ثم عاصمة لولاية هسبانيا في فترة حكم أغسطس Augustus.
واستمرت في العهد الامبراطوري عاصمةً للولاية بالتناوب مع هيسباليس Hispalis التي أصبحت لاحقاً إشبيليا Sevilleوطليقا Italica.
دُمرت المدينة في العقد الثاني من القرن الخامس الميلادي بسبب الهجمات البربرية (الواندال)، وخضعت للحكم البيزنطي سنة 554م، لكن سرعان ما أخرجهم القوط الغربيون بقيادة الملك ليوفيغيلد 571م Leovigild الذي أخضع إسبانيا كلها للحكم القوطي، وفُرِضَ على إسبانيا كلِها مذهب واحد هو الكاثوليكية زمن ابنه ريكارد Recared.
ولم يحرص القوط على المدينة فبدأت أوضاعها بالانحدار التدريجي من القرن السادس حتى الثامن الميلادي، حتى أصبحت مدينة مدمرة أغلبها، وكانت الأندلس منقسمة دينياً وجغرافياً وعرقياً فكان دخول المسلمين إلى قرطبة فتحاً بلا مقاومةٍ تذكر.
ففي سنة93هـ/711م بعث طارق بن زياد مغيثاً الرومي ـ مولى عبد الملك بن مروان ـ إلى قرطبة في سبعمئة فارس، فتسلق سورها بعمامته، وعامل أهلها بحلمِهِ ورحمته، حتى إن فرسانها من النبلاء أذعنوا لطاعته بعد حصارهم في كنيسة San Acislo غربي المدينة لِما سمعوا من عدله ورأفته.
ولما استقر حكم المسلمين فيها، نقل حاكم الأندلس الحر بن عبد الرحمن الثقفي عاصمة الأندلس من إشبيلية إلى قرطبة سنة (97ـ100هـ/716ـ719م)، وأعاد خليفته السمح بن مالك الخولاني (100ـ102هـ/719ـ721م) بناء الجسر الروماني (القنطرة الرومانية القديمة) والأجزاء المخربة من السور الغربي القديم، وأوجد أول مدفن إسلامي في المدينة (مقبرة الربذ)، بأمر من الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز.
ووضع اللبنة الأولى لجامع قرطبة يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة 133هـ/750م في الشطر الذي تصالح عليه الفاتحون مع أهل المدينة من كنيسة سان بيجنت San Vicente، ليصبح هذا الشطر مركزاً للدعوة الإسلامية.
وبدخول الفاتحين إليها دخلت العرب ومعهم بطون من قبائل البربر، وظهرت عناصر سكانية جديدة كالصقالبة (خليط من الروم الممتزجين مع ألمان أوفرنسيين أو إيطاليين يربون أطفالهم تربية إسلامية)، وقد تعددت الديانات فيها كما تعددت الأعراق، فقد كان عدد النصارى كبيراً في قرطبة ولهم أساقفة ولكلٍ منهم الحرية الدينية الكاملة، واستوطنها اليهود وكان لهم فيها باب يعرف باسمهم.
أعاقت النزاعات القبلية ازدهار المدينة وتطورها في الفترة الأولى، فتأخر عصر الرخاء والثروة حتى عهد عبد الرحمن الداخل [ر] (113ـ172هـ/731ـ788م) الذي جعل منها إمارةً مستقلة عن الخلافة العباسية مستفتحاً عصر الإمارة (138ـ316هـ) باتخاذ قرطبة مكاناً لإقامته وعاصمةً دائمةً ثابتةً لدولته، ومنح المدينة استقراراً مكَّنها من الارتقاء والنمو والازدهار في عصره بشكل عظيم لم تشهد مثله المدن الأندلسية فَعَظُمَت عَمَارتُها، وازْدَاْنَت قصورُها، وازْدَادت مساكنُها وسكانُها، فلما كثر أهلها وضاق بهم المسجد سأل عبد الرحمن أعاجم قرطبة بيع الشطر الباقي من الكنيسة، وأجزل لهم البدل وسمح لهم ببناء الكنائس التي هدمت عليهم خارج قرطبة فباعوه ذلك الشطر، وأدخله في التوسعة التي استغرقت آخر سنتين من حياته 169ـ171هـ، فمكّن خلفاؤه من الإسهام في توسعته.
ونَشُطَ اقتصاد المدينة حتى وصلت إلى حد الاكتفاء الذاتي، فكان بعض الأعيان مثل الطبيب حمد بن أبان الذي عاش عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن لا يأكل إلا من زرعه ولا يلبس إلا من كتان ضيعته، مما أنعش الحياة الفكرية التي كان تألقها واضحاً وفاعلاً في المنطقة، فازدحمت بلاطات الأمراء بالعلماء والشعراء والمغنين أمثال يحيى الغزال (ت250هـ)، وعباس بن ناصح، والقلفاط، وأبو الحسن زرياب (ت نحو 230هـ)، وعباس بن فرناس [ر] (ت 274هـ)، ودخل إلى المدينة مع الأمويين المذهب المالكي الذي انتشر في الأندلس ليحل مكان المذهب الأوزاعي دليلاً على التطور المدني لهذه المدينة التي غدت بحاجة إلى فقه معاملات يتناسب وازدهارها، فكان الأمراء يقربون فقهاء هذا المذهب ويشجعون نشره.
وبظهور الخطر الفاطمي في الجنوب 296هـ/909م أُعْلِنَت الخلافة في الأندلس رداً سياسياً على الخلافة الفاطمية ليبدأ عصر الخلافة في الأندلس، فكثرت الوفود في بلاط قرطبة كوفود الدويلات الإسبانية لإعلان ولائها أو تأكيده، أو لطلب العون العسكري.
وتابعت قرطبة في عصر الخلافة ازدهارها العمراني فأصبح مسجدها أعظم مساجد الأندلس وأفخمها؛ وأخذ الخلفاء يتسابقون للإسهام في عمارته كما تسابقوا في الإسهام في عمران المدينة فأمر الخليفة عبد الرحمن الناصر ببناء مدينة الزهراء، على بعد ساعة ونصف سيراً شمال شرقي قرطبة على سفح جبل أملس، وبدأها ببناء القصر المشيد الفخم المحاط بالحدائق، وخطّ فيها الأسواق وابتنى الحمامات والحانات والقصور والمنتزهات، وبقيت هذه الحاضرة درةً معماريةً أمويةً حتى وقعت ثورة البربر عقب انهيار الدولة العامرية أواخر القرن 4 هـ فاقتحمت الزهراء وقوِّضَت صروحها الفخمة ونهبت. وقد كشف الأثريون الإسبان عن أطلالها في حفرياتهم شمالي نهر الوادي الكبير ويسمى موقعها اليوم قرطبة القديمة Cordoba la Vieja، وقد أعيد تركيب بهو السفراء وبهو عبد الرحمن الناصر في مجلس المؤنس فيها.
كان للحَكَمِ المستنصر بالله (350ـ366هـ) اهتمام بالغ في جمع الكتب ورعاية العلماء فاستحضر العديد منهم مثل أبي علي القالي[ر] (ت356هـ/966م) الذي وفد إليه من المشرق، ولعل من أهم ما يذكر للحَكَم أنه جعل التعليم مجانياً للطبقات الفقيرة، فأنشأ سبعاً وعشرين مدرسة للتعلم، وتكفل بدفع رواتب مدرسيها.
وفي حكم هشام المؤيد والعامريين 366ـ 399هـ/976ـ1008م، شرع الحاجب المتسلط على الحُكْمِ ابن أبي عامر (367هـ/977م) سنة 368هـ ببناء مدينة أخرى متصلة بقرطبة أسماها الزاهرة على وقفٍ للخليفة الحَكَم، وبدأه بقصرٍ بديع زينه بالذهب واللازورد والجواهر، واجتلب إليها العامة إذ أمر مناديه بالنداء في أقطار الأندلس جميعها أنه من أراد أن يبتني داراً بجوار السلطان فله من المعونة أربعمئة درهم، فتكاثفت الأبنية وتزايدت فيها الرغبة وكادت أبنيتها تتصل بقرطبة، ونقل إليها بيت ماله وديوانه ومحبسه وخزائنه وذخائره.
وقد شهدت قرطبة في هذه الفترة صراعات كثيرة على الحكم، وشهدت صراعات فكرية إذ أُحْرِقَت فيها كتب الفلسفة القديمة وفقدت روح التسامح العلمي التي سادت في عصر المستنصر، ونشأت فتنة عام 399هـ كان لبني حمود ـ المنتمين إلى الأدارسة نسباً ـ دور بارز فيها حتى أصبح علي بن حمود أول خليفة غير أموي في الأندلس وعندما اغتيل سنة 400هـ/1016م استمر الصراع في خَلَفَه حتى ثار عليهم القرطبيون وخلعوهم.
واستمر الصراع في الأندلس بعد حكم العامريين لها حتى خلعَ أبو الحزم بن جهور ـ من موالي الأمويين ـ آخر الخلفاء الأمويين فيها 422ـ435هـ، وألغيت الخلافة ونودي في الأسواق بألا يبقى من الأمويين بقرطبة وألا يكنَفهم أحد، وبدأ عصر دول الأرستقراطية والأشراف وبقيت قرطبة العاصمة التي حافظت على الوظائف النبيلة في حين كانت إشبيلية مركز أرستقراطية النسب في تلك الفترة، وعمل ابن جهور على إحياء المدينة المخربة المقفرة في ظل حكم قريب من الشورى، وأفلح في إعادة عجلة العمل إلى الدوران وفي توفير السلام لها بمسالمة كل من حولها، إلا أن ظهور الانقسامات في صفوف بني جهور ساعد بني عباد على الاستيلاء على قرطبة سنة 461هـ/1068م.
فقدت المدينة دورها بعد خضوعها لسلطان المرابطين لِمَا كانت الأندلس تلاقيه من صراعات، ولم تعد قرطبة المدينة المحورية في ذلك الإقليم، لكنها كانت تشارك المرابطين بإمدادهم بالجند للجهاد ضد الفرنج، وكان المرابطون يردون الإحسان بمثله؛ فأسهم يوسف بن تاشفين في ترميم وتطوير مساجد قرطبة وتوفير السقاية لها، وإعمال حماماتها وخاناتها.
وعلى الرغم من خفوت بريق المدينة إلا أن إشعاعها الثقافي والفكري استمر في فترة المرابطين الذين اضطربت أمور دولتهم بدءاً من سنة 514هـ، واستمر في عهد الموحدين كإرثٍ حضاريٍ، فحافظوا عليه وأدَّوا إليه حقه؛ فغصت المساجد بالمتعلمين وغدت دورُ العلماء وقصورُ الأمراء والأعيان مجالس للعلم.
ظل الموحدون متماسكين حتى 620هـ/1223م لانشغال أعدائهم، ثم بدأ الصراع بين أمرائهم الحاكمين في الأندلس على عرش الخلافة الموحدية، وأخذ بعضهم يستعين على بعض بالإسبان. وكانت المدن تثور على أمرائها خشية دخول الإسبان إليها كما فعلت قرطبة بُعيد سنة620هـ التي ثارت على يحيى بن محمد الناصر لاستنجاده بالملك الإسباني الذي قدم له معونة من الجند لإخضاع موحدي مراكش مقابل عشرة حصون أندلسية، والسماح للجند الإسبان بإقامة كنيسة في مراكش وحرية التبشير بين المسلمين، فاضطربت مدن الأندلس على حكامها، فاستغل الإسبان ذلك واحتلوا قرطبة في شوال سنة 633هـ/1236م وسقطت بيد فرديناند الثالث Ferdinand III ملك قشتال.
واتخذ الإسبان المسيحيون قرطبة قاعدةً عسكرية لمهاجمة المسلمين على حدود مملكة غرناطة المسلمة، وكان في ذلك تسارعٌ في الانهيار الثقافي والاقتصادي للمدينة؛ فخرّبت عمارتها واضمحل دورها تماماً،
وخضعت المدينة إلى حملة تنصير معماري وصفها الآثاريون الإسبان بأنها تشويهية حاقدة فبعد سقوط المدينة في أيام شارلكان (شارل الخامس) استأذن أسقف قرطبة أن يسبغ على المسجد الجامع الحلة النصرانية، فأذن له وأقيم هيكل كبير يتوسط المسجد فاقتلعت قبته ودُمِّر سقفه وعُمِّي عليه بسد نوافذه، ولما رأى شارلكان بناء الأسقفية داخل الجامع أبدى سخطه الشديد وقال: «عمل النصارى كان ضئيلاً باهتاً»، واستمر التشويه إذ أزيلت منارته سنة 1593م وأقيم فوق أنقاضها برجٌ للأجراس ليرتفع عن المئذنة البديعة المدمرة، فحمل الأثريون الإسبان بشدة على ذلك التشويه وخاصة كونتريراس R.Contreras الذي عد ذلك تدنيساً للفن.
كان ازدهار المدينة في حكم المسلمين أكبر من أن تخفيه بعض المراجع الغربية التي كانت تقفز في أثناء سردها لتاريخ المدينة فوق ثبت ارتقائها وازدهارها في تلك العصور، إذ يذكر ابن حوقل عنها حين زارها في خلافة الناصر (337هـ): «وهي أعظم مدينة بالأندلس، وليس بجميع المغرب لها عندي شبه ولا بالجزيرة والشام ومصر....»، وقد بلغ عدد دور قرطبة أيام الحاجب المنصور وربضها 11377داراً للرعية، وللأمراء والوزراء والرؤساء 60300دار، وبها 13875مسجداً، و 435قصراً للخلفاء، وقد أحاط بها أربعون ربضاً شكلوا مع قصبة المدينة خمس مدن لكلٍ منها عريفها وحرسها، وبلغ عدد سكانها ذلك الوقت نحو800 ألف إلى مليون نسمة يسيرون في الطرقات على أضوائها؛ الأمر الذي لم تعرفه لندن إلا بعد 7 قرون، وكان بخارج قرطبة 3000 قرية وبلغت جبايتها 3 ملايين دينار.
وبعملية التنصير تلك لم يبق من قرطبة الإسلامية سوى بعض الأسماء التي تحملها بعض الشوارع الصغيرة كـ«المنصور» و«ابن رشد» و«ابن ميمون»، وبقية المسجد الجامع وبعض الدروب.
لا تعد قرطبة اليوم من المدن الإسبانية الكبيرة، وهي ليست في مرتبة بلنْسية أو إشبيلية في الاتساع أو الكثافة.
جواد معين ترجمان
واسم قرطبة، يعود إلى أصل فينيقي قرطاجي ويعني (المدينة الصالحة)، وقيل إنه محلي مأخوذ من Salduba الاسم الإيبيري القديم للقيصر أغسطس، فبعد الحرب القرطاجية الثانية أصبحت المدينة مركزاً تجارياً ثرياً مهماً، وغدت مستوطنة رومانية باسم مستوطنة باتريشيا Colonia Patricia منذ 152ق.م، ثم عاصمة لولاية هسبانيا في فترة حكم أغسطس Augustus.
واستمرت في العهد الامبراطوري عاصمةً للولاية بالتناوب مع هيسباليس Hispalis التي أصبحت لاحقاً إشبيليا Sevilleوطليقا Italica.
دُمرت المدينة في العقد الثاني من القرن الخامس الميلادي بسبب الهجمات البربرية (الواندال)، وخضعت للحكم البيزنطي سنة 554م، لكن سرعان ما أخرجهم القوط الغربيون بقيادة الملك ليوفيغيلد 571م Leovigild الذي أخضع إسبانيا كلها للحكم القوطي، وفُرِضَ على إسبانيا كلِها مذهب واحد هو الكاثوليكية زمن ابنه ريكارد Recared.
ولم يحرص القوط على المدينة فبدأت أوضاعها بالانحدار التدريجي من القرن السادس حتى الثامن الميلادي، حتى أصبحت مدينة مدمرة أغلبها، وكانت الأندلس منقسمة دينياً وجغرافياً وعرقياً فكان دخول المسلمين إلى قرطبة فتحاً بلا مقاومةٍ تذكر.
ففي سنة93هـ/711م بعث طارق بن زياد مغيثاً الرومي ـ مولى عبد الملك بن مروان ـ إلى قرطبة في سبعمئة فارس، فتسلق سورها بعمامته، وعامل أهلها بحلمِهِ ورحمته، حتى إن فرسانها من النبلاء أذعنوا لطاعته بعد حصارهم في كنيسة San Acislo غربي المدينة لِما سمعوا من عدله ورأفته.
ولما استقر حكم المسلمين فيها، نقل حاكم الأندلس الحر بن عبد الرحمن الثقفي عاصمة الأندلس من إشبيلية إلى قرطبة سنة (97ـ100هـ/716ـ719م)، وأعاد خليفته السمح بن مالك الخولاني (100ـ102هـ/719ـ721م) بناء الجسر الروماني (القنطرة الرومانية القديمة) والأجزاء المخربة من السور الغربي القديم، وأوجد أول مدفن إسلامي في المدينة (مقبرة الربذ)، بأمر من الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز.
قرطبة: المسجد الكبير |
وبدخول الفاتحين إليها دخلت العرب ومعهم بطون من قبائل البربر، وظهرت عناصر سكانية جديدة كالصقالبة (خليط من الروم الممتزجين مع ألمان أوفرنسيين أو إيطاليين يربون أطفالهم تربية إسلامية)، وقد تعددت الديانات فيها كما تعددت الأعراق، فقد كان عدد النصارى كبيراً في قرطبة ولهم أساقفة ولكلٍ منهم الحرية الدينية الكاملة، واستوطنها اليهود وكان لهم فيها باب يعرف باسمهم.
أعاقت النزاعات القبلية ازدهار المدينة وتطورها في الفترة الأولى، فتأخر عصر الرخاء والثروة حتى عهد عبد الرحمن الداخل [ر] (113ـ172هـ/731ـ788م) الذي جعل منها إمارةً مستقلة عن الخلافة العباسية مستفتحاً عصر الإمارة (138ـ316هـ) باتخاذ قرطبة مكاناً لإقامته وعاصمةً دائمةً ثابتةً لدولته، ومنح المدينة استقراراً مكَّنها من الارتقاء والنمو والازدهار في عصره بشكل عظيم لم تشهد مثله المدن الأندلسية فَعَظُمَت عَمَارتُها، وازْدَاْنَت قصورُها، وازْدَادت مساكنُها وسكانُها، فلما كثر أهلها وضاق بهم المسجد سأل عبد الرحمن أعاجم قرطبة بيع الشطر الباقي من الكنيسة، وأجزل لهم البدل وسمح لهم ببناء الكنائس التي هدمت عليهم خارج قرطبة فباعوه ذلك الشطر، وأدخله في التوسعة التي استغرقت آخر سنتين من حياته 169ـ171هـ، فمكّن خلفاؤه من الإسهام في توسعته.
ونَشُطَ اقتصاد المدينة حتى وصلت إلى حد الاكتفاء الذاتي، فكان بعض الأعيان مثل الطبيب حمد بن أبان الذي عاش عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن لا يأكل إلا من زرعه ولا يلبس إلا من كتان ضيعته، مما أنعش الحياة الفكرية التي كان تألقها واضحاً وفاعلاً في المنطقة، فازدحمت بلاطات الأمراء بالعلماء والشعراء والمغنين أمثال يحيى الغزال (ت250هـ)، وعباس بن ناصح، والقلفاط، وأبو الحسن زرياب (ت نحو 230هـ)، وعباس بن فرناس [ر] (ت 274هـ)، ودخل إلى المدينة مع الأمويين المذهب المالكي الذي انتشر في الأندلس ليحل مكان المذهب الأوزاعي دليلاً على التطور المدني لهذه المدينة التي غدت بحاجة إلى فقه معاملات يتناسب وازدهارها، فكان الأمراء يقربون فقهاء هذا المذهب ويشجعون نشره.
وبظهور الخطر الفاطمي في الجنوب 296هـ/909م أُعْلِنَت الخلافة في الأندلس رداً سياسياً على الخلافة الفاطمية ليبدأ عصر الخلافة في الأندلس، فكثرت الوفود في بلاط قرطبة كوفود الدويلات الإسبانية لإعلان ولائها أو تأكيده، أو لطلب العون العسكري.
وتابعت قرطبة في عصر الخلافة ازدهارها العمراني فأصبح مسجدها أعظم مساجد الأندلس وأفخمها؛ وأخذ الخلفاء يتسابقون للإسهام في عمارته كما تسابقوا في الإسهام في عمران المدينة فأمر الخليفة عبد الرحمن الناصر ببناء مدينة الزهراء، على بعد ساعة ونصف سيراً شمال شرقي قرطبة على سفح جبل أملس، وبدأها ببناء القصر المشيد الفخم المحاط بالحدائق، وخطّ فيها الأسواق وابتنى الحمامات والحانات والقصور والمنتزهات، وبقيت هذه الحاضرة درةً معماريةً أمويةً حتى وقعت ثورة البربر عقب انهيار الدولة العامرية أواخر القرن 4 هـ فاقتحمت الزهراء وقوِّضَت صروحها الفخمة ونهبت. وقد كشف الأثريون الإسبان عن أطلالها في حفرياتهم شمالي نهر الوادي الكبير ويسمى موقعها اليوم قرطبة القديمة Cordoba la Vieja، وقد أعيد تركيب بهو السفراء وبهو عبد الرحمن الناصر في مجلس المؤنس فيها.
كان للحَكَمِ المستنصر بالله (350ـ366هـ) اهتمام بالغ في جمع الكتب ورعاية العلماء فاستحضر العديد منهم مثل أبي علي القالي[ر] (ت356هـ/966م) الذي وفد إليه من المشرق، ولعل من أهم ما يذكر للحَكَم أنه جعل التعليم مجانياً للطبقات الفقيرة، فأنشأ سبعاً وعشرين مدرسة للتعلم، وتكفل بدفع رواتب مدرسيها.
وفي حكم هشام المؤيد والعامريين 366ـ 399هـ/976ـ1008م، شرع الحاجب المتسلط على الحُكْمِ ابن أبي عامر (367هـ/977م) سنة 368هـ ببناء مدينة أخرى متصلة بقرطبة أسماها الزاهرة على وقفٍ للخليفة الحَكَم، وبدأه بقصرٍ بديع زينه بالذهب واللازورد والجواهر، واجتلب إليها العامة إذ أمر مناديه بالنداء في أقطار الأندلس جميعها أنه من أراد أن يبتني داراً بجوار السلطان فله من المعونة أربعمئة درهم، فتكاثفت الأبنية وتزايدت فيها الرغبة وكادت أبنيتها تتصل بقرطبة، ونقل إليها بيت ماله وديوانه ومحبسه وخزائنه وذخائره.
وقد شهدت قرطبة في هذه الفترة صراعات كثيرة على الحكم، وشهدت صراعات فكرية إذ أُحْرِقَت فيها كتب الفلسفة القديمة وفقدت روح التسامح العلمي التي سادت في عصر المستنصر، ونشأت فتنة عام 399هـ كان لبني حمود ـ المنتمين إلى الأدارسة نسباً ـ دور بارز فيها حتى أصبح علي بن حمود أول خليفة غير أموي في الأندلس وعندما اغتيل سنة 400هـ/1016م استمر الصراع في خَلَفَه حتى ثار عليهم القرطبيون وخلعوهم.
واستمر الصراع في الأندلس بعد حكم العامريين لها حتى خلعَ أبو الحزم بن جهور ـ من موالي الأمويين ـ آخر الخلفاء الأمويين فيها 422ـ435هـ، وألغيت الخلافة ونودي في الأسواق بألا يبقى من الأمويين بقرطبة وألا يكنَفهم أحد، وبدأ عصر دول الأرستقراطية والأشراف وبقيت قرطبة العاصمة التي حافظت على الوظائف النبيلة في حين كانت إشبيلية مركز أرستقراطية النسب في تلك الفترة، وعمل ابن جهور على إحياء المدينة المخربة المقفرة في ظل حكم قريب من الشورى، وأفلح في إعادة عجلة العمل إلى الدوران وفي توفير السلام لها بمسالمة كل من حولها، إلا أن ظهور الانقسامات في صفوف بني جهور ساعد بني عباد على الاستيلاء على قرطبة سنة 461هـ/1068م.
فقدت المدينة دورها بعد خضوعها لسلطان المرابطين لِمَا كانت الأندلس تلاقيه من صراعات، ولم تعد قرطبة المدينة المحورية في ذلك الإقليم، لكنها كانت تشارك المرابطين بإمدادهم بالجند للجهاد ضد الفرنج، وكان المرابطون يردون الإحسان بمثله؛ فأسهم يوسف بن تاشفين في ترميم وتطوير مساجد قرطبة وتوفير السقاية لها، وإعمال حماماتها وخاناتها.
وعلى الرغم من خفوت بريق المدينة إلا أن إشعاعها الثقافي والفكري استمر في فترة المرابطين الذين اضطربت أمور دولتهم بدءاً من سنة 514هـ، واستمر في عهد الموحدين كإرثٍ حضاريٍ، فحافظوا عليه وأدَّوا إليه حقه؛ فغصت المساجد بالمتعلمين وغدت دورُ العلماء وقصورُ الأمراء والأعيان مجالس للعلم.
ظل الموحدون متماسكين حتى 620هـ/1223م لانشغال أعدائهم، ثم بدأ الصراع بين أمرائهم الحاكمين في الأندلس على عرش الخلافة الموحدية، وأخذ بعضهم يستعين على بعض بالإسبان. وكانت المدن تثور على أمرائها خشية دخول الإسبان إليها كما فعلت قرطبة بُعيد سنة620هـ التي ثارت على يحيى بن محمد الناصر لاستنجاده بالملك الإسباني الذي قدم له معونة من الجند لإخضاع موحدي مراكش مقابل عشرة حصون أندلسية، والسماح للجند الإسبان بإقامة كنيسة في مراكش وحرية التبشير بين المسلمين، فاضطربت مدن الأندلس على حكامها، فاستغل الإسبان ذلك واحتلوا قرطبة في شوال سنة 633هـ/1236م وسقطت بيد فرديناند الثالث Ferdinand III ملك قشتال.
واتخذ الإسبان المسيحيون قرطبة قاعدةً عسكرية لمهاجمة المسلمين على حدود مملكة غرناطة المسلمة، وكان في ذلك تسارعٌ في الانهيار الثقافي والاقتصادي للمدينة؛ فخرّبت عمارتها واضمحل دورها تماماً،
وخضعت المدينة إلى حملة تنصير معماري وصفها الآثاريون الإسبان بأنها تشويهية حاقدة فبعد سقوط المدينة في أيام شارلكان (شارل الخامس) استأذن أسقف قرطبة أن يسبغ على المسجد الجامع الحلة النصرانية، فأذن له وأقيم هيكل كبير يتوسط المسجد فاقتلعت قبته ودُمِّر سقفه وعُمِّي عليه بسد نوافذه، ولما رأى شارلكان بناء الأسقفية داخل الجامع أبدى سخطه الشديد وقال: «عمل النصارى كان ضئيلاً باهتاً»، واستمر التشويه إذ أزيلت منارته سنة 1593م وأقيم فوق أنقاضها برجٌ للأجراس ليرتفع عن المئذنة البديعة المدمرة، فحمل الأثريون الإسبان بشدة على ذلك التشويه وخاصة كونتريراس R.Contreras الذي عد ذلك تدنيساً للفن.
كان ازدهار المدينة في حكم المسلمين أكبر من أن تخفيه بعض المراجع الغربية التي كانت تقفز في أثناء سردها لتاريخ المدينة فوق ثبت ارتقائها وازدهارها في تلك العصور، إذ يذكر ابن حوقل عنها حين زارها في خلافة الناصر (337هـ): «وهي أعظم مدينة بالأندلس، وليس بجميع المغرب لها عندي شبه ولا بالجزيرة والشام ومصر....»، وقد بلغ عدد دور قرطبة أيام الحاجب المنصور وربضها 11377داراً للرعية، وللأمراء والوزراء والرؤساء 60300دار، وبها 13875مسجداً، و 435قصراً للخلفاء، وقد أحاط بها أربعون ربضاً شكلوا مع قصبة المدينة خمس مدن لكلٍ منها عريفها وحرسها، وبلغ عدد سكانها ذلك الوقت نحو800 ألف إلى مليون نسمة يسيرون في الطرقات على أضوائها؛ الأمر الذي لم تعرفه لندن إلا بعد 7 قرون، وكان بخارج قرطبة 3000 قرية وبلغت جبايتها 3 ملايين دينار.
وبعملية التنصير تلك لم يبق من قرطبة الإسلامية سوى بعض الأسماء التي تحملها بعض الشوارع الصغيرة كـ«المنصور» و«ابن رشد» و«ابن ميمون»، وبقية المسجد الجامع وبعض الدروب.
لا تعد قرطبة اليوم من المدن الإسبانية الكبيرة، وهي ليست في مرتبة بلنْسية أو إشبيلية في الاتساع أو الكثافة.
جواد معين ترجمان