اكتشف علماء الفضاء أثرًا كونيًّا من بداية نشأة الكون، يكشف عن وقت نشوء أولّ نجمة للحياة. وخلال رحلة بحثهم في هذا الأثر، من المحتمل أنّهم عثروا عن دليل غريب عن المادة المظلمة، والتي بدورها أثّرت على نشأة كوننا في بداياته.
ولكن قبل أنّ نوضّح ما هو هذا الأثر، سنخوض في بعض التفاصيل التي حدثت مع حدوث الانفجار العظيم – Big Bang، أي قبل 13.8 مليار عام. في تلك المرحلة، كان الكون عبارةً عن دوّامة كبيرة وغير منتظمة من البلازما مرتفعة الحرارة، والتي هي تجمّعٌ عالي الكثافة لجسيمات بشحنة كبيرة، أو “متأيّنة – Ionized”. فيما بعد، انخفضت درجةً حرارة البلازما وبدأ الكون بالتّوسّع، وبدأت ذرّات الهيدروجين المتعادل بالتشكّل (وهنا نقصد ذرّات الهيدروجين المكوّنة من بروتون واحد وإلكترون) قبل 370 ألف عام، والتي بدورها ساهمت في تكوّن أول نجم في الكون مطلقًا أشعّة إكس قويّةً جدًا.
متى حدث الفجرّ الكونيّ بالتّحديد؟
سؤالٌ فتح نقاشًا هامًّا وناقص المعطيات بعض الشّيء، وذلك لأنّ الضوء القادم من النّجوم التي تشكّلت في بداية الكون ضعيفٌ جدًا، وصعب التّتبّع، حتى على أكثر أجهزة القياس تطوّرًا.
ساهم أحد لاقطات الإشارات الموجودة في غرب أستراليا في تسوية النّقاش. وهو يتبع مشروعًا يهدف إلى تتبّع نوع آخر من اشعاعات الكون القديمة، وهو ما يسمى بـ”إشعاع الخلفيّة الكونيّة – Cosmic Microwave Background”، ويسمى أيضًا بـ”شفق الانفجار العظيم”. إنّ الأمر الجيّد حول هذه الإشعاعات أنّها متواجدة بكثرة في أرجاء الكون، وأنّها قديمةٌ قدم الانفجار العظيم.
إشارةٌ شديدة الأهمّية: تراجعٌ في الوقت
لنرجع مرّةً أخرى إلى بدايات الكون، عندما عبرت فوتونات إشعاع الخلفيّة الكونيّ من خلال الهيدروجين المحايد الموجود في الفضاء، أيّ في فترة نشوء النجوم الأولى في الكون، تضمّنتها معلوماتٌ حول ولادة هذه النّجوم. ومع مرور مليارات السنين لاحقًا، رأى العلماء إشارةً عنها، أثرٌ رجعيّ موجودٌ في تردّد معيّن.
يقول جاد باومان – عالم فضاء من جامعة أريزونا -: «هذه المرّة الأولى التي نلمح فيها إشارةً قديمةً بهذا الشّكل، قريبةٌ من الانفجار العظيم».
إنّ إيجاد هذه الإشارة لم يكن مهمّةً سهلة. قضى الباحثون عامين في محاولة إثباتها والتأكّد من نتائجهم، وحاولوا معرفة ما إذا كانت هذه الإشارة نافذةً ستأخذنا إلى الفجر الكونيّ أم مجرّد إشارة مشتّتة من إحدى المجرّات. حتّى أنّهم اضطرّوا وبعناء شديد استثناء الموجات الناتجة من نشاطات الإنسان على الأرض وحولها.
ويوضّح باومان: «اجتزنا هذه المعضلات بعد عامين كاملين، ولم نستطع إيجاد تفسير منطقيّ آخر. وفي هذه المرحلة، بدأ الحماس».
عثر على الإشارة السّابق ذكرها على تردّد 78 ميجاهيرتز. وذلك يؤوّل لعدّة أسباب: أنّ أشعّة إكس القويّة الناتجة عن النّجوم القديمة أخذت سلوك الهيدروجين المتعادل. وبذلك، فإنّ فوتونات الإشعاع الخلفيّ انتقلت عبر غاز الهيدروجين واكتسبت تردّدًا معيّنًا. وبدلًا من البحث عن الإشعاع، بحث علماء الفضاء عن الامتصاص، أو عن تردّد موجات الإشعاع الكونيّ المفقودة.
وبما أنّ الكون يتوسّع مع مرور الوقت، فإنّ “رابطة الامتصاص” هذه أصبحت أكثر امتدادًا. مع معرفة هذه المعلومة، استطاع العلماء حساب عمر هذه الموجات من خلال حساب كم امتدّت مع توسّع الكون بشكل دقيق. وكنتيجة لما سبق، قدّر العلماء عمر أول نجمة بما لا يقلّ عن 180 مليون عام بعد الانفجار العظيم.
إنّ حياة النّجوم الأولى في الكون كانت شديدةً وسريعة، مشتعلةً ومتوهّجةً بشكل كبير، وعمرها قصير، كأنّها مستعرٌ أعظم – Supernova. إنّ استهلاك كتلة النّجوم بسبب اشتعالها بهذه القوّة ولّد إشعاعات ذات طاقة عالية، والتي بدورها رفعت حرارة الهيدروجين المتعادل الذي سافرت من خلاله. هذا حدث قبل ما يقارب 250 مليون عام بعد الانفجار العظيم. ومن هذه المعلومات كلّها، أنتج العلماء نافذةٌ تسمح لهم بمعرفة الكون واستكشاف الفجر الكونيّ في فترة ما بعد الانفجار العظيم بـ 180 مليون عام إلى 70 مليون عام لاحقًا، وهي الفترة التي تمثّل بداية النّجوم في الكون.
إنّ الرجوع في تاريخ العمارة الكونيّة قد يؤدّي إلى حصول تغيير كبير في وجهة نظرنا حول بدايات الكون. كانت النّجوم الأولى بمثابة مصانع تنتج العناصر الثّقيلة لكوننا. كما شكّلت هذه العناصر الثقيلة اللبنة الأساسيّة للنجوم في الكون، أي أنّها كانت البذور الأولى لبقيّة النّجوم، وقامت بدورها بإنتاج المزيد والمزيد من العناصر الثقيلة، والتي تحوّلت فيما بعد إلى الأجسام الموجودة في الكون بمختلف أشكالها وتكوينها. بل يمكننا القول أنّها شكّلت الحياة كما نعرفها الآن. لهذا، من المهمّ جدًا دراسة كيمياء الكون البدائيّ المتنوّعة.
أضاف باومان في هذا السّياق: «إذا كنّا مهتمّين فعلًا بدراسة السّلّم الكونيّ لأصولنا، هذه هي الخطوة الحرجة والمهمّة في هذا المجال».
مادّة المادّة المظلمة
في دراسات أخرى حول إشارات إشعاع الخلفيّة الكونية، قامت مجموعة بحث بدراسة التّردّد 78 ميجاهيرتز مرّةً أخرى. وبالرّغم مما تتوقّعه الحسابات النظريّة حول الطاقّة المطلقة في الفترة البدائيّة للكون، إلّا أنّ الطاقة الفعليّة تساوي ضعف ما توقّع العلماء. هذا قد يعني أنّ الإشعاع في فترة الفجر الكونيّ ضعف ما توقّعه العلماء نظريًّا، أو أنّ الهيدروجين المتعادل قد تمّ تبريده بواسطة شيء ما. إذا تمّ إثبات تبريد الهيدروجين، سيكون هذا الشيء هو الطاقة المظلمة.
وكما نعرف مسبقًا، فإنّ المادّة المظلمة يتمّ اعتبارها نظريًّا بأنّها معظم مادّة الكون. يعلم علماء الفضاء أنّها موجودة من خلال حسابات غير مباشرة، لكنّهم لا يستطيعون رؤيتها مباشرةً. إنّ تفاعلها ضعيف، لذلك لا يمكن ضبطها مباشرةً، بل يمكننا ملاحظتها من خلال جاذبيّتها. وفي السابق، أي عندما كانت بداية نشوء النّجوم، كانت المادّة المظلمة باردة نظريًّا.
بما معناه: اذا كانت الطّاقة قد تضخّمت بسبب الطّاقة المظلمة الباردة، ستكون الجزيئات أصغر مما يتوقّعه نموذج الطّاقة المظلمة. بكلمات أخرى: قد يصقل هذا البحث طريقتنا في البحث عن الطاقة المظلمة، وقد يفسّر لماذا لم يكتشف الفيزيائيّون ماهيّتها.
ويضيف باومان: «إذا تمّ إثبات هذه الفكرة، سنكون قد تعلّمنا شيئًا جديدًا وأساسيًّا حول الطّاقة المظلمة، والتي تشكّل ما يقارب 85% من مادّة الكون. هذا الأمر سيعطينا لمحةً عن الفيزياء الخارجة عن مألوف نماذجنا المعتادة».
هذه الاكتشافات تعتبر هامّةً جدًا بلا شك، ومن الممكن أن تحدث ثورةً في تصوّرنا للكون، وهذه ليست إلّا بدايةً للباحثين للبدء في سنوات طويلة من البحوث المركّزة. وتتكافل عدّة منظّمات في دراسة تردّد الطاقة السابق ذكره. مثل: مشروع HERA في صحراء جنوب أفريقيا، ومشروع LOFAR في أوروبا. إذا كانت الطّاقة المظلمة مسؤولة عن تضخيم هذه الإشارة، سيتوجّب على علماء الفضاء إيجاد نمط مختلف عمّا سبق.
وبالرّغم من أنّه لا يزال أمام العلماء المزيد والمزيد من العمل الجاد للوصول إلى دلائل أكثر حتى يحصلوا على اكتشاف جديد، إلّا أنّه من المثير جدًّا أنّ هذه القفزة النوّعية ستفتح لنا نافذةً للفجر الكونيّ، وطريقةً لفهم الطاقة المظلمة أيضًا!