ابن باجه (محمد بن يحيى-)
باجه (محمد يحيي)
Ibn Bajja (Mohammad bin yahia-) - Ibn Bajja (Mohammad ben yahia-)
ابن باجّه (محمد بن يحيى ـ)
(… ـ 533هـ/ … ـ 1138م)
أبو بكر محمد بن يحيى التُجيبي السَرَقُسطي، الملقّب بابن باجّه Aven pace (الباجّه بتشديد الجيم هي الفضة بلغة الفرنجة الأندلسيين)، ولعل أسرته كانت تشتغل بالصياغة، فعُرف بابن الصائغ، عالم بالفلسفة واللغة والأدب والطب والموسيقى، وشاعر.
وُلِد في سَرَقُسطة Zaragoza في الثغر الأعلى من الأندلس، ألمّ بعلوم الثقافة الإسلامية في عصره، وبعلوم اليونان، واشتهر بتضلّعه في الفلسفة والطب والموسيقى، ونظم الشعر.
عمل زهاء عشرين عاماً كاتباً ووزيراً لأبي إبراهيم بن تيفلويت المَسوفي صهر علي بن يوسف بن تاشفين، وأخباره معه كثيرة. وبعد وفاة ابن تيفلويت عام 510هـ/1116م، وقيل بعد سُقوط سرقسطة بيد ألفونسو الأول ملك أرغون Aragon عام 512هـ/1118م، غادر ابن باجّه سرقسطة إلى جنوبي الأندلس، فسكن المريّة وغرناطة وارتحل إلى فاس، وفيها اتُّهم بالإلحاد ومات مسموماً.
كان بينه وبين بعض أعلام الأندلسيين خصومة شديدة، ومن هؤلاء ابن زهر[ر] (ت557هـ/1162م) والفتح بن محمد بن خاقان[ر] (ت528هـ/1134م). وقد حمل عليه ابن خاقان حملة عنيفة في كتابه «قلائد العقيان» واتهمه بالإلحاد.
كان ابن باجّه أول الواقفين في الأندلس والمغرب على فلسفة المشائين فشرح قضاياها، ومهد الطريق لمن جاء بعده، ومنهم ابن رشد[ر] (ت595هـ/1198م) الذي بثّ في كتاب «النفس» بعضاً من آراء ابن باجّه، واعترف بفضله في حقل الفلسفة. ومن أشهر تلامذة ابن باجّه أبو الحسن علي بن الإمام وابن رشد.
ولفلسفة ابن باجّه قيمتان أساسيتان، أولاهما أنه بنى الفلسفة العقلية على أسس الرياضيات والطبيعيات فنزع عن الفلسفة الإسلامية سيطرة الجدل، وخلع عليها لباس العلم. وثانيتهما أنه أول فيلسوف في الإسلام فصل بين الدين والفلسفة في البحث، وانصرف إلى العقل ولهذا اتهم بالإلحاد والخروج عن تعاليم الدين، وقد لام أبا حامد الغزالي[ر] (505هـ/1111م) لميله إلى التصوف. وقال: إن الإنسان يستطيع بلوغ السعادة عن طريق العلم والتفكير لا بإماتة الحواس وتجسيم الخيال، كما يفعل المتصوفون، وقد رأى أن الغزالي خدع نفسه، وخدع الناس حين قال في كتابه «المنقذ من الضلال» إنه بالخلوة ينكشف العالم للإنسان.
وتأثر ابن باجّه بتعاليم الفارابي[ر] (339هـ/951م) وبآرائه في «المدينة الفاضلة»، وحذا حذوه في تسميتها بالكاملة الفاضلة، وقال إنه لا حاجة فيها إلى طبيب أو قاضٍ لانتفاء وجود ما يستدعي وجودهما.
كان ابن باجّه البادئ في إطلاق خطاب فلسفي جديد متحرر من علم الكلام وإشكاليته، ومن هاجس التوفيق والتلفيق الذي استولى على فلاسفة المشرق. وقد ظهرت أصالته في بحوثه الفلسفية في اختلافه مع أرسطو[ر] في موضوع الحركة، وتجديده في هذا الميدان، ووضعه نظرية جديدة في الحركة، حتى عدّه بعض الدارسين ممهداً لظهور غاليلو[ر] مؤسس العلم الطبيعي الحديث. وظهرت أصالته كذلك في الرسائل التي ألّفها في الإلهيات والتي خالف فيها الفارابي وابن سينا (ت428هـ/1037م)، وأظهر فيها تحرره من النزعة التصوفية التي انتشرت لدى المشارقة.
يمكن أن يطلق على فلسفة ابن باجّه اسم «علم الإنسان» فقد كان جل ما تناوله فيها يبحث في ميدان الإنسان، والفكرة الأساسية التي أضافها إلى التراث الفلسفي هي ما يتصل باتحاد العقل الفعّال بالإنسان.
ولابن باجّه خطرات شعرية ينثرها أشتاتاً في كل اتجاه، وقد نظم في الموشح ويُروى أن ابن تيفلويت أعجب بموشح مدحه فيه فحلف ألاّ يمشي الشاعر إلى داره إلا على الذهب، فجعل ابن باجّه في نعله ذهباً، ليبرّ يمينه. وشعره دقيق المعاني، أكثره في المديح والهجاء والرثاء والنسيب، من ذلك قوله في مديح الملثمين:
قوم إذا انتقبوا رأيتَ أهلّة
وإذا همُ سَفروا رأيت بدوراً
وقوله في رثاء أبي بكر الصنهاجي:
وسألنا متى اللقاءُ فقيلَ الحشرُ
قلنا صبراً إليه وحزناً
وأكثر شعره دلالة على شخصه وفنّه قوله وهو يُحتضر:
أقول لنفسي حين قابلها الردى
فراغت فراراً منه يُسْرى إلى يُمنى
قَرِي تحملي بعضَ الذي تكرهينه
فقد طـالما اعتدت الفرار إلى الأهنا
تعاقبت اهتمامات ابن باجّه العلمية، فتعلق بالموسيقى، وتذوّقها كأستاذه الفارابي، ثم مال إلى المنطق والفلسفة والطب والرياضيات والطبيعة والنفس وترك فيها رسائل وكتباً، وقد ذُكر منها «في عيون الأنباء في طبقات الأطباء» سبعة وعشرون عنواناً يغلب عليها طابع التكرار والشذرات والتعليقات، من أهمها:
ـ رسالة الوداع: وجهها إلى تلميذه علي ابن الإمام السرقسطي قبيل رحلته إلى المشرق وتحدث فيها عن غاية الوجود الإنساني في تجاوز حدود الفردية والاتحاد بالنفس الكونية، ثم الاتصال بالله الذي لا يكون إلاّ بالعلم والفلسفة. نشرها المستشرق الإسباني ميجيل آسين بالاثيوس Migul Asén Palacios مع ترجمة إسبانية عام 1943م بمدريد.
ـ تدبير المتوحد: ويعني بالتدبير ترتيب الأفعال نحو الاتحاد بالعقل الفعّال والمتوحد هو الفرد، وتحقيق وجود الفرد هو الخطوة الأولى في صلاح المجتمع وتضامنه. حقق الرسالة معن زيادة ونشرت في بيروت 1978م.
ـ شرح كتابي الأدوية المفردة للطبيب اليوناني جالينوس (ت201م) وللوزير الأندلسي العالم ابن وافد (ت467هـ/1067م). اللذين يأخذان بمبدأ العلاج الطبيعي بالأغذية بدلاً من العقاقير الطبية، وبالأدوية المفردة بدلاً من المركبة، وقد انتفع بهذا ابن البيطار (ت645هـ/1248م).
ـ شرح السماع الطبيعي Physike Akroasis لأرسطو، ويدور على المبادئ الكبرى لعلم الطبيعة. وتذكر المصادر العربية أن أقدم ترجمة لهذا الكتاب ترجع إلى عصر هارون الرشيد (170-193هـ/786-809م). فقد ذُكر في الفِهرست للنديم تحت عنوان: أسماء النَقَلة من اللغات إلى اللسان العربي: سلام الأبرش من النقلة القدماء أيام البرامكة، ويوجد بنقله «السماع الطبيعي».
هذه المؤلفات ذات قيم غير محدودة، وقد أشاد ابن طفيل (ت581هـ/1185م) بعمق تفكير ابن باجه فقال في مقدمة «حي بن يقظان»: «ثم خلف من بعدهم (يقصد المهتمين بالمنطق والفلسفة في الأندلس) خلفٌ أحذق منهم نظراً، وأقرب إلى الحقيقة، ولم يكن فيهم أثـقب ذهناً، ولا أصدق رؤية من أبي بكر بن باجّه، غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبثّ خفايا حكمته».
هناء دويدري
باجه (محمد يحيي)
Ibn Bajja (Mohammad bin yahia-) - Ibn Bajja (Mohammad ben yahia-)
ابن باجّه (محمد بن يحيى ـ)
(… ـ 533هـ/ … ـ 1138م)
أبو بكر محمد بن يحيى التُجيبي السَرَقُسطي، الملقّب بابن باجّه Aven pace (الباجّه بتشديد الجيم هي الفضة بلغة الفرنجة الأندلسيين)، ولعل أسرته كانت تشتغل بالصياغة، فعُرف بابن الصائغ، عالم بالفلسفة واللغة والأدب والطب والموسيقى، وشاعر.
وُلِد في سَرَقُسطة Zaragoza في الثغر الأعلى من الأندلس، ألمّ بعلوم الثقافة الإسلامية في عصره، وبعلوم اليونان، واشتهر بتضلّعه في الفلسفة والطب والموسيقى، ونظم الشعر.
عمل زهاء عشرين عاماً كاتباً ووزيراً لأبي إبراهيم بن تيفلويت المَسوفي صهر علي بن يوسف بن تاشفين، وأخباره معه كثيرة. وبعد وفاة ابن تيفلويت عام 510هـ/1116م، وقيل بعد سُقوط سرقسطة بيد ألفونسو الأول ملك أرغون Aragon عام 512هـ/1118م، غادر ابن باجّه سرقسطة إلى جنوبي الأندلس، فسكن المريّة وغرناطة وارتحل إلى فاس، وفيها اتُّهم بالإلحاد ومات مسموماً.
كان بينه وبين بعض أعلام الأندلسيين خصومة شديدة، ومن هؤلاء ابن زهر[ر] (ت557هـ/1162م) والفتح بن محمد بن خاقان[ر] (ت528هـ/1134م). وقد حمل عليه ابن خاقان حملة عنيفة في كتابه «قلائد العقيان» واتهمه بالإلحاد.
كان ابن باجّه أول الواقفين في الأندلس والمغرب على فلسفة المشائين فشرح قضاياها، ومهد الطريق لمن جاء بعده، ومنهم ابن رشد[ر] (ت595هـ/1198م) الذي بثّ في كتاب «النفس» بعضاً من آراء ابن باجّه، واعترف بفضله في حقل الفلسفة. ومن أشهر تلامذة ابن باجّه أبو الحسن علي بن الإمام وابن رشد.
ولفلسفة ابن باجّه قيمتان أساسيتان، أولاهما أنه بنى الفلسفة العقلية على أسس الرياضيات والطبيعيات فنزع عن الفلسفة الإسلامية سيطرة الجدل، وخلع عليها لباس العلم. وثانيتهما أنه أول فيلسوف في الإسلام فصل بين الدين والفلسفة في البحث، وانصرف إلى العقل ولهذا اتهم بالإلحاد والخروج عن تعاليم الدين، وقد لام أبا حامد الغزالي[ر] (505هـ/1111م) لميله إلى التصوف. وقال: إن الإنسان يستطيع بلوغ السعادة عن طريق العلم والتفكير لا بإماتة الحواس وتجسيم الخيال، كما يفعل المتصوفون، وقد رأى أن الغزالي خدع نفسه، وخدع الناس حين قال في كتابه «المنقذ من الضلال» إنه بالخلوة ينكشف العالم للإنسان.
وتأثر ابن باجّه بتعاليم الفارابي[ر] (339هـ/951م) وبآرائه في «المدينة الفاضلة»، وحذا حذوه في تسميتها بالكاملة الفاضلة، وقال إنه لا حاجة فيها إلى طبيب أو قاضٍ لانتفاء وجود ما يستدعي وجودهما.
كان ابن باجّه البادئ في إطلاق خطاب فلسفي جديد متحرر من علم الكلام وإشكاليته، ومن هاجس التوفيق والتلفيق الذي استولى على فلاسفة المشرق. وقد ظهرت أصالته في بحوثه الفلسفية في اختلافه مع أرسطو[ر] في موضوع الحركة، وتجديده في هذا الميدان، ووضعه نظرية جديدة في الحركة، حتى عدّه بعض الدارسين ممهداً لظهور غاليلو[ر] مؤسس العلم الطبيعي الحديث. وظهرت أصالته كذلك في الرسائل التي ألّفها في الإلهيات والتي خالف فيها الفارابي وابن سينا (ت428هـ/1037م)، وأظهر فيها تحرره من النزعة التصوفية التي انتشرت لدى المشارقة.
يمكن أن يطلق على فلسفة ابن باجّه اسم «علم الإنسان» فقد كان جل ما تناوله فيها يبحث في ميدان الإنسان، والفكرة الأساسية التي أضافها إلى التراث الفلسفي هي ما يتصل باتحاد العقل الفعّال بالإنسان.
ولابن باجّه خطرات شعرية ينثرها أشتاتاً في كل اتجاه، وقد نظم في الموشح ويُروى أن ابن تيفلويت أعجب بموشح مدحه فيه فحلف ألاّ يمشي الشاعر إلى داره إلا على الذهب، فجعل ابن باجّه في نعله ذهباً، ليبرّ يمينه. وشعره دقيق المعاني، أكثره في المديح والهجاء والرثاء والنسيب، من ذلك قوله في مديح الملثمين:
قوم إذا انتقبوا رأيتَ أهلّة
وإذا همُ سَفروا رأيت بدوراً
وقوله في رثاء أبي بكر الصنهاجي:
وسألنا متى اللقاءُ فقيلَ الحشرُ
قلنا صبراً إليه وحزناً
وأكثر شعره دلالة على شخصه وفنّه قوله وهو يُحتضر:
أقول لنفسي حين قابلها الردى
فراغت فراراً منه يُسْرى إلى يُمنى
قَرِي تحملي بعضَ الذي تكرهينه
فقد طـالما اعتدت الفرار إلى الأهنا
تعاقبت اهتمامات ابن باجّه العلمية، فتعلق بالموسيقى، وتذوّقها كأستاذه الفارابي، ثم مال إلى المنطق والفلسفة والطب والرياضيات والطبيعة والنفس وترك فيها رسائل وكتباً، وقد ذُكر منها «في عيون الأنباء في طبقات الأطباء» سبعة وعشرون عنواناً يغلب عليها طابع التكرار والشذرات والتعليقات، من أهمها:
ـ رسالة الوداع: وجهها إلى تلميذه علي ابن الإمام السرقسطي قبيل رحلته إلى المشرق وتحدث فيها عن غاية الوجود الإنساني في تجاوز حدود الفردية والاتحاد بالنفس الكونية، ثم الاتصال بالله الذي لا يكون إلاّ بالعلم والفلسفة. نشرها المستشرق الإسباني ميجيل آسين بالاثيوس Migul Asén Palacios مع ترجمة إسبانية عام 1943م بمدريد.
ـ تدبير المتوحد: ويعني بالتدبير ترتيب الأفعال نحو الاتحاد بالعقل الفعّال والمتوحد هو الفرد، وتحقيق وجود الفرد هو الخطوة الأولى في صلاح المجتمع وتضامنه. حقق الرسالة معن زيادة ونشرت في بيروت 1978م.
ـ شرح كتابي الأدوية المفردة للطبيب اليوناني جالينوس (ت201م) وللوزير الأندلسي العالم ابن وافد (ت467هـ/1067م). اللذين يأخذان بمبدأ العلاج الطبيعي بالأغذية بدلاً من العقاقير الطبية، وبالأدوية المفردة بدلاً من المركبة، وقد انتفع بهذا ابن البيطار (ت645هـ/1248م).
ـ شرح السماع الطبيعي Physike Akroasis لأرسطو، ويدور على المبادئ الكبرى لعلم الطبيعة. وتذكر المصادر العربية أن أقدم ترجمة لهذا الكتاب ترجع إلى عصر هارون الرشيد (170-193هـ/786-809م). فقد ذُكر في الفِهرست للنديم تحت عنوان: أسماء النَقَلة من اللغات إلى اللسان العربي: سلام الأبرش من النقلة القدماء أيام البرامكة، ويوجد بنقله «السماع الطبيعي».
هذه المؤلفات ذات قيم غير محدودة، وقد أشاد ابن طفيل (ت581هـ/1185م) بعمق تفكير ابن باجه فقال في مقدمة «حي بن يقظان»: «ثم خلف من بعدهم (يقصد المهتمين بالمنطق والفلسفة في الأندلس) خلفٌ أحذق منهم نظراً، وأقرب إلى الحقيقة، ولم يكن فيهم أثـقب ذهناً، ولا أصدق رؤية من أبي بكر بن باجّه، غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبثّ خفايا حكمته».
هناء دويدري