برامكه
Al-Baramikah - Al-Baramikah
البرامكة
البرامكة أسرة من أشراف الفرس، ينتسبون إلى جدّهم بَرْمَك أو برموك وهو لقب السادن الأكبر لمعبد النَوْبهار ببلْخ. والنوبهار معبد كان ملوك الهند والصين وكابُل يقصدونه ويحجّون إليه. وكانت الفرس تعظمه وتحج وتهدي إليه، وقد اختلف في كونه معبداً بوذياً أو معبداً للنار.
أول من وصلت أخباره من البرامكة أبو خالد بَرْمك، الذي قدم على هشام بن عبد الملك (105-125هـ) فأسلم، وكان قد نشأ في الهند وتعلّم علم الطبّ والنجوم، وقد استخدم معرفته الطبية في معالجة مَسْلَمة بن عبد الملك من مرض ألمّ به، كما كان كاتباً أديباً عنده علم بأخبار ملوك الفرس.
برز بعد برمك ابنه خالد وكان من أشراف خراسان البارزين نشأ مسلماً وانضم إلى الدعوة العباسية وصار من أكبر دعاتها في خراسان وكان على دراية بالأمور الإدارية، فتسلم تقسيم الغنائم في جيش قحطبة بن شبيب الطائي، كما نظم بعد ذلك الخراج في خراسان، ثم ولي لأبي العباس ديوان الخراج والجند في العراق، وتسلم أعمال الوزارة له بعد مقتل أبي سلمة الخلاّل من دون أن يحمل لقب «وزير»، ويبدو أن خالداً كان على درجة عالية من المقدرة السياسية والعسكرية والإدارية، جعلت المنصور يستعين به في تهدئة الأوضاع في الموصل والجزيرة الفراتية بعد أن نقضتا العهد، ووكل إليه ولايتهما. وأثبت مقدرة فائقة في ضبط الموصل حتى قيل إن أهاليها كانوا يقولون: «ماهِبْنا أميراً قط هيبتنا خالداً من غير أن يشتد علينا، ولكن هيبته كانت في صدورنا». كما ولي فارس ثم الرَّي وطبرستان، واحتفظ بمكانته زمن المهدي (158- 169هـ/775-785م) إلا مدة قصيرة. وعادت إليه سلطته بشفاعة الخيزران والدة الرشيد.
أشار خالد على المنصور بتخطيط بغداد، كما كان له يد في نزول عيسى بن موسى عن حقه في ولاية العهد سنة 147هـ/764م.
تنسب إليه مبان كثيرة في بغداد، كما ينسب إليه تخطيط مدينة المنصورة في طبرستان في أثناء ولايته عليها. توفي سنة 165هـ/781-782م.
برز يحيى بن خالد في عهد أبيه، فتسلم ولاية أذربيجان للخليفة المنصور، ثم وقع اختيار المهدي عليه ليكون مربياً لابنه هارون سنة 161هـ/777م، وفي سنة 163هـ قلّد المهدي هارون ابنه المغرب كله وأذربيجان وأرمينية وأمر يحيى بن خالد بن برمك أن ينوب عنه فكانت إليه أعمال هارون ودواوينه يقوم بها ويخلفه على ما يتولّى منها، وكان الرشيد يناديه: يا أبتِ. ولما تولى الهادي الخلافة سنة 169هـ أقرّ يحيى بن خالد على ما كان أبوه ولاّه إيّاه.
عمل يحيى في هذه المدة على المحافظة على ولاية العهد لهارون الرشيد بعد الهادي ووقف في وجه الخليفة الهادي حين عزم على خلع هارون من ولاية العهد وتولية ابنه جعفر مكانه، وحذّره عاقبة هذا العمل. وقد يكون في هذا على تعاون مع الخيزران. على أن انحياز يحيى إلى هارون جعل الهادي يحقد عليه، فاتّهمه بإفساد أخيه عليه، وأمر بحبسه، فلما صارت الخلافة إلى هارون سنة 170هـ/786م، أخرجه من السجن وأحضره بين يديه، وقلّده كل ما وراء بابه، وصارت الدواوين كلها إليه، وأطلق يديه يحكم في الرعية كيف شاء، وفي السنة التي تلتها دفع إليه الخاتم. وكانت الكتب تنفذ باسمه، وبلغ من علو المنزلة عند الرشيد أنه كان يدخل عليه بلا إذن. وبلغ من سداد الرأي والتدبير والسيرة الحسنة ما مكنه مع ابنيه الفضل وجعفر من تبوؤ مكانة رفيعة لدى الخليفة ومساعدته في تدبير أمور الدولة بين سنتي 170و187هـ. نهض يحيى بأعباء الدولة أتمَّ نهوض، ونظم إدارة الدواوين، فصارت الكتب التي تنفذ من ديوان الخراج توقع باسمه بعد أن كان لا يوقعها إلا الخليفة. ووثق الناس بالبرامكة وثوق خليفتهم بهم، ولاسيما أنهم أجزلوا العطاء والصلات لرجال الدين والأدب. كما أجرى يحيى الأرزاق السنية على وجوه أهل الأمصار، وعمل على إمداد أهل الحرمين بالقمح اللازم لهم من مصر، وأغدق البرامكة المال على الشعراء الذين نظموا القصائد الرائعة في مدحهم والتغني بكرمهم.
وكان الفضل رجل دولة، وفي طباعه جفوة وحدّة، وهو أخ لهارون الرشيد بالرضاع. عهد إليه الخليفة تربية ولده الأمين، وكان له أثر كبير في أخذ البيعة بولاية العهد له في خراسان، لقب بالوزير الصغير لمكانته في الدولة، ولاّه الرشيد سنة 176هـ كُورَ الجبال وطبرستان ودنباوند وقورس وأرمينية وأذربيجان. وأخمد ثورة يحيى بن عبد الله بن الحسن من دون إراقة دماء فعظمت مكانته لدى الرشيد وبلغ الغاية في إكرامه.
وفي سنة 178هـ ولاّه خراسان. فسار في ولايته سيرة حسنة في الخراج، وزاد رواتب الجند، وأنشأ فرقة عسكرية خراسانية من خمسمئة ألف مقاتل دعاها العباسيّة، جعل ولاءهم له، ودوّن أسماءهم في سجلات خاصة، وأجرى عليهم الأرزاق الدائمة. فلما قدم بغداد صحبه عشرون ألفاً منهم، سموا فيها الكرنبية، وأقيم لهم معسكر خاص في الرصافة، وظل الباقون في خراسان ، وقد أحرز الفضل عدة انتصارات، وشيّد المساجد والرباطات، ومع ما اتصف به الفضل من جِد فقد نسب إليه أنه كان يصرف بعض وقته في أنسه وملذاته حتى عاتبه أبوه على ذلك.
أما جعفر وهو الأصغر، فقد كان من البلغاء، حتى صارت توقيعاته على رقاع المظالم نماذج للكتّاب مع حسن الخط، كما كان عالماً بالفلك وكانت له مكانة خاصة عند الرشيد، فاختص بمنادمته لظرفه وتأنقه، فكان يلازمه ولم يفارقه إلا سنة 180هـ حين أُرسل لتهدئة ثورة في الشام، ولهذا فقد كان واسع السلطان يقضي أموراً للناس يعلم أن الرشيد سوف يوافقه عليها لثقته به. وفي سنة 176هـ ولى الرشيد جعفرا المغرب كله من الأنبار إلى إفريقية فأرسل جعفر من ينوب عنه في ولاية مصر فولاّها عمر بن مهران ولم يذهب إليها، ونقل إليه هارون الرشيد ديوان الخاتم من أخيه الفضل، وأشركه معه في النظر بالمظالم، وحوّل دار الضرب إليه، وجعل له ديوان البريد وديوان الطراز، وأمر بكتابة اسمه على الدراهم والدنانير، وعهد إليه في تربية ابنه المأمون، وكان له أثر في توليته العهد بعد الأمين سنة 183هـ.
وللفضل وجعفر أخوان آخران هما محمد وموسى توليا بعض القيادات والأعمال وكان أثرهما في الدولة أقل من أثر أخويهما.
وجد البرامكة دعماً من الخيزران، فكان يحيى لا يصدر إلا عن رأيها. فلما توفيت سنة 173هـ، فقد البرامكة نصيراً قوياً لهم.
ومع أن الرشيد فوض إلى البرامكة كثيراً من أموره، فإنه كان يعمل على أن يحتفظ بمكانته الخاصة بين رعاياه. فقد كان اتصاله بجمهور المسلمين عن طريق حجه وغزوه، وكان النصر فيها حليفه في أغلب الأحيان. ولم يكن الرشيد الذي أراد أن يثبت مقدرته وقوة إيمانه بالحج والغزو ليقبل بسلب البرامكة لجماهير المسلمين من حوله. فتغير عليهم، وبدأ يعدّ العدّة للإيقاع بهم منذ عودته من الحج سنة 186هـ ففي ليلة السبت لانسلاخ المحرَّم سنة 187هـ ، أرسل الرشيد وكان مقيماً بناحية الأنبار مسروراً الخادم ومعه حماد بن سالم في جماعة من الجند فأحاطوا بجعفر بن يحيى ليلاً، وأخرجه مسرور حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد فحبسه وقيده وأمر الرشيد بضرب عنقه، وأمر الرشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه، وحبس الفضل بن يحيى في ناحية من منازل الرشيد وحبس يحيى بن خالد في منزله وأُخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ووجه من ليلته رجاء الخادم إلى الرقة في قبض أموالهم وما كان لهم من رقيقهم ومواليهم وحشمهم وولاة أمورهم وفرَّق الكتب من ليلته إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم، فلما أصبح كتب إلى السندي الحرشي بتوجيه جثة جعفر إلى مدينة السلام ونصب رأسه على الجسر الأوسط وقطع جثته وعلق أشلاءها على الجسر الأعلى والجسر الأسفل، ولم يكشف الرشيد أبداً عن سبب إيقاعه بالبرامكة، مما سمح للشائعات أن تدخل في درج الحقائق وتلتبس بها. ويتضح إخفاء الخليفة الرشيد لأسباب النكبة مما نسبه اليعقوبي إليه وهو قوله: «لو علمت يميني بالسبب الذي له فعلت هذا لقطعتها». ولذلك كان من العسير الخروج برأي نهائي في موضوع النكبة البرمكية بالاعتماد على المصادر وحدها.
ومن الأسباب التي ذكرتها الكتب التاريخية عن أسباب نكبة البرامكة ما يأتي:
ـ عقد الرشيد لجعفر بن يحيى على أخته العباسة، على أن لا يدخل بها ليحضرا مجلسه لأنه لا يستطيع الصبر عن منادمتهما، ولكن جعفراً استولد العباسة، فغضب الرشيد ونكب الأسرة بالسجن والاستيلاء على الأموال، وقَتْل جعفرٍ. وتبدو هذه القصة أسطورية وطعن بها أكثر من مؤرخ وعلى رأسهم ابن خلدون. كما لم يذكرها كثير من المؤرخين القريبي العهد من الحدث كاليعقوبي والدينوري..
اتهم بعض المؤرخين البرامكة بالزندقة والمجوسية،. وقد يكون هذا الاتهام من وضع بعض خصومهم بدافع الحسد. وكانت التهمة بالزندقة والمجوسية في العصر العباسي حجة سياسية.
ـ تسلط البرامكة على أموال الدولة. فقد بلغ واردهم السنوي عشرين ألف ألف درهم. و كان ما يقع تحت أيديهم من المال أكثر مما يقع تحت يد الخليفة نفسه. وكانوا يكثرون من العطايا ويبالغون فيها.
وقد ضرب جعفر دنانير خاصة للصلات قيمة كل منها ثلاثمائة دينار. وشعر الرشيد بتسلطهم المالي وغناهم حتى إنه كان يقول: «أغنيناهم وأفقروا أولادنا» ذلك أنهم ملكوا أحسن الضياع وعمروا أجمل البناء. فقد بنى جعفر قصراً في بغداد ، أنفق عليه أموالاً لا تعد ولا تحصى.
كان هذا منهم في الوقت الذي كان الخليفة الرشيد يطلب فيه المال فلا يلبى، وإن فعلوا أشعروه بكثرته حتى إنه قال لمولاه مسرور: «قد نهبوا أموالي وذهبوا بخزائني». وطلب الرشيد من يحيى البرمكي وهو بالبصرة ألف ألف درهم فرفض أداءها، في الوقت الذي وزع فيه ألف ألف وخمسمئة ألف في عماله. فاضطر الرشيد إلى أن يقترضها من هؤلاء العمال.
ويبدو من هذا أن البرامكة غلبوا الرشيد على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في شؤون ملكه. وظهر من جعفر والفضل من الإدلال ما لا تحمله نفوس الملوك.
استغل خصوم البرامكة تسلطهم على النواحي المالية والسياسية لتضخيم خطرهم وتشويه أعمالهم، وإيغار صدر الرشيد عليهم. وعلى رأس هؤلاء الخصوم زبيدة زوج الرشيد، والفضل بن الربيع حاجبه. إضافة إلى اصطناع الأقارب والمحاسيب في الوظائف حتى قيل إنهم عمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم من وزارة وكتابة وقيادة وسيف وقلم، حتى أضحى مجالاً للدس عليهم وارتياب الرشيد في أمرهم.
ـ اتهم البرامكة بالتشيع والتعاطف مع العلويين ومحاولة نقل الخلافة إليهم فقد حمل يحيى بن خالد البرمكي إلى يحيى بن عبد الله المحض في أثناء ثورته بالديلم مئتي ألف دينار، كما أن جعفراً البرمكي أطلقه بعد سجنه من دون علم الخليفة. وقد أحضر الخليفة جعفراً البرمكي وسأله، فأقرَّ بالأمر، فأظهر الرشيد أنه راض عن عمله فلما خرج من مجلسه قال: «قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك». وكان هذا برأي بعض المؤرخين سبب قتل جعفر.
ـ وصم بعض المؤرخين البرامكة بالتعصب للفرس والعمل على تكتيل ما يشبه الحزب الفارسي في الدولة، ومحاولة إقصاء العرب عن المناصب المهمة. فقد أبدوا كراهيتهم لمحمد بن الليث لميله عن العجم، وسعوا لدى الرشيد للإيقاع بيزيد بن مزيد الشيباني، واتَّهموه بالتراخي في قتال الخوارج. هذا إضافة إلى تنظيم جيش تعداده نصف مليون في خراسان، جهد الرشيد فيما بعد على التخلص من أنصارهم وتشتيتهم على يد علي بن عيسى بن ماهان، ثم أخذ الرشيد يتربص الفرص للتخلص من سيطرة البرامكة وسطوتهم، فبدأ يتغير عليهم. وكان الناس يتحدثون في نكبة البرامكة قبل أن تحدث، على أن استقراء أخبار المصادر التاريخية يرجح أن ثمة سبباً مباشراً لغضب الرشيد على البرامكة يتصل بجعفر بن يحيى خاصة، فإن قتله وتقطيع جثته وتعليق أشلائها على جسور بغداد ينبئ عن غضب الرشيد الهائل على جعفر خاصة، ولم يبح الرشيد بسبب غضبه هذا فطواه التاريخ.
أمينة بيطار
Al-Baramikah - Al-Baramikah
البرامكة
البرامكة أسرة من أشراف الفرس، ينتسبون إلى جدّهم بَرْمَك أو برموك وهو لقب السادن الأكبر لمعبد النَوْبهار ببلْخ. والنوبهار معبد كان ملوك الهند والصين وكابُل يقصدونه ويحجّون إليه. وكانت الفرس تعظمه وتحج وتهدي إليه، وقد اختلف في كونه معبداً بوذياً أو معبداً للنار.
أول من وصلت أخباره من البرامكة أبو خالد بَرْمك، الذي قدم على هشام بن عبد الملك (105-125هـ) فأسلم، وكان قد نشأ في الهند وتعلّم علم الطبّ والنجوم، وقد استخدم معرفته الطبية في معالجة مَسْلَمة بن عبد الملك من مرض ألمّ به، كما كان كاتباً أديباً عنده علم بأخبار ملوك الفرس.
برز بعد برمك ابنه خالد وكان من أشراف خراسان البارزين نشأ مسلماً وانضم إلى الدعوة العباسية وصار من أكبر دعاتها في خراسان وكان على دراية بالأمور الإدارية، فتسلم تقسيم الغنائم في جيش قحطبة بن شبيب الطائي، كما نظم بعد ذلك الخراج في خراسان، ثم ولي لأبي العباس ديوان الخراج والجند في العراق، وتسلم أعمال الوزارة له بعد مقتل أبي سلمة الخلاّل من دون أن يحمل لقب «وزير»، ويبدو أن خالداً كان على درجة عالية من المقدرة السياسية والعسكرية والإدارية، جعلت المنصور يستعين به في تهدئة الأوضاع في الموصل والجزيرة الفراتية بعد أن نقضتا العهد، ووكل إليه ولايتهما. وأثبت مقدرة فائقة في ضبط الموصل حتى قيل إن أهاليها كانوا يقولون: «ماهِبْنا أميراً قط هيبتنا خالداً من غير أن يشتد علينا، ولكن هيبته كانت في صدورنا». كما ولي فارس ثم الرَّي وطبرستان، واحتفظ بمكانته زمن المهدي (158- 169هـ/775-785م) إلا مدة قصيرة. وعادت إليه سلطته بشفاعة الخيزران والدة الرشيد.
أشار خالد على المنصور بتخطيط بغداد، كما كان له يد في نزول عيسى بن موسى عن حقه في ولاية العهد سنة 147هـ/764م.
تنسب إليه مبان كثيرة في بغداد، كما ينسب إليه تخطيط مدينة المنصورة في طبرستان في أثناء ولايته عليها. توفي سنة 165هـ/781-782م.
برز يحيى بن خالد في عهد أبيه، فتسلم ولاية أذربيجان للخليفة المنصور، ثم وقع اختيار المهدي عليه ليكون مربياً لابنه هارون سنة 161هـ/777م، وفي سنة 163هـ قلّد المهدي هارون ابنه المغرب كله وأذربيجان وأرمينية وأمر يحيى بن خالد بن برمك أن ينوب عنه فكانت إليه أعمال هارون ودواوينه يقوم بها ويخلفه على ما يتولّى منها، وكان الرشيد يناديه: يا أبتِ. ولما تولى الهادي الخلافة سنة 169هـ أقرّ يحيى بن خالد على ما كان أبوه ولاّه إيّاه.
عمل يحيى في هذه المدة على المحافظة على ولاية العهد لهارون الرشيد بعد الهادي ووقف في وجه الخليفة الهادي حين عزم على خلع هارون من ولاية العهد وتولية ابنه جعفر مكانه، وحذّره عاقبة هذا العمل. وقد يكون في هذا على تعاون مع الخيزران. على أن انحياز يحيى إلى هارون جعل الهادي يحقد عليه، فاتّهمه بإفساد أخيه عليه، وأمر بحبسه، فلما صارت الخلافة إلى هارون سنة 170هـ/786م، أخرجه من السجن وأحضره بين يديه، وقلّده كل ما وراء بابه، وصارت الدواوين كلها إليه، وأطلق يديه يحكم في الرعية كيف شاء، وفي السنة التي تلتها دفع إليه الخاتم. وكانت الكتب تنفذ باسمه، وبلغ من علو المنزلة عند الرشيد أنه كان يدخل عليه بلا إذن. وبلغ من سداد الرأي والتدبير والسيرة الحسنة ما مكنه مع ابنيه الفضل وجعفر من تبوؤ مكانة رفيعة لدى الخليفة ومساعدته في تدبير أمور الدولة بين سنتي 170و187هـ. نهض يحيى بأعباء الدولة أتمَّ نهوض، ونظم إدارة الدواوين، فصارت الكتب التي تنفذ من ديوان الخراج توقع باسمه بعد أن كان لا يوقعها إلا الخليفة. ووثق الناس بالبرامكة وثوق خليفتهم بهم، ولاسيما أنهم أجزلوا العطاء والصلات لرجال الدين والأدب. كما أجرى يحيى الأرزاق السنية على وجوه أهل الأمصار، وعمل على إمداد أهل الحرمين بالقمح اللازم لهم من مصر، وأغدق البرامكة المال على الشعراء الذين نظموا القصائد الرائعة في مدحهم والتغني بكرمهم.
وكان الفضل رجل دولة، وفي طباعه جفوة وحدّة، وهو أخ لهارون الرشيد بالرضاع. عهد إليه الخليفة تربية ولده الأمين، وكان له أثر كبير في أخذ البيعة بولاية العهد له في خراسان، لقب بالوزير الصغير لمكانته في الدولة، ولاّه الرشيد سنة 176هـ كُورَ الجبال وطبرستان ودنباوند وقورس وأرمينية وأذربيجان. وأخمد ثورة يحيى بن عبد الله بن الحسن من دون إراقة دماء فعظمت مكانته لدى الرشيد وبلغ الغاية في إكرامه.
وفي سنة 178هـ ولاّه خراسان. فسار في ولايته سيرة حسنة في الخراج، وزاد رواتب الجند، وأنشأ فرقة عسكرية خراسانية من خمسمئة ألف مقاتل دعاها العباسيّة، جعل ولاءهم له، ودوّن أسماءهم في سجلات خاصة، وأجرى عليهم الأرزاق الدائمة. فلما قدم بغداد صحبه عشرون ألفاً منهم، سموا فيها الكرنبية، وأقيم لهم معسكر خاص في الرصافة، وظل الباقون في خراسان ، وقد أحرز الفضل عدة انتصارات، وشيّد المساجد والرباطات، ومع ما اتصف به الفضل من جِد فقد نسب إليه أنه كان يصرف بعض وقته في أنسه وملذاته حتى عاتبه أبوه على ذلك.
أما جعفر وهو الأصغر، فقد كان من البلغاء، حتى صارت توقيعاته على رقاع المظالم نماذج للكتّاب مع حسن الخط، كما كان عالماً بالفلك وكانت له مكانة خاصة عند الرشيد، فاختص بمنادمته لظرفه وتأنقه، فكان يلازمه ولم يفارقه إلا سنة 180هـ حين أُرسل لتهدئة ثورة في الشام، ولهذا فقد كان واسع السلطان يقضي أموراً للناس يعلم أن الرشيد سوف يوافقه عليها لثقته به. وفي سنة 176هـ ولى الرشيد جعفرا المغرب كله من الأنبار إلى إفريقية فأرسل جعفر من ينوب عنه في ولاية مصر فولاّها عمر بن مهران ولم يذهب إليها، ونقل إليه هارون الرشيد ديوان الخاتم من أخيه الفضل، وأشركه معه في النظر بالمظالم، وحوّل دار الضرب إليه، وجعل له ديوان البريد وديوان الطراز، وأمر بكتابة اسمه على الدراهم والدنانير، وعهد إليه في تربية ابنه المأمون، وكان له أثر في توليته العهد بعد الأمين سنة 183هـ.
وللفضل وجعفر أخوان آخران هما محمد وموسى توليا بعض القيادات والأعمال وكان أثرهما في الدولة أقل من أثر أخويهما.
وجد البرامكة دعماً من الخيزران، فكان يحيى لا يصدر إلا عن رأيها. فلما توفيت سنة 173هـ، فقد البرامكة نصيراً قوياً لهم.
ومع أن الرشيد فوض إلى البرامكة كثيراً من أموره، فإنه كان يعمل على أن يحتفظ بمكانته الخاصة بين رعاياه. فقد كان اتصاله بجمهور المسلمين عن طريق حجه وغزوه، وكان النصر فيها حليفه في أغلب الأحيان. ولم يكن الرشيد الذي أراد أن يثبت مقدرته وقوة إيمانه بالحج والغزو ليقبل بسلب البرامكة لجماهير المسلمين من حوله. فتغير عليهم، وبدأ يعدّ العدّة للإيقاع بهم منذ عودته من الحج سنة 186هـ ففي ليلة السبت لانسلاخ المحرَّم سنة 187هـ ، أرسل الرشيد وكان مقيماً بناحية الأنبار مسروراً الخادم ومعه حماد بن سالم في جماعة من الجند فأحاطوا بجعفر بن يحيى ليلاً، وأخرجه مسرور حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد فحبسه وقيده وأمر الرشيد بضرب عنقه، وأمر الرشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه، وحبس الفضل بن يحيى في ناحية من منازل الرشيد وحبس يحيى بن خالد في منزله وأُخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ووجه من ليلته رجاء الخادم إلى الرقة في قبض أموالهم وما كان لهم من رقيقهم ومواليهم وحشمهم وولاة أمورهم وفرَّق الكتب من ليلته إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم، فلما أصبح كتب إلى السندي الحرشي بتوجيه جثة جعفر إلى مدينة السلام ونصب رأسه على الجسر الأوسط وقطع جثته وعلق أشلاءها على الجسر الأعلى والجسر الأسفل، ولم يكشف الرشيد أبداً عن سبب إيقاعه بالبرامكة، مما سمح للشائعات أن تدخل في درج الحقائق وتلتبس بها. ويتضح إخفاء الخليفة الرشيد لأسباب النكبة مما نسبه اليعقوبي إليه وهو قوله: «لو علمت يميني بالسبب الذي له فعلت هذا لقطعتها». ولذلك كان من العسير الخروج برأي نهائي في موضوع النكبة البرمكية بالاعتماد على المصادر وحدها.
ومن الأسباب التي ذكرتها الكتب التاريخية عن أسباب نكبة البرامكة ما يأتي:
ـ عقد الرشيد لجعفر بن يحيى على أخته العباسة، على أن لا يدخل بها ليحضرا مجلسه لأنه لا يستطيع الصبر عن منادمتهما، ولكن جعفراً استولد العباسة، فغضب الرشيد ونكب الأسرة بالسجن والاستيلاء على الأموال، وقَتْل جعفرٍ. وتبدو هذه القصة أسطورية وطعن بها أكثر من مؤرخ وعلى رأسهم ابن خلدون. كما لم يذكرها كثير من المؤرخين القريبي العهد من الحدث كاليعقوبي والدينوري..
اتهم بعض المؤرخين البرامكة بالزندقة والمجوسية،. وقد يكون هذا الاتهام من وضع بعض خصومهم بدافع الحسد. وكانت التهمة بالزندقة والمجوسية في العصر العباسي حجة سياسية.
ـ تسلط البرامكة على أموال الدولة. فقد بلغ واردهم السنوي عشرين ألف ألف درهم. و كان ما يقع تحت أيديهم من المال أكثر مما يقع تحت يد الخليفة نفسه. وكانوا يكثرون من العطايا ويبالغون فيها.
وقد ضرب جعفر دنانير خاصة للصلات قيمة كل منها ثلاثمائة دينار. وشعر الرشيد بتسلطهم المالي وغناهم حتى إنه كان يقول: «أغنيناهم وأفقروا أولادنا» ذلك أنهم ملكوا أحسن الضياع وعمروا أجمل البناء. فقد بنى جعفر قصراً في بغداد ، أنفق عليه أموالاً لا تعد ولا تحصى.
كان هذا منهم في الوقت الذي كان الخليفة الرشيد يطلب فيه المال فلا يلبى، وإن فعلوا أشعروه بكثرته حتى إنه قال لمولاه مسرور: «قد نهبوا أموالي وذهبوا بخزائني». وطلب الرشيد من يحيى البرمكي وهو بالبصرة ألف ألف درهم فرفض أداءها، في الوقت الذي وزع فيه ألف ألف وخمسمئة ألف في عماله. فاضطر الرشيد إلى أن يقترضها من هؤلاء العمال.
ويبدو من هذا أن البرامكة غلبوا الرشيد على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في شؤون ملكه. وظهر من جعفر والفضل من الإدلال ما لا تحمله نفوس الملوك.
استغل خصوم البرامكة تسلطهم على النواحي المالية والسياسية لتضخيم خطرهم وتشويه أعمالهم، وإيغار صدر الرشيد عليهم. وعلى رأس هؤلاء الخصوم زبيدة زوج الرشيد، والفضل بن الربيع حاجبه. إضافة إلى اصطناع الأقارب والمحاسيب في الوظائف حتى قيل إنهم عمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم من وزارة وكتابة وقيادة وسيف وقلم، حتى أضحى مجالاً للدس عليهم وارتياب الرشيد في أمرهم.
ـ اتهم البرامكة بالتشيع والتعاطف مع العلويين ومحاولة نقل الخلافة إليهم فقد حمل يحيى بن خالد البرمكي إلى يحيى بن عبد الله المحض في أثناء ثورته بالديلم مئتي ألف دينار، كما أن جعفراً البرمكي أطلقه بعد سجنه من دون علم الخليفة. وقد أحضر الخليفة جعفراً البرمكي وسأله، فأقرَّ بالأمر، فأظهر الرشيد أنه راض عن عمله فلما خرج من مجلسه قال: «قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك». وكان هذا برأي بعض المؤرخين سبب قتل جعفر.
ـ وصم بعض المؤرخين البرامكة بالتعصب للفرس والعمل على تكتيل ما يشبه الحزب الفارسي في الدولة، ومحاولة إقصاء العرب عن المناصب المهمة. فقد أبدوا كراهيتهم لمحمد بن الليث لميله عن العجم، وسعوا لدى الرشيد للإيقاع بيزيد بن مزيد الشيباني، واتَّهموه بالتراخي في قتال الخوارج. هذا إضافة إلى تنظيم جيش تعداده نصف مليون في خراسان، جهد الرشيد فيما بعد على التخلص من أنصارهم وتشتيتهم على يد علي بن عيسى بن ماهان، ثم أخذ الرشيد يتربص الفرص للتخلص من سيطرة البرامكة وسطوتهم، فبدأ يتغير عليهم. وكان الناس يتحدثون في نكبة البرامكة قبل أن تحدث، على أن استقراء أخبار المصادر التاريخية يرجح أن ثمة سبباً مباشراً لغضب الرشيد على البرامكة يتصل بجعفر بن يحيى خاصة، فإن قتله وتقطيع جثته وتعليق أشلائها على جسور بغداد ينبئ عن غضب الرشيد الهائل على جعفر خاصة، ولم يبح الرشيد بسبب غضبه هذا فطواه التاريخ.
أمينة بيطار