عبد الوهاب آحميرين
~~~ ملف الجنون / مجلة " زمان " ~~~
(.. ) تناولت مجلة " زمان " المغربية في عددها الأخير { مارس 2022 } موضوعا شائكا / معقدا يمثل طابو من الطابوهات المسكوت عنه في المجتمعات العربية / الإسلامية تداخل في سياقه الديني بالأسطوري ، والسياسي بالاجتماعي ، والعلمي بالإيديولوجي .. إنه موضوع " الجن والمجانين والجنون .." ، خصصت له ملفا ساهم في مناولة وتغطيته ومقاربته وإثراء تيمته بالتحليل والمناقشة والتمثيل والبرهنة والإحالة التاريخية ثلة محترمة من الفاعلين في الثقافة المغربية { كتاب } من عدة زوايا { المعتقدات الشعبية / الثقافة الإسلامية / الرواية السوسيوـ ثقافية / العلاج والمداواة / الطب العقلي / أماكن العلاج قديما وحديثا .. } ..
(..) مضمون الملف ..
* إن الجن أو الجنون ( المس ، الحمق .. ) حاضر بإلحاح في سياق الثقافة الشعبية المغربية كامتداد امتداد للثقافة العربية الإسلامية ( الثقافة المشرقية ) بخصوص هذا الموضوع { مكان الجن / عبقر .. مواصفاته ووظائفه .. } ؛ إذ الجن مخلوق غير منظور والجنون صفة ووظيفة وعلامة .. وهو ليس على ضرب واحد في الموروث الشعبي / المغربي ( جن مسلم / جن يهودي / جن مسيحي .. ) يسكن ( يتجسد ) جسم الإنسان ( رجل أسود / امرأة سوداء .. ) أو جسم الحيوان ( ثعبان / قط أسود .. ) ؛ يسكن الكهوف والمجازر والأنهار وعتبات البيوت والحمامات .. ؛ يشتغل ليلا ويكره النور وينفر من وجود الحديد ( السكاكين ) والنحاس والملح والبخور ( الحرمل / الحبة السوداء ..) وسماع القرآن وزغردة النساء والتمائم وذكر البسملة .. ويتأتى اتقاء شره أو طرده بفعل السباحة في اليم باكرا أو تقديم الفدية ( الذبيحة / تيس أو ماعز أسود أو دجاج .. ) أو إحضار فرقة كناوية .. { المقال الأول " وجود الجن ( الجنون ) في الثقافة الشعبية " حسن أوريد .. الملف / مجلة " زمان " .. } ..
* ما موقف الخطاب الإسلامي من الجن والجنون ؟ وكيف تبلور دور الزوايا والأضرحة في العناية بالمجانين وإيوائهم ؟ وبالتالي ما علة توظيف الجنون توظيفا سوسيو ـ سياسيا ؟ .. إن المصاب بالجن ( المجنون ) يرفع عنه القلم والتكليف والأهلية على غرار النائم قبل الاستيقاظ والصبي قبل الحلم والبلوغ .. ليس غريبا أن ينعت شخص بالجنون ، فهذه الصفة ألصقها المشركون والمعارضون للدعوة المحمدية حين وصفوا الرسول محمد بالمجنون ، فكان رد الشريعة الإسلامية نافيا وناكرا لهذا الزعم " وما صاحبكم بمجنون " .. كما ارتبطت صفة الجنون بطائفة المتصوفة الذين فضلوا الزهد والخلوة والسياحة ورفض حياة البذخ والترف وقطع الصلة مع الهوى والنزوة والشهوة والمكوث في الكهوف والخلوات فنعتوا بالمجانين أو المجذوبين أو عقلاء المجانين أو الحكماء المجانين أو أصحاب البركة والمكرمة والتنبؤ بالمستقبل .. لا يوجد مكان أمثل لإيواء المجانين والعناية بهم غير المشافي العقلية التي ذكرتها كتب التاريخ القديمة والمراجع الفقهية { ابن الجوزي " أخبار الحمقى والمغفلين " } التي تصنف الجنون إلى كلي وجزئي .. وتشير إلى زمن بنائها وتشييدها في عهد الدولة الأموية التي اعتنت بالمجانين من حيث اللباس والغذاء والإيواء والمداواة .. إلى جانب البيمارستان توجد الزاوية أو الضريح يؤم إليهما المريض والمجذوب والمعتوه والمجنون والأحمق ؛ لكن هذه الزوايا أو الأضرحة توظف هؤلاء النزلاء توظيفا سياسيا ، من خلاله تضغط على المجتمع لتلبية مطالبها وتهدده بإطلاق سراحهم ليتيهوا في الشوارع والأزقة فينغصون الحياة على المارة والناس من خلال تهديدهم برمي الحجارة أو القتل بالآلات الحادة .. إذا ، فالجنون هو نقيض العقل ومقابله وضده ، له مكانه الخاص ، له أسلوب خاص في العلاج، له سماته الخاصة .. { المقال الثاني " الجنون في الإسلام بين الأحمق والمعتوه والولي والمجذوب " محمد عبد الوهاب رفيقي الملف/ مجلة " زمان " } ..
* في المعتقد الاجتماعي الشعبي يرسخ الاعتقاد والإيمان بوجود الجن ، هذا الأخير سابق في وجوده وجود الإنس ، فهو المالك الأصلي للكون ، والإنس أتى بعده ( ضيف ) يستأذنه ويهابه ويتقي شره على ضوء تقديم القربان أو التفوه بالبسملة قبل تناول الطعام أو لعن الشيطان أثناء الشجار .. ؛ ومنشأ هذا الاعتقاد ناتج عن كون المخلوق البشري يفسر وجود الجن أو الأرواح الشريرة أو الشياطين أو العفاريت تفسيرا يعتمد الروحانيات والغيبيات والخرافات كإطار مرجعي .. إن نوع الجن الذي يؤمن به الإنسان المغربي والذي هو راسخ في عقله الجمعي صنفان: جن مسلم / مسالم / مؤمن / خير ( القطب الموجب ) .. وجن عنيف / كافر / مارد / عصي / شرير ( القطب السالب ) .. إذ وجب الاحتياط من النوع الثاني الذي يتسبب في إنشاء الوساوس والهلاس والاضطرابات والقلاقل والفتن والخيانات .. لأنه قوي بسلاحه وجيشه { قبائل ، أحزاب ، سلاطين ، خدام .. } يرى ولا يرى ، يسكن كل شيء ويتنكر بأقنعة جهنمية .. إن طرده والقضاء عليه ليس بالأمر اليسير ، يلزم توظيف كافة الإمكانات التي تقلل من جبروته وبطشه وقوته { موسيقى كناوية / تعاويذ / تلاوة القرآن / البسملة في كل شيء .. } ؛ على اعتبار أن كل صنف من الجن يلائمه أسلوب في التصدي له : الجن العنيف / العنيد تناسبه قيام حضرة كناوية ( رقص / جذب / موسيقى .. ) والجن العادي يناسبه الدعاء وترتيل القرآن والاتصاف بشخصية قوية .. إذا ، فالاختلال العقلي { الجنون } في المعتقد الشعبي لا يتم تأويله بالمنهاج العلمي وأسلوب الطب العقلي ، بل يتم اللجوء إلى التفسير السحري / الخرافي أو التفسير الغيبي / الديني .. { المقال الثالث " كيف تفسر مجتمعاتنا الاختلالات العقلية " / محمد منصور .. الملف / مجلة " زمان " .. } ..
* إن مكان علاج الجنون في المغرب قديما لم يكن في الشوارع أو البيوت بشكل ملحوظ ، بل كان في بيمارستانات { 1 } / مشافي الأمراض العقلية التي تدخل ضمن انشغالات واهتمامات السلالات القديمة الحاكمة في المغرب ؛ أشهر المارستانات ما يلي :
ا) مارستان مراكش / أمر السلطان الموحدي يعقوب المنصور في القرن الثاني عشر الميلادي ببناء مشفى يسمى " دار افرج " ، خصص لإيواء المرضى المجانين وتقديم الخدمات الإنسانية والمادية لهم للتخفيف من معاناتهم ومساعدتهم على العلاج { 2 } . وعين السلطان ميزانية مالية محترمة لتدبير شئون المشفى ، وفي يوم كل جمعة يزور هذا الأخير ليتفقد حال المرضى من خلال السؤال عن أحوالهم وتتبع الخدمات المقدمة لهم ..
ب) مارستان فاس / سار على نهج الدولة الموحدية في العناية بالمشافي العقلية ، سلاطين الدولة المرينية ، فالسلطان المريني يعقوب بن عبد الحق شهد زمنه بناء المارستانات للمجانين والمرضى العقليين في القرن الثالث عشر الميلادي منها " سيدي فرج " { يقدم المشفى الإيواء والأكل واللباس والشفاء للنزلاء بمساعدة أطباب وممرضين وطباخين وحراس .. } لعلاج المرضى ، كان الاعتماد على فن الطب والموسيقى ( آلة الطرب ) بغية إدخال السرور في نفوس المرضى والتخفيف من معاناتهم .. { 3 } ..
لكن هذه البيرماستانات في زمن الدولة المرينية بعد حكم سلاطينهم طالها التهميش والإهمال ، وغابت العناية ، وأصبحت عرضة للضياع والاندثار .. وفي زمن الحماية الفرنسية تراجعت العناية بالبيرماستانات مع دخول الاحتلال الفرنسي إلى المغرب { إهمال المرضى العقليين / غياب الثقافة الطبية العقلية / تحول المشافي إلى سجون / غياب العلاج / تصفيد المجانين / غياب الموسيقى في المشافي / خلط المرضى باختلاف أمراضهم / غياب وجود الأطباء والممرضين .. } وتحولت إلى شبه أماكن مهجورة يقصدها المعتوهون والوافدون الجدد من أماكن بعيدة عن مدينتي مراكش وفاس .. { المقال الرابع " المارستانات .. حكاية المغرب مع الجنون " / غسان الكاشوري } ..
* إن الجنون folie يقابله العقل raison في الثقافة العربية الإسلامية ( المغربية كنموذج ) كما في الثقافة الغربية في العصر الوسيط حيث ينظر إلى العقل بأنه الأداة المتحكمة في هوى النفس ( من فقد عقله فقد اتزانه وتوازنه ) ؛ وليس المقصود بالعقل أداة التفكير المجرد ، بل العقل كما تبغيه وتروج له السلطة بمختلف مشاربها ، العقل المغلف تغليفا إيديولوجيا وسياسيا الذي جعلت منه السلطة الحاكمة داخل المجتمع { دين / سياسة / تقاليد .. } الآمر والناهي ، القاضي والمستشار في تدبير شئون المجتمع من حيث الحرص على استمرارية الحكم والنظام ، وسيادة المنظومة السوسيوـ أخلاقية والدينية ودفع الناس إلى احترامها والعمل بها .. وكل من سولت له نفسه التمرد والعصيان والخروج عن نهج سيادة العقل الاجتماعي ( النظام ) يصنف في خانة المتمرد والمجنون وفاقد العقل ويكون مآل حياته سيئا وسلبيا ( وضعه في المعزل / الأسر / المشفى الطبي العقلي ) .. { 4 } ..
تتحدد علاقة السلطة بالجنون في اعتبار الدولة راعية لنظام العقل الذي هو نظام المجتمع ، والنظام السياسي جزء منه ؛ فالمارستان العقلي ليس بالضرورة مكانا للعلاج ، وليس الطبيب دوما هو الذي يقرر في مصير النزلاء داخله ، بل السلطة / سلطة النظام هي من يقرر في شأن " المجنون " الذي فقد عقله بسبب تمرده وخروجه عن قاعدة النظام كما يريده النظام ، فنهايته محسومة ومحتومة وعبارة عن تحصيل حاصل ( الأسر في المعزل ) ..
.. بإيجاز ، فارتباط العقل بالاتزان هو مراعاة واحترام سيادة المواضعات المجتمعية { دين ، سياسة ، أخلاق ، أعراف .. } أي احترام سلطة هذه المواضعات ليحصل الاتزان في القيم والسلوك والأفكار . إن الاندماج والانصياع والرضا عن نهج السلطة يجنب الشخص العقاب الاجتماعي .. ومن ثمة ، صنفت المارستانات العقلية في خانة أماكن العقاب والجزاء الاجتماعي ، فهي معازل ومعاقل وأماكن أسر لا مشافي للعلاج .. { المقال الخامس " الطب العقلي بالمغرب " / مليم العروسي .. } ..
* ليست المارستانات الطبية العقلية وحدها المؤهلة لعلاج الحمق أو الجنون في سائر المجتمعات العربية الإسلامية أو غيرها ؛ بل توجد بدائل لها مثل الأضرحة والزوايا والأديرة والكنيسة والمساجد الشعبية الصغيرة .. في المغرب مثلا اشتهر ضريح " بويا عمر " { 5 } بإيواء نموذجين من الزوار : زوار يقصدونه بغرض الاستجمام والاستمتاع بالطبيعة قرب واد " تساوت " ، وهم اشخاص أصحاء عقليا وجسمانيا .. وزوار أتى بهم أهلهم وذويهم من أجل الاستشفاء والعلاج ، وهم مرضى ومجانين تتركهم أسرهم يواجهون مصيرهم وحدهم .. يتشخص العلاج في " بويا عمر " في توظيف آلية الموسيقى الشعبية ( كناوة ) وهي عبارة عن حضرة أو حفلة يحضرها أصحاب الحال ( الجن ) في الفترة المسائية أو في المواسم تعزف فيها موسيقى الجذب والرقص بمعية امرأة خبيرة ( المقدمة ) ويستقر المريض المصاب وسط الجماعة يجذب بجنون هستيري إلى أن يسقط بدون وعي منه .علاوة على الموسيقى توجد آلية أخرى في المداواة وهي الاستحمام في الساقيات المليئة بالماء أو في المستنقعات القريبة من الضريح ؛ أما معظم الزوار / المرضى { مجانين / حمقى / بله .. } يتجولون بجانب الضريح ، منهم الحر الطليق ، ومنهم المكبل والمصدف بالسلاسل والقيود ، هيأتهم تدعو للشفقة والرحمة وأغلبهم من النساء ؛ وأسباب أسقامهم وعللهم ومعاناتهم ترجع إلى سرقة أموالهم أو ضياعها أو إلى كساد تجارة أو خسارتها أو إلى خيانة زوجية أو طرد من العمل أو رسوب في الامتحان ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** هوامش **
{ 1 } البيمارستان لفظ فارسي قديم يتكون لغويا من شقين : بيمار/ المريض أو المجنون أو المعتوه .. ستان / المكان ؛ البرماستان هو المستشفى الذي يؤوي مضطرب العقل / الأحمق / المجنون ..
{ 2 } مشفى مراكش أنيق بنقوشه البديعة وزخارفه المحكمة ، وساحته الفسيحة ، وأشجاره الكثيرة الكثيفة ، وربكه المائية ذات الرخام الأبيض وأفرشة بيوته النظيفة من كتان وصوف وحرير .. ومطابخه المفيدة التي تهيء الأطعمة ، وصيدلياته التي توفر الأدوية ، ودواليب بيوته التي تضم الألبسة الملائمة لمختلف فصول السنة ..
{ 3 } عطفا على ذلك ، بنى السلطان المريني أبو عنان " مارستان سلا " ؛ وابن عاشر المريني شيد المستشفى العزيزي بالرباط ؛ وأقام السلطان السعدي عبد الله الغالب في مدينة مراكش ماريستانا جعله مأوى للمجانين والحمقى ، لكن مستواه المادي والإنساني كان أقل من مستوى سابقيه في عهد الدولة المرينية ..
{ 4 } نفس التصور ساد في أروبا القروسطية حيث كان يعامل الخارج عن النظام ، نظام العقل ( السلطة المجتمعية ) مجنونا أو أحمقا أو فاقد العقل يلزم عقابه وترويضه في المعزل حتى يعود إلى رشده ( القبول بقواعد اللعبة ) أو يترك في الأسر لأجل غير مسمى ؛ لسبب واضح يتمثل في أنه تمرد واستهجن بالمعايير التي سطرها المجتمع وأمر القطيع باتباعها واحترامها والعمل بها .. { انظر ميشيل فوكو " تاريخ الحمق في العصر الكلاسيكي " } ..
{ 5 } "بويا عمر" ولي الضريح يوجد ما بين مدينتي مراكش وبني ملال المغربيتين ، مجهول النشأة والنسب والتاريخ والسلوك .. لم يرد اسمه في كتب تاريخ المغرب ؛ وجوده افتراضي / وهمي ، غير مذكور في كتب الفقه والتصوف والتاريخ المغربي ؛ روج المستفيدون لوجوده في المنطقة روايات شفاهية لشخصه بغرض مادي / نفعي .. قامت السلطات المغربية { وزارة الصحة العمومية في شخص وزيرها الحسين الوردي ) في السنوات الأخيرة بنقل وترحيل نزلائه ( 800 نزيل ) إلى مستشفيات عقلية في المملكة بغاية علاجهم وتحريرهم من العبودية والاستغلال .. لكنها واجهت مقاومة شديدة من لدن الساهرين على الضريح والذين يعتبرون أنفسهم ورثة وحفدة جدهم " بويا عمر " ينتفعون من عائدات ومداخيل الضريح نقدا وعينا ..
٤د.عائشة الخضر لونا عامر و٣ أشخاص آخرين
أعجبني
تعليق
مشاركة٠ تعليق
نشط
اكتب تعليقًا عامًا...
د.عائشة الخضر لونا عامر مع أ.د. عبد الكريم الوزان و
١٦ آخرين
.
مسؤول
· ١٠ س ·