اللبناني يوسف غزاوي يوازن بين الجمالي والدلالي
معرض "ذاكرة الغياب" يضم 35 لوحة
ذاكرة كل شيء غائب
بيروت - يقيم الفنان التشكيليّ اللبناني يوسف غزاوي معرضًا فرديًّا لأعماله الجديدة في غاليري “إسكايب” في منطقة الأشرفيّة في بيروت.
المعرض الذي يأتي بعنوان “ذاكرة الغياب” يستمر حتى الثالث والعشرين من سبتمبر المقبل وتتخلّله محاضرة فنّيّة يلقيها الفنان غزاوي. ويضم المعرض 35 لوحة، منها لوحة بعنوان “حنين 2″، وأخرى بعنوان “رسائل الريف”، و”بساط الريح”.
في هذا المعرض الفردي يستدعي غزاوي حياته الطفولية، بالأحاسيس والعواطف والتجارب الحميمية، من خلال أعمال تجريدية مطعّمة بالرموز وتوازن اللوحات بين الفن الدلالي والفن الجمالي. ومن الرموز التي استخدمها، السلّم للدلالة على الزمن الماضي الذي يتذكّره ليهرب من حاضره.
في هذا المعرض الفردي يستدعي غزاوي حياته الطفولية، بالأحاسيس والعواطف والتجارب الحميمية
أبطال اللوحات هم السلّم، الطائر، العرزال، الأتراب، الصيف، الشجر، القرية، الطريق الترابيّ، حقل مُعجميّ لذاكرة الطفولة الغائبة في فكر الفنان منذ كان طفلا، تصور حنينه لزمن جميل بريء أصبح نادرًا في زمننا الحالي.
وقد كتب الفنان بيانًا عن المعرض، جاء فيه “ذاكرة الغياب: تتركُ الطفولةُ، بذكرياتها، أثرَها وسحرَها علينا، مهما بلغنا من العمر عتيًّا؛ نبقى أسرى لها ولعبثها وبراءتها وزمنها الجميل. زُرعت طفولتي في بستان جدّي في القرية حيث وُلدتُ. تربّت هذه الطفولة على نبض الأشجار المنوّعة بألوانها وثمارها وأشكالها وموسيقاها. عرينها كان عرزالًا في هذا البستان، نصعد إليه من خلال سلّم خشبيّ. كان هذا الصعود، من خلال هذه الوسيلة، يعني لي الارتفاع عن الأرض بعيدًا من منازلها وعالمها”.
ويوضح “شكّل هذا السلّم لي أمانًا وانتقالًا من عالم إلى آخر، ومن مكان إلى آخر؛ من عالم الأرض إلى عالم الفضاء والتحليق. أتحوّل طائرًا من خلال هذا الانتقال، أنظر إلى العصافير الطائرة بتحدٍّ؛ ينبت لي جناحان أرتفع وأحلّق بهما. هذا العرزال هو منزلي الصغير وملاذي، المليء بالمغازي والفرح والحرّيّة. حتى أنّ الصعود إلى سطح منزلنا في القرية كان منوطًا بسلّم خشبيّ، أعانقه صغيرًا، صعودًا ونزولًا. كان بمثابة ملعب لي واكتشافًا متكرّرًا. تلك الوسيلة البدائيّة والبسيطة كان لها الحضور المهيمن على الحياة حينها قبل اختراع الدرج من الباطون والحديد وسيطرة المصعد الكهربائيّ في عصر التكنولوجيا. السلّم الخشبيّ قصيدة شعريّة وروحيّة قبل اختراع نصوص الوسائل الحديثة للصعود. السلّم ينقلنا من الأرض إلى السماء. ألم يصعد سيّدنا عيسى المسيح، وهو طفلٌ، السلّم عندما رأى أطرافه توصل إلى السماء الزرقاء؟”.
وهكذا يقول غزاوي “حفر السلّم في ذاكرتي بما حملته هذه الذاكرة من قصص الطفولة الجميلة البريئة. لا يقتصر معنى السلّم، في مجتمعنا، على هذه الوسيلة المنزليّة، بل استعيرت لمعانٍ أخرى، فهناك السلّم الموسيقيّ، والسلّم الوظيفيّ، والسلّم الاجتماعيّ، الخ. وكلّها تدلّ على إيجابيّة وجمال هذه المفردة الكلاميّة التي تعني تغيير الأمكنة والحالات والانتقال”.
غزاوي يستدعي حياته الطفولية بالأحاسيس والعواطف والتجارب الحميمية، من خلال أعمال تجريدية مطعّمة بالرموز
“الطائر في العمل على علاقة بهذا السلّم. وهذا الكائن ليس بحاجة إلى سلّم للارتقاء والانتقال، بعكس الإنسان. جناحا الطائر هما السلّم. لم يحتمل الإنسان حرّيّة هذا الطائر، فحجزه في قفص ووضع له سلّمًا ليقف عليه، داخل هذا القفص! والطائر هو رمز للهجرة الداخليّة والخارجيّة، والتي كثرت وامتدّت وطالت”، يوضح التشكيلي اللبناني.
ويرى الفنان أن “المرء يستدعي حياته كطفل، والتجربة الحميميّة لماضيه بعواطفها وأحاسيسها. وتحتلّ فيها الذاكرة الحواسيّة مكانًا هامًّا جدًّا: الصور والأصوات والتفاصيل التي نستعيدها كلحظات ممتعة أو مؤلمة، والمقصود منها الذكريات الخاصّة التي تحدّث عنها مارسيل بروست، بأنّ مذاق قطعة حلوى يُعيد إليه حياته كطفل في كُمبري.. هي قضيّة هويّة اجتماعيّة أنطولوجيّة قياسًا لحاضرنا الذي نحياه.. هي تقييم لمصيرنا الخاص”.
وفي توضيح للبناء التأليفيّ في لوحاته، يقول غزاوي إنه “يُحاكي فنّ العمارة، كما كان حال الفنّ في الشرق، وفي الحضارات القديمة كالسومريّة والفرعونيّة وبلاد ما بين النهرين والفنون البيزنطيّة والفنّ الإسلاميّ باستخدامه المسطّحات ذات المستويات المختلفة (علاقة الفنّ بالسكن والأمكنة).. السلّم هو توازن بين العموديّ والأفقيّ. تختلف أرجل السلّم الخشبيّ بين الدائريّ والمستطيل، وقد يكون الاثنين معًا. وألوانه تختلف بين الفاتح والغامق تبعًا للون الشجرة المأخوذ منها جسد هذا السلّم. ويمكن أن تتعدّد أشكاله ودرجاته. أمّا الطائر، فجناحاه هما الريشة والقلم، يرسم بهما أثناء طيرانه وملامسته للفراغ. السماء هي قماشته ولونه”.
ويتابع “إذن، أحاولُ في أعمالي إقامة توازنٍ بين المستويين، الجماليّ والدلاليّ، لكنّ السلّم يبقى في الذاكرة، ويبقى معه الحنين إلى زمن جميل مضى، وطفولة بريئة كحّلت عينيها بدرجات السلّم الهندسيّة المتوازنة المسافات والأبعاد والحضور.. السلّم في أعمالي هو رمز لزمنٍ مضى، نعشقه، نحتاجه، ونهرب إليه من خلال ذاكرتنا.. يقول الفنان خوان غري ‘إنّ عظمة الفنان تتوقّف على عمق الماضي الذي يحمله في ذاته'”.