بورتريهات الفنان المغربي عبدالله بلعباس طَيْفُ ليفيناس في مزار لالة خديجة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بورتريهات الفنان المغربي عبدالله بلعباس طَيْفُ ليفيناس في مزار لالة خديجة

    بورتريهات الفنان المغربي عبدالله بلعباس طَيْفُ ليفيناس في مزار لالة خديجة


    فنان يدمر أسطورة النسخة الواحدة النهائية من العمل الفني.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    فنان لا يرسم أي أحد في بورتريهاته

    رسخ الفنان المغربي عبدالله بلعباس اسمه واحدا من رموز الفن التشكيلي المغربي المعاصر، إذ غامر بالتجريب متنقلا من عالم إلى آخر دون تردد أو تخوّف، وحتى عوالم البورتريه أعاد تشكيلها وفق رؤيته الخاصة، إذ صنع من الوجه الواحد نسخا عديدة من خلالها يحكي ويمرر الرسائل التي يريد، دون تكلف وببساطة نطق كلمة.

    لم يشأ الفنان الألمعي عبدالله بلعباس، لسبب متعمد وبخلاف المتوقع الشائع، في ختام ندوة احتفالية نقدية نُظمت على هامش أحد معارضه، أن يُحدّث الحضور، مطلقا، عن تجربته الخاصة أو مساره المتفرد. بل اكتفى، عوضا عن ذلك، ودونما تعليق يُذكر أو تأويل يُحفظ، بسرد ثلاث حكايات تاريخية عن البورتريه، ترنحت مقَاصِدُها الترجيحية بين الترويع والسخرية والروعة.
    تثبيتُ الظل


    الحكايةُ الأولى من مصر الفرعونية عن منحوتات رؤوس الملوك، التي كُتِبَ عليها ألا يراها، داخل غيابات القبر، عدا الميت المبجل الخالد دونَ سواه من الأحياء الفانين.

    والثانية من الدرس النفسي الفرويدي عن فَاسِدَيْنِ اثنين من مُحْدثي النعمة، وقصتهما ذائعة الصيت مع أحد الخبراء الفنيين لاَذِعي اللسان، الذي تهكم على لوحتيهما المعلقتين، جنبا إلى جنب، من دون السيد المسيح، الذي صُلب، كما هو معلوم، بين سارقين وضيعين.

    أما الحكاية الثالثة فمن ثنايا التاريخ الطبيعي لبلينيوس الأكبر، الذي أورد أسطورة إغريقية تومئ إلى نشأة البورتريه الجينيالوجية من خلال أُمثولة الفتاة العاشقة، التي رسمت بالفحم ظل حبيبها الغائب على إهاب الجدار، ثم إقدامِ والدها الخزاف، بفكرة عبقرية غير مسبوقة، على تثبيت ذاك الظل بواسطة الطين المُجفف من أجل المحافظة على سمته الأيقوني إلى الأبد، وصيانة الذكرى العزيزة لصاحبه تَرَقباً لعودته، ربما ذات يوم، من سفرهِ العوليسي البعيد.
    العينُ/ الوحشُ



    حرفة خلق الأكوان الباطنية


    أَوَانَهَا تحديداً، ومن جذامير هذه الفسائل المتباعدة المزروعة في مياه الجاذبيات الزمنية المترابطة، استوعبتُ نوعا ما غايةَ الفنان بلعباس، ومظانهُ الفلسفية من هذا التمويه المقصود، أو بالأحرى من هذا التغبيشِ الكلامي الساترِ لصنعةِ المبدع العارف المستغني عن نصاعة الحذلقات النظرية، وكذا الدالِ عن نُسغٍ صوفي يدس عميقا في طيات التواضع أسرار حرفة المصورِ الخالقِ لأكوانهِ الباطنية، ذاك الذي طالما بحثَ في مساره الثري متصاعدِ المحطات والأطوار، عن ما تناساه الجميل عمدا، وعن ما أقصاهُ القبيحُ سهواً.

    فلعلهُ ود أن يكتمَ عن مستمعيه ومشاهدي منجزه، أنهُ يبني الوجوه المستدعاة إلى ذاكرته السياسية والثقافية التعاطفية (جان جونيه، محمد زفزاف، إدريس الخوري، محمد شكري، إدمون عمران المالح، محمد خيرالدين، عبداللطيف اللعبي، عمر بن جلون، المهدي بنبركة، عبدالرحمن اليوسفي، أدونيس، محمود درويش…)، التي حلت خلال السنوات الأخيرة محل التزامه الأيديولوجي الصارم صرامة عقائدية. يبنيها انطلاقا من العين فقط، اعتمادا على مينيمالية حادة، واقتصاديات متقشفة في المواد، والألوان، والتعبير، والخلفيات، والأسانيد، والخطوط، والتقنية، والكتابة المصاحبة سواء أكانت منتقاة أو اعتباطية، وسيانَ إن كانت من مُحْتَدٍ صقيل أو جوهرٍ مدعوك.

    العينُ نفسها، الناهضةُ على منظور شاقولي مثل طوطم بدائي، أو أَلِفٍ عرفانية لابن عربي. العينُ/ الحبكة، القطعةُ متناهية الصغر، التي تعيد تشييد لعبة المُرْبِكَةِ (البازل) برمتها، وتستدعي تباعا بقية قطعها المنفلتة الضائعة وسط غابة الوجود.

    العينُ/ الوحشُ، الذي كلما تَجَاسَرْتَ على محو وجه ما، مَثُلَتْ قدامك، وأحبطتْ ببراعة لافتة محاولتكَ التخريبية اليائسة. فاستنادا إلى هذه العين اللامحددة يتكشفُ تدريجيا المحدد ذو الصلات المبهمة والأنساب المختلطة مع الأصل، ويتم نفي التمثل السابق الذي يحملهُ كل واحد منا عن ذاك الوجه المرسوم، وخصاله الروحية، أو سماته النفسية، أو أبعاده الرمزية.
    ذاكرةٌ تتخلصُ من مرجعها



    الحفر في عدد لانهائي من الوجوه


    في بورتريهات بلعباس، كما في كافة تجلياته التشكيلية، ولوحاته الماء – حبرية، أو الزيتية، أو حتى عن الطبيعة البحرية الميتة، تتخلصُ الذاكرة من مرجعها الدفين، وتتجردُ من انطباعها المتأصل. لا سيادةَ سوى للعابر المتبدد، ولا سلطةَ إلا للغائم المُوحي.

    ومن هنا، يبدو جليا ومفهوما لم لا يحتفظُ بلعباس بأرشيف جامعٍ لبورتريهاته أو لقصاصات ما دُوّن عنه من كتابات، إنهُ فحسب يبتكرُ وجوها لا حصر لها، وسرعان ما ينثرها في مهب النسيان العاتي. يقرأ سطورا سيجف مدادها، ثم يذروها في التو لتتناهبها رياح العدم العاهلة المُفَرقَةِ. يستهويهِ الفناء القاسي، ويستحل كيفما شاء دماء الديمومة الهزيلة.

    بل الأدهى من ذلك، يرسمُ بلعباس نفس البورتريه في العشرات من النسخ التجريبية، على نهج وشِرْعَةِ أجداده المَثالِين السومريين، الذين نحتوا المئات من النسخ من الكاهن الملك غوديا، أول بورتريه بملامح حقيقية لشخص حقيقي في تاريخ البشرية والفن على الإطلاق، حسب تخريجات الباحث شاكر لعيبي.

    وفي ما بعد، تكرر الأمر نفسه مع جداريات مدينة بومبي وبورتريهات الفيوم. كأني به يدمر أسطورة النسخة الواحدة. النسخة النهائية. النسخة ذات الهوية المتجمدة. النسخة التي لا يمكن التخلي عنها. النسخة غير القابلة للتعديل أو المساس.

    في الواقع المفترض، إن بلعباس لا يرسم أي أحدٍ في بورتريهاته، وإنما بالأحرى يحفر في عدد لانهائي من الوجوه، لعله يصلُ في خاتمة المطاف إلى وَجْهِهِ هُوَ، شأن تلك الشخصية البورخيسية التراجيدية، التي اقترحتْ على نفسها مهمة رسم العالم. وخلال سنوات مديدة من عمر ذاك الرجل الصبور، أثثَ فيها الفضاء بصور خطوط التضاريس المترامية، وقبل أن يقضي نحبه بفترة وجيزة جدا، اكتشف بأن صور تلك الجغرافيات الفسيفسائية كانت تخط صورة وجهه هٌوَ لا غير.
    أنَا صديقُ وَجْهِكَ



    وجه نظير يهتف في وجهك


    بين أرجاء إقامة بلعباس الفنية، ضواحي مدينة الجديدة، التي يطلقُ عليها اسم “مزار لالة خديجة”، تيمناً باسم والدته الراحلة، يمكنكَ وأنت تتملى العشرات من البورتريهات المعلقة على الحيطان، أن تستشعرَ الحضور السحري لِطَيْفِ إيمانويل ليفيناس، وهو يتعهدُ أوركسترا الراحلين، الذين أصبحوا خارج كينونتهم. يعيدُ ترتيب صفحات أنطولوجيا الوجوه المنفلتة الهاربة نحو خارجانية الكائن، كي لا تقع في شرك ميتافيزيقا الصورة أو الشكل الظاهرين.

    إذ تحضرُ الأنوات في العالم الفسيح من خلال غياب الوجه التعريفي الرسمي، ودَفْعِ الإدراك لعدم الانهمام السخيف بالجسد في كليانيته. ذاكَ هو الوجهُ/ النظرةُ الذي يتغياهُ بلعباس في أعماله المتعاقبة، وجهُ الغريب، وجه العلامة أو الأثر القادمين من المستقبل لا من الماضي السحيق، وجه الذكرى التي لم يعد من الممكن استردادها سوى بوجهٍ يصيرُ آخَرْ، وجه مترع على فيمينولوجيا شتى الوجوه المارقة عبر مدارات حيواتنا غير القابلة للإمساك.

    وجهٌ نظيرٌ نَدِيدٌ يهتفُ في وجهكَ، كاحتمال أنطولوجي سامق، لا كنصيحةٍ أخلاقية بئيسة: لا تقتلني رجاءً، فأنا صديقُ وجهكَ.

    في “مزار لالة خديجة” تتزودُ ببركتك الديونيزوسية، ثم تمضي خفيفاً ظريفاً، تمضي وسط معمعة الوجوه المارقة المتلاطمة كأمواج الأبدية، تمضي وجهاً مسكونا باللامكتمل.. مهجوساً باللايقين.. ومُتخطيا لمذاهبِ الحُسْنِ الدُنيا صوبَ مواقفِ المعاني العُليا.


    الفنان يبتكرُ وجوها لا حصر لها، وسرعان ما ينثرها في مهب النسيان العاتي كأنه يقرأ سطورا سيجف مدادها

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    أنيس الرافعي
    كاتب مغربي
يعمل...
X