الراهن وصدماته.. التفكير في الفن التشكيلي المعاصر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الراهن وصدماته.. التفكير في الفن التشكيلي المعاصر

    الراهن وصدماته.. التفكير في الفن التشكيلي المعاصر


    قراءة في كتاب "الفن التشكيلي المعاصر، صدمة الراهن".

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    تكسير العادات البصرية المتوارثة

    ونحن نعود إلى منشأ الحركات الفنية المعاصرة نفهم أنها لم تأت نوعا من الترف، ولا تعبيرا عن جمال متوافق عليه، ولا هي تقليعات فردية، وإنما هي ممارسة في صميم التاريخ البشري، إن الفن المعاصر وعي تاريخي وفكري بالتاريخ، وهو أيضا خطاب سياسي، ومن هنا تأتي قوة تأثيره الصادمة، والتي لا تختار جمهورها ولا تقسمه ولا تعمل على تخديره، بل توقظه برجّات عنيفة أحيانا.

    قليلة هي الكتابة العربية التي اضطلعت بالفن التشكيلي المعاصر، بشكل حصري ومعمق. وإن كان الاهتمام بهذا البراديغم الفني الجديد، على قلة زخمه، قد انتعش في السنوات الأخيرة، سواء على مستوى الاشتغال البصري من قبل فنانين منتمين إلى الحساسية البصرية الجديدة، أو على مستوى الكتابة البحثية والنقدية باللغة العربية.

    وتحاول الكتابة البحثية والنقدية العربية أن تساهم في التعريف بهذا النموذج الاستيتيقي الكلي، الذي بات يكتسح العالم ويفرض طرقه وتوجهاته بقوة. وذلك ضمن سياقات التغيرات العالمية الطارئة والتي لا يجد الفنان سبلا لمناقشتها ومطارحتها إلا عبر تيارات الفن المعاصر، الذي يتبنى مختلف الأسندة والوسائط الجديدة والمتجددة، لكونه قابلا لتغيير جلده باستمرار تماشيا مع المتغيرات الحاصلة. وهو ما نشهده في ظل بروز فجر الذكاء الاصطناعي وما يفرضه من تحدياته مفاهيمية وفكرية ووسائطية غير مسبوقة.
    سياق المعاصرة


    الكتاب يفتح صفحاته على عوالم الفن المعاصر الشاسعة، السائلة والعميقة، التي بمقدورها استشراب كل تجديد وتغيير

    يمكننا القول إذن إن الفن التشكيلي المعاصر يهتم بتحولات “الراهن” على كل المستويات الممكنة والمتاحة، إنه نتاج أزماته وانزلاقاته وتطوره السريع. إنه بهذا المعنى، نتاج “صدمة الراهن”، بتعبير الناقد الفني المغربي إبراهيم الحيسن، في مؤلفه الجديد “الفن التشكيلي المعاصر، صدمة الراهن”.

    يتتبع الحيسن في منجزه هذا الخطوات التي قادت إلى نشوء وبروز الفن المعاصر، في بحث رزين عن الجذور التي انبثق منها هذا البراديغم الفني المحدث والبديل عن سابقيه، وذلك في اتصاله بالآني وصدماته.

    ينقّب الحيسن في كتابه الصادر عن دار خطوط بالأردن 2022، عن سمات ومميزات الفن المعاصر ليضع المتلقي أمام مدركات وكيفيات نشأته، وأيضا ليجعله إزاء السبل الفكرية والممارساتية والراهنية التي قادت الأعمال المنتمية إلى سياق المعاصرة التي صارت تغزو المعارض والمتاحف والميادين والساحات، وحتى الصحاري والأراضي الخلاء.

    كل ذلك في ظل النظام العالمي الجديد، المتسم بالروح الليبرالية الجديدة، والعولمة الانصهارية، التي تخطت الحدود والجدران والجغرافيات، وأذابت الهويات والثقافات في محلول سائل واحد، إذ بتعبير زيغمونت باومان قد بات العالم “سائلا”. وذلك لصالح تسهيل منشأ سوق موحدة وواحدة، تسمح بانتقال الأعمال الفنية والأفكار مثلما تنتقل السلع في الموانئ وغيرها.
    عتبات التأسيس



    الكتاب يتتبع الخطوات التي قادت إلى نشوء وبروز الفن المعاصر في بحث عن الجذور التي انبثق منها


    غاية هذا الكتاب تتضح في “النبش في مسار تشكل الفن المعاصر ومعرفة السياق التاريخي والإبداعي التي أنشئ في ضوئها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع ما ميز هذه الحقبة التاريخية من إبداعات تشكيلية جديدة ومتنوعة أطلق عليها تعبير فنون ما بعد الحداثة”.

    يصعب الفصل بين المعاصرة وما بعد الحداثة، الأولى على المستوى الاستيتيقي والثانية على المستوى الفكري والفلسفي، إنهما وليدتا التطور ذاته والحقبة عينها. وإن ترى مجموعة من الباحثين المتخصصين أن الأولى من نتاج الثانية، ويتفق البعض بأنهما ابنتا الرحم نفسه: التحول الجذري الذي حدث منذ انعطاف الحرب العلمية الأولى، وتحقق فعليا في ما بعد الثانية.

    “شكلت مرحلة الستينات مختبرا لبداية التحول، خصوصا مع ظهور فن البوب Pop Art الذي ارتبط برموز مجتمع الاستهلاك والإعلان والأجزاء الجماهرية والهامشية والمستعملة في الحياة اليومية بشكل عام، وأيضا مع المفاهيمي conceptuel الذي تساءل عن سبب الفن وربط الإبداع بالفكرة والتصور على حساب باقي مكونات وسندات التعبير الشكلي، وغير ذلك من التيارات الفنية التي رسمت مساحة المنافسة الإبداعي بين باريس ونيويورك”، يؤكد الحيسن.

    يتفق هذا القول مع الرؤية الفلسفية التحليلية للفيلسوف الأميركي آرثر دانتو الذي صاغ مفهوم “تجلي المبتذل”، أي انتقاله من حالة الاعتياد إلى السمو فنيا.

    يمفصل الحيسن مقامات الفن المعاصر، دون أي ارتهان لأي حكم قيمة مسبق، همه الأول تجذير تيارات وآليات اشتغال الأعمال المنتمية إلى هذا البراديغم، الذي يقدم نفسه بديلا عن الفن الحديث والكلاسيكي، إذ “نأى (هذا الفن) عن التقاليد التقنية المقيدة فاتحا المجال بذلك لظهور قيم تعبيرية أخرى في اللون والتشكل والتوليف والتصميم والإخراج الجمالي، راسما بذلك نوعا من التمرد على القواعد والنظم المتوارثة عن العصور الكلاسيكية”.

    يفتح الكتاب صفحاته على عوالم الفن المعاصر الشاسعة، السائلة والعميقة، التي بمقدورها استشراب كل تجديد وتغيير متعلق بسيرورة وصيرورات الراهن. دون أن يطرأ عليه أي إشباع. حيث أن “من سمات هذا النمط الجديد للفن التشكيلي تكسير العادات البصرية المتوارثة من العصور الماضية واستعادة الأشياء الجاهزة وردم المسافات بين الفن واللافن. وانبثاق استيتيقا مغايرة قائمة على الاستعراض والأداء الحي والمباشر”.


    إبراهيم الحيسن يتابع سياقات انبثاق مجموعة هامة من توجهات الفن المعاصر ضمن مسار تاريخي غير خطي


    صاحب ظهور الفن المعاصر تغير راديكالي في الوسائط المعتمدة والتقنيات المتبعة لإنتاج الأعمال الفنية في سياقاتها الحداثية والكلاسيكية، إذ سعى الفنانون الجدد لاستحداث “فن” قادر على استيعاب عالمهم الجديد المتحول باستمرار، المرتهن إلى الراهن في تقدمه التراكمي ومساراته المدفوعة بالصدمات والأزمات. عالم متحرك ومتغير، محكوم بعجلة التقنية والمكننة المتحركة صوب ما تفرضه الرقمنة من تبديل مستمر لكل أشكال التواصل والعرض.

    وقد صاحب ذلك مأزق السؤال الفينومينولوجي الأساس المتعلق بالتلقي الإنساني (الفردي، والجماعي) للعالم والأشياء، بما فيها الأعمال الفنية، مما سيدفع إلى الاهتمام بمآزق الجسد بعده الفاعل الرئيس في عملية الإبداع والتلقي.. وهو ما سيعلن عن بزوغ فنون الجسد بكل تنوعاتها وتعددها.

    يقول الحيسن “هكذا بدأ التعبير التشكيلي في التغير انطلاقا من الحوامل والسندات التي صارت متعددة في اتصالها بالفضاء والجسد والفكرة، وانمحاء الموضوع بمعناه الكلاسيكي، إلى جانب اعتماد العمل الجماعي القائم على تكامل المهام والأدوار الفنية والإبداعية والتواصلية، إلى جانب الرهان على الإثارة والاستعراض وإنتاج الدهشة وخلق الحدث في حينه أمام الجمهور، كما في بعض الأعمال الجسدية والأدائية.. وغيرها”.

    عمد الحيسن في منجزه هذا إلى تحليل سياقات انبثاق مجموعة هامة من توجهات الفن المعاصر، ضمن خط تاريخي غير خطي، لأن الكاتب لا يسعى لأي عملية تأريخ لأحداث هذا البراديغم، بقدر ما يهدف إلى استعراض جوهر التغيرات الحاصلة بعد بروز المعاصرة، واستنطاق تياراتها وتجلياتها على مختلف المستويات الفنية، في علاقتها بالمجتمع والفرد والاقتصاد والعولمة.

    ويضع الناقد الإصبع على عتبات التأسيس، وطارحا الأسئلة حول المراجع والجذور، ومحللا السياقات وبلاغات الزائل والمتلاشي ومناقشا جدلية الإبداعي والأيديولوجي، واضعا معجم الفنون زمن التكنولوجيات الجديدة، دون الإغفال عن قوى الفراغ ومسرحة الجسد وعرض الشيء في جاهزيته، وتحولات النحت من الحفر والنقش إلى الإنشاء والإرساء، و”برادوكس” الكثرة في الإقلال، وغيرها من التمفصلات التي بقدر ما يخوض فيها عبر نماذج غربية يستحضرها ضمن سياقات عربية أيضا.
    الصورة الهاربة



    الفن التشكيلي المعاصر يهتم بتحولات الراهن


    على امتداد صفحات المؤلف، يستقرئ الحيسن معالم هذا الفن الصادم، بدءا من التقاءاته بالحديث، مرورا بعلاقته بسؤال المستقبل والآني والنقد البديل وتعالقاته المرتهنة بالتكنولوجيا، دون نسيان النبش في حفرياته اللغوية، بما يفرضه هذا المفهوم من عسر في الاستيعاب مبدئيا، إذ يصعب تمييزه عن مفهوم “الحديث” moderne، إذ أن تعبير “معاصر” contemporain في الواقع، لفظ نحا إلى تعيين كل الوارد من الإنتاج الفني الذي لا يكون حديثا بالضرورة.

    ومثلما تخبرنا الباحثة في السوسيولوجيا الفرنسية نتالي إينيك فإنه جزء من جينيريك الفن. وقد “صار للفن المعاصر معادلات إبداعية أخرى مغايرة لم تكن مألوفة من ذي قبل، حيث التخلص من مادية العمل الفني والتجرد من ذاتية الفنان، بل صار الفن في نمطه الجديد مختلفا”، كما يقول الحيسن.

    ويبرز ما أسلفه الناقد الانتقالات التي أحدثتها المعاصرة في صميم كارتوغرافيا الممارسة البصرية الغربية، والتي ألقت بظلالها على باقي بقاع العالم، بما فيها الجغرافيا العربية.

    مما دفع إلى الحديث عن أشكال تعبيرية مستحدثة وغير مسبوقة، على النطاق الحديث والكلاسيكي، ومتمردة على قوالب الأكاديمي والمتعارف عليه مسبقا. وهو ما ينسجم مع مفهوم الصدمة، ويرتبط مع انزياحات الراهن.


    استيتيقا مغايرة قائمة على الاستعراض


    لهذا و”إبداعيا، بدا واضحا تحرر الفنان من قيود التصوير والنحت الكلاسيكيين، وذلك منذ ظهور الفن الحديث والتيارات الفنية المنبثقة عنه، بالإضافة إلى سعي الفنانين المعاصرين لتجاوز الشروط الجمالية التي سعت الحداثة الفنية لتكريسها في أكثر من صنف إبداعي، ونقديا، صار للخطاب التشكيلي معجم بصري جديد ولغة فنية جديدة وطارئة فرضها الإبداع نفسه”، يؤكد الحيسن في ختام كتابه.

    يوضّب صاحب الكتاب ترسانة من المراجع المعرفية والعلمة المتخصصة التي يستند عليها في عملية الحفر هذه، للنبش في طبقات تشييد معمار الفن المعاصر، الذي لا يتوقف على التوسع والتراكم طبقة فوق طبقة، ضمن سياق كل التغيرات التي تفرضها الوسائط البديلة والمتجددة، والتي تعزز الحاجة إلى الرقمنة، مثلما يصطلح على ذلك الحيسن. وهو ما لامسناه في الاستعانة بالشارع بديلا عن الصّلات، وفي التمرد الفوتوغرافي على آليات التصوير الصباغي، والفيديو مهاجما طرق العرض المكرسة، والجسد مسرحا حيا وأداة فنية من لحم ودم.

    يقف الكاتب عند كل هذا وغيره، مستبصرا مآلاته بين الغربي والعربي. وهو ما يجعل من الكتاب مرجعا أنطولوجيا تحليليا. يسلط الضوء على عصر الاستنساخ الآلي والرقمي، وتعدد الميديولوجيات وقنوات الصورة الهاربة من التأطير.

    حيث باتت المدن سندا كبيرا ومعرضا في الهواء الطلق، وبات المجتمع قابلا للنحت، في ظل ما سماه جوزيف بيس بـ”النحت الاجتماعي”، كل ذلك في تمازج رهيب مع عمارة المستقبل التي تخترق حدود التصنيف والتجنيس، حيث يتداخل النحتي بالإرسائي بالتصويري بالمعماري.. ضمن فن يعتمد على البيئة والمحيط والعابر والمثير والراهن، وهو ما يضعنا دائما إزاء “الصدمة”.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    عزالدين بوركة
    شاعر وباحث مغربي
يعمل...
X