فيزيائية السقوط الحر في لوحات الفنان الفلسطيني بشير قنقر
لوحات من عالم صاخب ومتحرك لا يحده زمان أو مكان.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
سقوط حر
متحررا من قيود الزمان والمكان يقدم الفنان الفلسطيني بشير قنقر تأملات في السقوط الحر في معرضه الفردي الجديد، من خلال تكوينات وألوان متمردة هي بمثابة مرايا للطبيعة الغريبة وللواقع المتأزم.
تقدم صالة “زاوية” الفلسطينية معرضا افتراضيا للفنان التشكيلي الفلسطيني متعدد الوسائط بشير قنقر تحت عنوان “تأملات في السقوط الحر”. يشمل المعرض مجموعة كبيرة من الأعمال مشغولة بالميكست ميديا. مجموعة ابتدأ تكوينها في سنة 2013 لتتوسع وتتطور حتى تصل إلى هيئاتها المتنوعة الحاضرة في المعرض الافتراضي.
يذكر البيان الصحفي المرافق للمعرض أن الفنان “يدعونا إلى الانطلاق في استكشاف عميق للنسيج الاجتماعي المعقد الذي يحدد وجودنا، من خلال الكشف عن الخيوط المعقدة التي تربط الأفراد في المجتمع، ومن خلال ملاحظاته وتأملاته الدقيقة، يستخدم تقنيّات ووسائط متنوّعة للتفاعل مع علاقته بالطبيعة. ويتميّز قنقر بموهبته الفريدة في احتضان جوهر التواصل البشري والتعقيدات التي يتضمّنها، ويستخدم خامات متنوّعة من التقنيّات والوسائط ببراعة. ويُظهر قنقر المهارة الاستثنائية في تفاعله مع جمال وتعقيدات المحيط الذي يعيش فيه، والذي يمنحه الإلهام الدائم”.
ليس من الغريب أن تكون المجموعة الفنية التي يقدمها الفنان بشير قنقر في صالة زاوية بشقها الافتراضي مجموعة بدأ تطورها منذ عدة سنين، لتصل إلى حالتها غير النهائية المعرضة لتحولات أخرى وبروز هيئات إضافية تنبثق منها قد لا تنتمي البتة إلى الواقع البحت، فهي تنسجم مع منطقها الداخلي الأشبه بسيرة لفيزيائية “كون” الفنان الذي يتكثف حينا وينضغط حينا آخر على بعضه البعض حتى يشكل نواة محتدمة ليتوسع وينتفخ ويتقعر ليتمدد آخر مشكلا مشاهد طبيعية غرائبية إلى جانب كونها تشير إلى واقعية حقيقية، ولكن من نوع آخر.
لوحات الفنان تهدد معنى الزمان الذي لا يمكن تحديده في مشاهده الطبيعية، فهي لكل فصول الطبيعة
ما يمثله الفنان في المعرض يهدد معنى الجغرافيا بالمعنى الكلاسيكي ويدفع الناظر إلى لوحاته إلى عوالم زمكانية، لاسيما في مجموعة اللوحات التي تظهر فيها مشاهد طبيعية لا تخلو من الغرابة من ناحية ألوانها ولا من ناحية تشكيلها وفق طبقات متناوبة تارة ومتداخلة تارة أخرى وتشف عن بعضها البعض.
كما تهدد لوحات الفنان معنى الزمان الذي لا يمكن تحديده في مشاهده الطبيعية. فالمشاهد هي لكل الفصول الطبيعية ولكل البيئات الحرجية التي من الممكن تصورها.
لذلك نود في عالم الفنان بشير قنقر الصاخب والمتحرك أن نرى مسيرة يبدو أن لوحاته عبرت بها. وليست بداية السيرة هي باللوحات التي تصور المساحات الطبيعية ويدعم هذا المنطق كون الفنان رسم المشاهد الطبيعية أو على الأقل معظمها في الفترة أو بعد الفترة التي انطلق فيها إلى أوروبا حيث الغابات والمشاهد المفتوحة أكثر وفرة.
ولعل النقطة الأساسية التي تحرضنا على هذا التفكير هي كون الفنان الفلسطيني عنون معرضه بـ”تأملات في السقوط الحرّ”. من ناحية يأخذنا هذا العنوان إلى عالم الفيزياء (بداية بما قدمه نيوتن وصولا إلى أينشتاين) ومن ناحية أخرى يأخذنا إلى محاولة كتابة لسيرة تحولات عالمه المكون من ثلاث مراحل للسقوط الحرّ. بداية نذكر اللوحات المركزية التي تتحلق فيها الأشياء والكائنات من بشر وحيوانات حول محور واحد لتبدو وكأنها كواكب متماسكة تجمعها قوة جاذبية غامضة رغم التشظي المُلمّ بها وتذكر بانفجارات صغيرة جعلت حدود الكائنات البادية والأشياء متداخلة وغير مكتملة الأطراف.
نذكر هنا هذه اللوحات التي أطلق عليها الفنان هذه العناوين: “العشاء الأخير” و”هجوم الدجاج” و”ركام من الخراف” و”هروبي”.
أما المجموعة الثانية فهي التي تحافظ فيها أشكال الموجودات في لوحاته على صفة الالتحام وفي بعضها نوع من التراخي بدأت تظهر ملامحه. وهذه اللوحات هي التي عنونها الفنان بـ”آدم وحواء”، و”تحت نظر الآلهة” و”الحب في زمن الموت” و”العشاء الأخير” و”قراصنة المتوسط” و”الثور المقدس” و”زلزال”.
على هامش هذه المجموعة نذكر لوحته الذاتية التي تجمع التقوقع بشخصه والانفلات من حدوده بغربان متوثبة تشد نظرنا إلى ما هو خارج جسد الفنان وخارج الغرفة الافتراضية التي يجلس فيها.
عندما يحدث السقوط الحر باتجاه سطح الأرض تحت تأثير الجاذبية الأرضية تصل أو تسقط الأشياء والكائنات بعد تفككها وتحولها إلى مجموعة لوحاته الثالثة التي هي عبارة عن مشاهد طبيعية غرائبية مفتوحة وأخرى هي أشبه بتقريب النظر حتى النفاذ إلى التفاصيل التي تكونها أغصان الأشجار وتداخلاتها الملونة، فيحدث ما يشبه تجريدا يشبه معالم من الكون البديع.
من هذه اللوحات ما عنونه الفنان بـ"البحيرة 1" و"البحيرة 2" و"الشجرة الحمراء" و"الغابة" و"برينهولز" و"متشابكة".
نصل الآن إلى ما نودّ أن نسميه بالعالم الموازي لأننا من ضمن توصيف فيزيائي للمعرض ككل يتمظهر بمواضيع اللوحات الصارخة التي هي بمجملها مرايا غير مباشرة للواقع الاجتماعي المتأزم التي أراد الفنان بشير قنقر التعبير عنها. وفي هذا السياق نذكر أن المجموعة الأولى من اللوحات تذكرنا بلوحة غيرنيكا الشهيرة للفنان الإسباني بابلو بيكاسو، غير أن هذه المجموعة الأولى ليست أهم ما قدم من لوحات، بل إن أهم ما قدم هو المجموعة الثالثة أي المشاهد الطبيعية المفتوحة على عالم من التأويل الذي تنفتح حدوده إلى ما هو أبعد من العالم الأرضي الذي نعيش فيه، بداية بأزمات الأرض ومصائبها وصولا إلى ما يوحي خلفها من أجواء هي أكثر سلاما وجمالا وتسامحا.
لوحات تكثر في بعضها التشنجات رغم أن الزرقة أو الفُسح المنعشة الضئيلة لا تفارقها، وفي بعضها الآخر تظهر جنائنية فيها الاختزال اللوني والشكلي كما في هذه اللوحات “الغابات 3 و4 و5″. وبعض من هذه اللوحات فيها الزخم اللوني المبهج مثل تلك التي عنونها الفنان بـ”بدون عنوان 4″ و”الماء الجاري” و”أشجار”.
يبقى أن نقول إن “الجاذبية” التي تدفع بشخوص وأشياء الفنان في سقوط حر هي معرض بحث وتأمل (في إحالة إلى عنوان المعرض) ولها علاقة متينة بالمصائب التي تتالى على المنطقة، ولاسيما فلسطين، وهي جاذبية لا تعارضها قوة تمنع أو تخفف أو تشتت من سقوطها، لذا كان سقوطها حرا ومدويا. ولكن لابد من الإشارة إلى أن هذا الارتطام بالأرض يشير إلى أنه “ارتطام” مشهدي غنائي وجنائني تجلى في لوحات الطبيعة.
يُذكر أن الفنان بشير قنقر هو فنان عصامي، من مواليد 1980. درس العلوم الاجتماعيّة في هايدينهايم في ألمانيا، حيث عاش هناك أكثر من سبع سنوات.
بعد مغادرته فلسطين المحتلّة في عام 2018، انتقل إلى باد غيسيرن، النمسا، حيث أصبح محاطا بالأشجار والغابات، وبدأ في استكشاف هذه العناصر الطبيعيّة، ما أدّى به إلى رحلة عميقة لاكتشاف الذات.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ميموزا العراوي
ناقدة لبنانية
لوحات من عالم صاخب ومتحرك لا يحده زمان أو مكان.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
سقوط حر
متحررا من قيود الزمان والمكان يقدم الفنان الفلسطيني بشير قنقر تأملات في السقوط الحر في معرضه الفردي الجديد، من خلال تكوينات وألوان متمردة هي بمثابة مرايا للطبيعة الغريبة وللواقع المتأزم.
تقدم صالة “زاوية” الفلسطينية معرضا افتراضيا للفنان التشكيلي الفلسطيني متعدد الوسائط بشير قنقر تحت عنوان “تأملات في السقوط الحر”. يشمل المعرض مجموعة كبيرة من الأعمال مشغولة بالميكست ميديا. مجموعة ابتدأ تكوينها في سنة 2013 لتتوسع وتتطور حتى تصل إلى هيئاتها المتنوعة الحاضرة في المعرض الافتراضي.
يذكر البيان الصحفي المرافق للمعرض أن الفنان “يدعونا إلى الانطلاق في استكشاف عميق للنسيج الاجتماعي المعقد الذي يحدد وجودنا، من خلال الكشف عن الخيوط المعقدة التي تربط الأفراد في المجتمع، ومن خلال ملاحظاته وتأملاته الدقيقة، يستخدم تقنيّات ووسائط متنوّعة للتفاعل مع علاقته بالطبيعة. ويتميّز قنقر بموهبته الفريدة في احتضان جوهر التواصل البشري والتعقيدات التي يتضمّنها، ويستخدم خامات متنوّعة من التقنيّات والوسائط ببراعة. ويُظهر قنقر المهارة الاستثنائية في تفاعله مع جمال وتعقيدات المحيط الذي يعيش فيه، والذي يمنحه الإلهام الدائم”.
ليس من الغريب أن تكون المجموعة الفنية التي يقدمها الفنان بشير قنقر في صالة زاوية بشقها الافتراضي مجموعة بدأ تطورها منذ عدة سنين، لتصل إلى حالتها غير النهائية المعرضة لتحولات أخرى وبروز هيئات إضافية تنبثق منها قد لا تنتمي البتة إلى الواقع البحت، فهي تنسجم مع منطقها الداخلي الأشبه بسيرة لفيزيائية “كون” الفنان الذي يتكثف حينا وينضغط حينا آخر على بعضه البعض حتى يشكل نواة محتدمة ليتوسع وينتفخ ويتقعر ليتمدد آخر مشكلا مشاهد طبيعية غرائبية إلى جانب كونها تشير إلى واقعية حقيقية، ولكن من نوع آخر.
لوحات الفنان تهدد معنى الزمان الذي لا يمكن تحديده في مشاهده الطبيعية، فهي لكل فصول الطبيعة
ما يمثله الفنان في المعرض يهدد معنى الجغرافيا بالمعنى الكلاسيكي ويدفع الناظر إلى لوحاته إلى عوالم زمكانية، لاسيما في مجموعة اللوحات التي تظهر فيها مشاهد طبيعية لا تخلو من الغرابة من ناحية ألوانها ولا من ناحية تشكيلها وفق طبقات متناوبة تارة ومتداخلة تارة أخرى وتشف عن بعضها البعض.
كما تهدد لوحات الفنان معنى الزمان الذي لا يمكن تحديده في مشاهده الطبيعية. فالمشاهد هي لكل الفصول الطبيعية ولكل البيئات الحرجية التي من الممكن تصورها.
لذلك نود في عالم الفنان بشير قنقر الصاخب والمتحرك أن نرى مسيرة يبدو أن لوحاته عبرت بها. وليست بداية السيرة هي باللوحات التي تصور المساحات الطبيعية ويدعم هذا المنطق كون الفنان رسم المشاهد الطبيعية أو على الأقل معظمها في الفترة أو بعد الفترة التي انطلق فيها إلى أوروبا حيث الغابات والمشاهد المفتوحة أكثر وفرة.
ولعل النقطة الأساسية التي تحرضنا على هذا التفكير هي كون الفنان الفلسطيني عنون معرضه بـ”تأملات في السقوط الحرّ”. من ناحية يأخذنا هذا العنوان إلى عالم الفيزياء (بداية بما قدمه نيوتن وصولا إلى أينشتاين) ومن ناحية أخرى يأخذنا إلى محاولة كتابة لسيرة تحولات عالمه المكون من ثلاث مراحل للسقوط الحرّ. بداية نذكر اللوحات المركزية التي تتحلق فيها الأشياء والكائنات من بشر وحيوانات حول محور واحد لتبدو وكأنها كواكب متماسكة تجمعها قوة جاذبية غامضة رغم التشظي المُلمّ بها وتذكر بانفجارات صغيرة جعلت حدود الكائنات البادية والأشياء متداخلة وغير مكتملة الأطراف.
نذكر هنا هذه اللوحات التي أطلق عليها الفنان هذه العناوين: “العشاء الأخير” و”هجوم الدجاج” و”ركام من الخراف” و”هروبي”.
أما المجموعة الثانية فهي التي تحافظ فيها أشكال الموجودات في لوحاته على صفة الالتحام وفي بعضها نوع من التراخي بدأت تظهر ملامحه. وهذه اللوحات هي التي عنونها الفنان بـ”آدم وحواء”، و”تحت نظر الآلهة” و”الحب في زمن الموت” و”العشاء الأخير” و”قراصنة المتوسط” و”الثور المقدس” و”زلزال”.
على هامش هذه المجموعة نذكر لوحته الذاتية التي تجمع التقوقع بشخصه والانفلات من حدوده بغربان متوثبة تشد نظرنا إلى ما هو خارج جسد الفنان وخارج الغرفة الافتراضية التي يجلس فيها.
عندما يحدث السقوط الحر باتجاه سطح الأرض تحت تأثير الجاذبية الأرضية تصل أو تسقط الأشياء والكائنات بعد تفككها وتحولها إلى مجموعة لوحاته الثالثة التي هي عبارة عن مشاهد طبيعية غرائبية مفتوحة وأخرى هي أشبه بتقريب النظر حتى النفاذ إلى التفاصيل التي تكونها أغصان الأشجار وتداخلاتها الملونة، فيحدث ما يشبه تجريدا يشبه معالم من الكون البديع.
من هذه اللوحات ما عنونه الفنان بـ"البحيرة 1" و"البحيرة 2" و"الشجرة الحمراء" و"الغابة" و"برينهولز" و"متشابكة".
نصل الآن إلى ما نودّ أن نسميه بالعالم الموازي لأننا من ضمن توصيف فيزيائي للمعرض ككل يتمظهر بمواضيع اللوحات الصارخة التي هي بمجملها مرايا غير مباشرة للواقع الاجتماعي المتأزم التي أراد الفنان بشير قنقر التعبير عنها. وفي هذا السياق نذكر أن المجموعة الأولى من اللوحات تذكرنا بلوحة غيرنيكا الشهيرة للفنان الإسباني بابلو بيكاسو، غير أن هذه المجموعة الأولى ليست أهم ما قدم من لوحات، بل إن أهم ما قدم هو المجموعة الثالثة أي المشاهد الطبيعية المفتوحة على عالم من التأويل الذي تنفتح حدوده إلى ما هو أبعد من العالم الأرضي الذي نعيش فيه، بداية بأزمات الأرض ومصائبها وصولا إلى ما يوحي خلفها من أجواء هي أكثر سلاما وجمالا وتسامحا.
لوحات تكثر في بعضها التشنجات رغم أن الزرقة أو الفُسح المنعشة الضئيلة لا تفارقها، وفي بعضها الآخر تظهر جنائنية فيها الاختزال اللوني والشكلي كما في هذه اللوحات “الغابات 3 و4 و5″. وبعض من هذه اللوحات فيها الزخم اللوني المبهج مثل تلك التي عنونها الفنان بـ”بدون عنوان 4″ و”الماء الجاري” و”أشجار”.
يبقى أن نقول إن “الجاذبية” التي تدفع بشخوص وأشياء الفنان في سقوط حر هي معرض بحث وتأمل (في إحالة إلى عنوان المعرض) ولها علاقة متينة بالمصائب التي تتالى على المنطقة، ولاسيما فلسطين، وهي جاذبية لا تعارضها قوة تمنع أو تخفف أو تشتت من سقوطها، لذا كان سقوطها حرا ومدويا. ولكن لابد من الإشارة إلى أن هذا الارتطام بالأرض يشير إلى أنه “ارتطام” مشهدي غنائي وجنائني تجلى في لوحات الطبيعة.
يُذكر أن الفنان بشير قنقر هو فنان عصامي، من مواليد 1980. درس العلوم الاجتماعيّة في هايدينهايم في ألمانيا، حيث عاش هناك أكثر من سبع سنوات.
بعد مغادرته فلسطين المحتلّة في عام 2018، انتقل إلى باد غيسيرن، النمسا، حيث أصبح محاطا بالأشجار والغابات، وبدأ في استكشاف هذه العناصر الطبيعيّة، ما أدّى به إلى رحلة عميقة لاكتشاف الذات.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ميموزا العراوي
ناقدة لبنانية