شريف الشافعي
لا يكتفي فن البورتريه الحديث برسم الشخصية من خلال ملامحها وتعبيراتها، بل يعمد إلى قراءة الشخصية داخليًّا، والتقاط انفعالاتها وجوّانياتها، وعرض شحناتها النفسية وطبيعة مزاجها، وإبراز مفاتيحها وعوالمها الخاصة.
ولأن الكاريكاتير هو فن الحساسية والرهافة، والتضخيم والمبالغة، والمفارقة الخلاقة، وتحريف القياسات المنضبطة، والغوص تحت الجلد لاقتناص الجوهري والكامن والمستتر، فإنه حين يلتقي مع البورتريه يقود إلى أعمال استثنائية.
فمثل هذه الأعمال من البورتريهات الكاريكاتيرية، المنطلقة المنفلتة، تكون قادرة على كشف كينونة الشخصية وماهيّتها ومقوّماتها وهالاتها وظلالها المحيطة بها، وبعث الحياة فيها بعفوية واقتدار، في مشاهد درامية متحركة، متحررة من القيود والمعطيات الظاهرية والمعايير الحسابية
في حب أديب نوبل
وتحت هذه المظلة، التقى فنانو الكاريكاتير حول العالم في حب أديب نوبل نجيب محفوظ (11 كانون الأول/ ديسمبر 1911-30 آب/ أغسطس 2006)، ليجمعهم معرض مشترك لبورتريهات نجيب محفوظ، وذلك في متحفه بتكية أبو الدهب الأثرية في القاهرة، إحياءً لذكرى الأديب العالمي السابعة عشرة.
تضمن معرض البورتريهات المحفوظية الذي نظّمته "الجمعية المصرية للكاريكاتير" واختتم يوم 4 أيلول/ سبتمبر، قرابة 50 لوحة لفنانين من مصر و16 دولة عربية وأجنبية، هي: لبنان، المغرب، السعودية، الصين، الهند، بيرو، النمسا، المكسيك، روسيا، إسبانيا، أورغواي، أوكرانيا، إندونيسيا، مقدونيا، ماليزيا، نيبال.
تبارى الفنانون المشاركون في طرح اتجاهاتهم ورؤاهم البصرية الجديدة للبورتريه الكاريكاتيري من خلال رسومهم المتنوعة لنجيب محفوظ، كما يعرفونه ويتصورونه ويحسون به.
ولم تقتصر هذه الرسوم على النظر إلى محفوظ كوجه بطبيعة الحال، بل قصدت إلى استلهامه كفكرة ورمز وأب روحيّ، واستشعاره إنسانيًّا كأديب لصيق بالمجتمع، وكصديق مقرّب
الكاتب وعوالمه
عكست أعمال الفنانين المشاركين كل ما يثيره نجيب محفوظ وعوالمه الأدبية وشخصياته الروائية والقصصية الشهيرة في خيالاتهم البصرية. وتأثرت بورتريهات محفوظ الكاريكاتيرية بأمرين لافتين. الأول، هو: رؤية الفنان الذاتية الخاصة لمحفوظ ككاتب وكإنسان.
أما الأمر الثاني، فهو: علاقة الفنان بأعمال نجيب محفوظ الأدبية وشخوصه وعوالمه الفنية، خصوصًا تلك الملاحم التي تحكي سيرة الحياة في القاهرة الشعبية والتاريخية، من قبيل: "الحرافيش"، ثلاثية "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية"، "زقاق المدق"، "خان الخليلي"، وغيرها.
وإضافة إلى تعاطي الفنانين مع محفوظ وشخصياته وعوالمه وأمكنته وحاراته ومقاهيه كمفردات متشابكة منسجمة يتم صهرها ودمجها معًا في أحوال كثيرة، فقد تطرق بعض الفنانين إلى مشاهد سينمائية مأخوذة عن أعماله القصصية والروائية البارزة.
ومن ذلك، على سبيل المثال، لوحة الفنانة المصرية غادة مصطفى بعنوان "بين السماء والأرض". وقد جمعت فيها نجيب محفوظ وسط نجوم السينما الذين اشتركوا في فيلم "بين السماء والأرض" (1959) للمخرج صلاح أبو سيف، المأخوذ عن قصة لمحفوظ.
ومن هؤلاء الممثلين الذين أحاطوا بمحفوظ في اللوحة الكاريكاتيرية المعبّرة عن أزمة الاحتباس في الأسانسير: عبد السلام النابلسي، هند رستم، عبد المنعم إبراهيم، سعيد أبو بكر، وغيرهم.
وثبات الخيال
استعار الفنانون المشاركون في المعرض الكاريكاتيري ما يتسم به قلم نجيب محفوظ من تقدمية وجرأة وتطلع دائم إلى التجديد وتجاوز المألوف والسائد. وجاءت اللوحات مشحونة بمعالجات مبتكرة غير نمطية، مبعثها الدائم الخيال المجنّح، القادر على مفارقة الواقع القائم، وتخطي المشهد الثابت.
من ذلك، مثلًا، التصور الذي قدّمه الفنان الصيني هوانج جنجو، في لوحته التي صوّر فيها محفوظ، برأس ضخم جدًا (ما يعني صاحب الفكر العظيم)، وقد امتطى صاروخًا في الفضاء، هو ببساطة: قلمه المسنون. فيما تحولت السحابات من حوله إلى أوراق بيضاء، تنتظر أن يسقيها بمداد حبره الشافي.
وجمع الفنان عمر زيفالوس، من بيرو، بين نجيب محفوظ برأسه العظيم أيضًا، والهرم الأكبر خوفو، فكلاهما بناء شامخ خالد. وراحت مؤلفات محفوظ الإبداعية تتطاير محلقة في فضاء المشهد، شأنها شأن آثار مصر الباقية أبد الدهر.
أما الفنان المصري أحمد علوي، فقد دمج شخصية نجيب محفوظ ومعالم القاهرة الإسلامية ومساجدها الكبرى (الأزهر، الحسين) ومآذنها المرتفعة في لقطة تبرز هوية الكاتب المحلية الأصيلة ومؤلفاته المنفتحة على التراث الشعبي والحضارة المصرية عبر مراحلها التاريخية المتعاقبة.
واختار الفنانان؛ أحمد خبالي من المغرب، وماهر عاشور من السعودية، الابتسامة المحفوظية العريضة لتكون مفتاحًا لعمليهما، حيث تبرز في لوحتيهما الطبيعة المرحة للكاتب المحنّك، الذي أحبّ الناس وجالسهم في المقاهي، واستلهم منهم أعماله الإبداعية، وشخصياته، وبادله الناس هذه المحبة، لاستشعارهم مصداقيته في سلوكه وكتاباته على السواء.
وبحسٍّ لا يخلو من الهندسية، طرح الفنان اللبناني أنس اللقيس رؤيته لبورتريه نجيب محفوظ بمفارقات كاريكاتيرية دالّة، حيث صوّر أنفه على هيئة هرم فرعوني، وأسهب في تضخيم أذنه ونظارتيه لتعكس عبر عدستيها هرمين آخرين، باعتبار أنّ قيمة محفوظ من قيمة أهرامات مصر.
ولا تقف أعمال الفنانين المشاركين في معرض "في حب نجيب محفوظ" عند حد للأفكار والتصورات والخيالات، حيث يُبرز الفنان خالد صلاح، من مصر، نجيب محفوظ وقد تحوّل إلى قناص فوق سطح الأرض، بالقرب من أهرامات مصر، وأيضًا نيلها (رغم ما بينهما من مسافة في الواقع).
ويقتنص نجيب محفوظ جائزة نوبل في لوحة الفنان خالد صلاح بواسطة سهم يطلقه من قوس الأدب العربي، ويتحلى وجهه بإصرار، وتتسم ملامحه بالجدية والمثابرة. وفي لوحة الفنان المصري حسن فاروق، فإن نجيب محفوظ يرتقي روايته "أولاد حارتنا" ويتحلى بابتسامة الثقة والتحدي، منطلقًا إلى سماء جائزة نوبل.
أما الفنان الصيني كوانج زوهاي، فقد جعل رأس نجيب محفوظ الاستثنائي الملهم على هيئة كتاب، يطل الكاتب من داخله بعينيه النابهتين ونظارته العتيقة، ويستند بيده إلى عصاه، واعداً قرّاءه بالمزيد والمزيد من المؤلفات التي وضعت الأدب العربي في منزلة لم يكن لينالها قبل جائزة نوبل التي حصدها محفوظ عام 1988.
لا يكتفي فن البورتريه الحديث برسم الشخصية من خلال ملامحها وتعبيراتها، بل يعمد إلى قراءة الشخصية داخليًّا، والتقاط انفعالاتها وجوّانياتها، وعرض شحناتها النفسية وطبيعة مزاجها، وإبراز مفاتيحها وعوالمها الخاصة.
ولأن الكاريكاتير هو فن الحساسية والرهافة، والتضخيم والمبالغة، والمفارقة الخلاقة، وتحريف القياسات المنضبطة، والغوص تحت الجلد لاقتناص الجوهري والكامن والمستتر، فإنه حين يلتقي مع البورتريه يقود إلى أعمال استثنائية.
فمثل هذه الأعمال من البورتريهات الكاريكاتيرية، المنطلقة المنفلتة، تكون قادرة على كشف كينونة الشخصية وماهيّتها ومقوّماتها وهالاتها وظلالها المحيطة بها، وبعث الحياة فيها بعفوية واقتدار، في مشاهد درامية متحركة، متحررة من القيود والمعطيات الظاهرية والمعايير الحسابية
في حب أديب نوبل
وتحت هذه المظلة، التقى فنانو الكاريكاتير حول العالم في حب أديب نوبل نجيب محفوظ (11 كانون الأول/ ديسمبر 1911-30 آب/ أغسطس 2006)، ليجمعهم معرض مشترك لبورتريهات نجيب محفوظ، وذلك في متحفه بتكية أبو الدهب الأثرية في القاهرة، إحياءً لذكرى الأديب العالمي السابعة عشرة.
تضمن معرض البورتريهات المحفوظية الذي نظّمته "الجمعية المصرية للكاريكاتير" واختتم يوم 4 أيلول/ سبتمبر، قرابة 50 لوحة لفنانين من مصر و16 دولة عربية وأجنبية، هي: لبنان، المغرب، السعودية، الصين، الهند، بيرو، النمسا، المكسيك، روسيا، إسبانيا، أورغواي، أوكرانيا، إندونيسيا، مقدونيا، ماليزيا، نيبال.
تبارى الفنانون المشاركون في طرح اتجاهاتهم ورؤاهم البصرية الجديدة للبورتريه الكاريكاتيري من خلال رسومهم المتنوعة لنجيب محفوظ، كما يعرفونه ويتصورونه ويحسون به.
ولم تقتصر هذه الرسوم على النظر إلى محفوظ كوجه بطبيعة الحال، بل قصدت إلى استلهامه كفكرة ورمز وأب روحيّ، واستشعاره إنسانيًّا كأديب لصيق بالمجتمع، وكصديق مقرّب
الكاتب وعوالمه
عكست أعمال الفنانين المشاركين كل ما يثيره نجيب محفوظ وعوالمه الأدبية وشخصياته الروائية والقصصية الشهيرة في خيالاتهم البصرية. وتأثرت بورتريهات محفوظ الكاريكاتيرية بأمرين لافتين. الأول، هو: رؤية الفنان الذاتية الخاصة لمحفوظ ككاتب وكإنسان.
أما الأمر الثاني، فهو: علاقة الفنان بأعمال نجيب محفوظ الأدبية وشخوصه وعوالمه الفنية، خصوصًا تلك الملاحم التي تحكي سيرة الحياة في القاهرة الشعبية والتاريخية، من قبيل: "الحرافيش"، ثلاثية "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية"، "زقاق المدق"، "خان الخليلي"، وغيرها.
وإضافة إلى تعاطي الفنانين مع محفوظ وشخصياته وعوالمه وأمكنته وحاراته ومقاهيه كمفردات متشابكة منسجمة يتم صهرها ودمجها معًا في أحوال كثيرة، فقد تطرق بعض الفنانين إلى مشاهد سينمائية مأخوذة عن أعماله القصصية والروائية البارزة.
ومن ذلك، على سبيل المثال، لوحة الفنانة المصرية غادة مصطفى بعنوان "بين السماء والأرض". وقد جمعت فيها نجيب محفوظ وسط نجوم السينما الذين اشتركوا في فيلم "بين السماء والأرض" (1959) للمخرج صلاح أبو سيف، المأخوذ عن قصة لمحفوظ.
ومن هؤلاء الممثلين الذين أحاطوا بمحفوظ في اللوحة الكاريكاتيرية المعبّرة عن أزمة الاحتباس في الأسانسير: عبد السلام النابلسي، هند رستم، عبد المنعم إبراهيم، سعيد أبو بكر، وغيرهم.
وثبات الخيال
استعار الفنانون المشاركون في المعرض الكاريكاتيري ما يتسم به قلم نجيب محفوظ من تقدمية وجرأة وتطلع دائم إلى التجديد وتجاوز المألوف والسائد. وجاءت اللوحات مشحونة بمعالجات مبتكرة غير نمطية، مبعثها الدائم الخيال المجنّح، القادر على مفارقة الواقع القائم، وتخطي المشهد الثابت.
من ذلك، مثلًا، التصور الذي قدّمه الفنان الصيني هوانج جنجو، في لوحته التي صوّر فيها محفوظ، برأس ضخم جدًا (ما يعني صاحب الفكر العظيم)، وقد امتطى صاروخًا في الفضاء، هو ببساطة: قلمه المسنون. فيما تحولت السحابات من حوله إلى أوراق بيضاء، تنتظر أن يسقيها بمداد حبره الشافي.
وجمع الفنان عمر زيفالوس، من بيرو، بين نجيب محفوظ برأسه العظيم أيضًا، والهرم الأكبر خوفو، فكلاهما بناء شامخ خالد. وراحت مؤلفات محفوظ الإبداعية تتطاير محلقة في فضاء المشهد، شأنها شأن آثار مصر الباقية أبد الدهر.
أما الفنان المصري أحمد علوي، فقد دمج شخصية نجيب محفوظ ومعالم القاهرة الإسلامية ومساجدها الكبرى (الأزهر، الحسين) ومآذنها المرتفعة في لقطة تبرز هوية الكاتب المحلية الأصيلة ومؤلفاته المنفتحة على التراث الشعبي والحضارة المصرية عبر مراحلها التاريخية المتعاقبة.
واختار الفنانان؛ أحمد خبالي من المغرب، وماهر عاشور من السعودية، الابتسامة المحفوظية العريضة لتكون مفتاحًا لعمليهما، حيث تبرز في لوحتيهما الطبيعة المرحة للكاتب المحنّك، الذي أحبّ الناس وجالسهم في المقاهي، واستلهم منهم أعماله الإبداعية، وشخصياته، وبادله الناس هذه المحبة، لاستشعارهم مصداقيته في سلوكه وكتاباته على السواء.
وبحسٍّ لا يخلو من الهندسية، طرح الفنان اللبناني أنس اللقيس رؤيته لبورتريه نجيب محفوظ بمفارقات كاريكاتيرية دالّة، حيث صوّر أنفه على هيئة هرم فرعوني، وأسهب في تضخيم أذنه ونظارتيه لتعكس عبر عدستيها هرمين آخرين، باعتبار أنّ قيمة محفوظ من قيمة أهرامات مصر.
ولا تقف أعمال الفنانين المشاركين في معرض "في حب نجيب محفوظ" عند حد للأفكار والتصورات والخيالات، حيث يُبرز الفنان خالد صلاح، من مصر، نجيب محفوظ وقد تحوّل إلى قناص فوق سطح الأرض، بالقرب من أهرامات مصر، وأيضًا نيلها (رغم ما بينهما من مسافة في الواقع).
ويقتنص نجيب محفوظ جائزة نوبل في لوحة الفنان خالد صلاح بواسطة سهم يطلقه من قوس الأدب العربي، ويتحلى وجهه بإصرار، وتتسم ملامحه بالجدية والمثابرة. وفي لوحة الفنان المصري حسن فاروق، فإن نجيب محفوظ يرتقي روايته "أولاد حارتنا" ويتحلى بابتسامة الثقة والتحدي، منطلقًا إلى سماء جائزة نوبل.
أما الفنان الصيني كوانج زوهاي، فقد جعل رأس نجيب محفوظ الاستثنائي الملهم على هيئة كتاب، يطل الكاتب من داخله بعينيه النابهتين ونظارته العتيقة، ويستند بيده إلى عصاه، واعداً قرّاءه بالمزيد والمزيد من المؤلفات التي وضعت الأدب العربي في منزلة لم يكن لينالها قبل جائزة نوبل التي حصدها محفوظ عام 1988.