( لمحة تاريخية )
تعد حمص ثالث مدن الجمهورية العربية السورية ، من حيث السكان بعد دمشق وحلب وهي مركز السرة من سورية ، تمر بها جميع طرق المواصلات والسكك الحديدية التي تربط العاصمة دمشـق بشمال البلاد وغربها . ويبدو أن موقعها هذا لعب الدور الأكبر فــــــي انشائها .
فقد كانت تمر بها الطريق التجارية الضخمة التي تمتد من ( تدمر ) شرقا حتى البحر المتوسط ،غربا، كما كانت مراحا للقوافل الاتية من الشمال أو الجنوب فمتى نشأت وما أصل تسميتها ؟؟ . اعتادت مصادرنا العربية القديمة أن تنسب بناء المدن الى أشخاص تسمى بأسمائهم فيقول صاحب (معجم البلدان ) :
"حمص بالكسر ثم السكون ، والصاد مهملة بلد مشهور قدیم كبير مور، وفي طرفه القبلي قلعة حصينة على تل عال، كبيرة، وهي بين دمشق وحلب في نصف الطريق، يذكر ويؤنث بناه رجل يقال له: (1) حمص بن المهر بن جان بن مكنف وقيل حمص بن مكنف العطيقي ولا شك في أن هذه الدعوى وأمثالها غير مقبولة ولا سند تاريخيا لها . فلم يرد اسم (حمص) في رسائل تل العمارنة ( ١٤٠٠ - ١٣٦٠ ) ق . م ، بينما ورد فيها أسماء: قطنة ( المشرفة ) وحماه وقادش ( تل النبي مندو ) كما لم تذكر حمص في المعاهدة التي وقعت بين رعمسيس الثاني وبين الحثيين سنة ( ۱۲۸۰ ) ق . م والتي قسمت فيها سورية الى قسمين من قادش والى الشمال للحثيين ، ومايلى قادش جنوبا للمصريين .
ولا نجد اسم حمص في التوراة بل نجد فيها (حماة صوبة ) . ويذهب في كتابه تاريخ (حمص) ج ١ الى أنه أصل اسم (حمص) الخوري عيسى "... ولما صار هذا اللفظ المركب علما للمدينة نحتته الألسن فصار (حميصوبا ) . واقتصر العبرانيون، على شطره الأخير فقالوا (صوبة) واختار اليونان الشطر الأول وخففوه فصار (ايمييا ) (۱).
وينقض زعمه (قاموس الكتاب المقدس فهو يفسر (حماة صوبة ) على النحو التالي: "مملكتا حماة وصوبة المتجاورتان أو مكان صغير يدعــــــــى (حماة) ملك لمملكة صوبة آرام أو "سورية" كما أن المطران (غريغوريوس صليبا شمعون ) يؤكد أن "مملكة صوبة هي البقاع حاليا " ( ٢ ) ، ذلك الدكتور فيليب حتي فيقول : "كانت" صوبة عاصمة مملكة بنفس الاسم والكلمة مشتقة من مهوبة sihoba بمعني أحمر أو نحاس، ويظن أن موقعها هو في كاليس chalis ) أو ( عنجر ) الحديثة جنوبي زحلة في البقاع " (۳).
فكلمة (صوبة ) اذن آرامية وهي قريبة من الجذر العربي: "مهب
الشعر اذا كانت فيه حمرة أو شقرة" (٤) و وهي ليست (حمص) على كل حال فمن أين جاء اسم (حمص) ومن أول قاطنيها ؟؟ .
في قضاء ( عالية ) من محافظة جبل لبنان قرية تدعى (حمص) ذكرها ــير الدكتور أنيس فريحة في كتابه أسماء المدن والقرى اللبنانية وتفس معانيها واللفظ (حمص) جذر كنعاني يعني فيما يعنيه ( الخجل ) ربمــا من اللون الأحمر والتحميص .
من المعلوم أن الشواطيء الشرقية للبحر المتوسط تعرضت منــــــــــد منتصف القرن الخامس عشر ق . م الى غارات شعوب البحر عليها ، وكان من نتائج آخر غاراتها تهديم وحرق (أوغاريت) ( ۱۱۰۰ ق.م) ولعل منطقة حمص اللبنانية تعرضت لاحدى هذه الغارات وأن الناجين منها اتجهوا شرقا بشمال التماسا للأمن، وأقاموا في المنطقة الوسطى من سورية، في موقع (حمص) الحالية، قرية صغيرة رفعوها على تل صناعي ودعوهــــــــــا (حمص) ليعبروا عن تعلقهم بموطنهم الأول ، على عادة النازحين والمهاجرين في كل زمان ومكان !!!.
هذا المركز السكني المتواضع بدأ ينمو بسبب موقعه التجاري البهام ولكن لم يظهر الى النور الا بعد كسوف قادش وأفول نجمها لتحول الطريق التجارية عنها الى (حمص) التي بدأ نجمها يسطع شيئا فشيئا منذ القرن الثالث ق . م ولاتزال بعض الكتابات اليونانية موجودة في (حمص) ومنها الكتابة المنقوشة على حجر من البازلت الأسود يعلو مدخل جامع (أبو لبادة ) في حي بني السباعي في حمص وكان ذلك في عهد فيها ثمانية أمراء، من (۸۱ ق . م - ٩٦ م ) وعرفت تلك الأسرة باسم اسرة ( شميسغرام ) نسبة الى مؤسسها وثاني حاكم منها، الذي بنى هيكلا للشمس (١) على ظهر القلعة، وضع فيه الحجر الأسود المقدس ، ونلاحظ من أسماء ملوكها أنهم عرب فأولهم (دابل ) وثانيهم ( شميسغرام) المذكور وثالثهم (جميليك) الأول وسابعهـم (عزيز) وثامنهم ( سهيم) . حكمت تلك الأسرة في بداية الحكم الروماني لسورية الذي بدأ بفتح (بومبي) لها سنـة (٦٤ ) ق . م ، وعانى حكامها من خلافات القادة الرومان الأوائل من (بومبي) الى (أوكتافيوس) سنة ( ۳۱ ) ق . م اذ خيم السلم الروماني على الانح الشرقية من الامبراطورية، فنعمت حمص بالاستقرار واستقام أمر الأسـ رة الحاكمة فيها .
وينسب الى هذه الأسرة اقامة البناء الذي كان يعرف باسم (١) (الصومعة ) وكان يقع في غربي (حمص) ، ومكانه الآن مقر قيادة فرع حمص لحزب البعث العربي الاشتراكي شمال المركز الثقافي ويعود تاريخ بنائه الى سنة (۷۸) أو (۷۹م) . نعمت (حمص) في ظل الحكم الروماني برعاية خاصة، ففي عهــــــد (دومیسیان ) ( ٥١ - ٩٦ م ). كانت مركزا عسكريا هاما وفي عهد (هادريان ۱۳۸۱۱۷م) قسمت سورية الى قسمين : سورية الفينيقية، وكانت عاصمتها ( صور ) وسورية المجوفة وكانت (حمص) مرکزها ، وعندما أنهى ( ماركوس أوريلبوس) حروبه ضد زنوبيا جعلها مستعمرة رومانية وهذا يعني أن سكانها يتمتعون بامتيازات وحقوق يمنحها القانون الروماني كالحكم الذاتي والاعفاء من ضريبة الرؤوس وضريبة الخراج .
وحصلت (حمص) على منتهى الرعاية عندما وصلت الأسرة السيغيرية الى الحكم، وتنسب تلك الأسرة الى الامبراطور ( سبتيموس سيفيروس ) ذي الاصل (۲) وجده الوكيوس سبتيموس الافريقي فعائلته كانت تسكن في (لبدة) سفيروس كان شخصية بارزة في لبدة وشغل مناصب متعددة فكان قاضيا في بلده ثم حاكما ثمّ نقل الى (روما) ليكون قاضيـا فيهـا وأحد أعضاء مجلس التشريع العشرة . أما حفيده ) سبتيموس سفيروس) فقد ولد سنة ( ١٤٦) م في مدينة لبدة وبقي فيها حتى بلغ الثامنة عشرة، ثم تقلب في المناصب الادارية المختلفة حتى كلفته الحكومة الرومانية بالقضاء على الفوضى التي قامت في منطقة (حمص) وفي قطع دابر الاشقياء والمفسدين فقام بالمهمة خير قيام.
وفي (حمص) تعرف على كاهن معبد الشمس (باسيانوس) سنــــــة (۱۷۹) م واعجب بابنته (جوليا دومنا ) ذات الجمال الأخاذ والفكر النفاذ، وانتهى هذا الاعجاب الى الحب فالزواج سنة (۱۸۷) م . وحالف السعد هذا الزواج فلم تأت سنة (۱۹۳) م حتى نادى الجيش بـ (سبتيموس سيفيروس) امبراطورا وبذلك وضع الأساس لصرح الأباطرة السيفيريين ذوي الأصل الحمصي عن طريق (جوليا دومنا ) .
أنجبت حمص في عهد الأسرة السيفيرية أحد كبار المشرعين وأساتذة القانون في معهد الحقوق الذي أنشأه الامبراطور (سبتيموس سيفيروس) (1) في بيروت وهو العالم (اميليوس با بنيانوس الذي كان من أقرباء الامبراطورة ( جوليا دومنا ) ، وقد استدعاه الامبراطور عام (۲۰۳) م ليكون مستشاره القانوني في (روما) ، ورافق الامبراطور بصفته مستشارا قانونيا أثناء الحملة العسكرية على بريطانيا، حيث أوصى وهو على فراش الموت أن يعهد بتربية ولديه ( كاركلا ) و ( جيتا ) الى بابينيانوس، ولكن ، تسلم (كاركلا ) العرش (۲۱۱ ۲۱۷) م صرفه من الخدمة ثم أمر بقطع رأسه (۲۱۲) م لانه طلب منه أن يسوغ قتل أخيه (جيتا) ، فرفض بعد بابنيانوس ذلك قائلا ان جريمة القتل أخف وطأة من تسويغ ارتكابها !! .
تعليق