أمير اسحق
من المهمِّ قبل الشُّروع في الحديث عن أنطولوجيا ماركس الشَّاب أن نعرف ماذا نقصد حينما نتحدَّث عن “الأنطولوجيا”.
الأنطولوجيا في تعريفها الكلاسيكيّ هي عِلْمُ الوجود، لكنَّنا هنا في هذا الطَّرْح سنقصد بها البحث في كيفيَّات وجود الكينونة (من منظور ماركس الشَّاب)، وهي مهمَّة تبدو عسيرة على القلم والقارئ بالطَّبع؛ إذ أنَّه ليس ثمَّة تحليلٌ أنطولوجيٌّ كاملٌ مُستقلٌّ عند ماركس، بل هو يتطلُّب قَدْرَاً ليس بقليل من الحفر والقراءة المُتأنِّية.
نَقْدُ أطروحة فويرباخ الإناسيَّة:
يجب علينا في البداية قبل أن نعرضَ نَقْدَ ماركس الحادّ لأطروحة فويرباخ في كتابه “جوهر المسيحية” أن نوجِز في بعض السُّطور محور هذا المشروع الفويرباخي ألا وهو قَلْبُ الثيولوجيا إلى الأنثربولوجيا، وذلك بتدشين الإنسان المُؤلَّه الجديد (الحامِل لكلّ الصِّفات الإلهيَّة لكنَّه يُحيلها إلى كائنٍ مُفارقٍ وهو الإله)، وقد نُظِرَ إلى فويرباخ على أنَّه صاحب ثورةٍ كبرى في تاريخ الفلسفة الحديثة، لكنَّ السُّؤال يبقى قائماً هل كان فويرباخ حقَّاً ثوريَّاً؟
هنا نكون في حضرة نَقْد ماركس لفويرباخ، يرى ماركس أنَّ ثورة إنسان فويرباخ ثورةٌ بلا طائلٍ، فارغةٌ من المضمون أي ثورةٌ شكليَّةٌ فقط، ويبدأ ماركس نَقْدَه بفكرة “الإنسان أو الكينونة الإنسانيَّة” لدى فويرباخ، يتشكَّكُ ماركس في مفهوم الإنسانِ هذا؛ إذ لا وجود لكيانٍ مُجرَّدٍ قائمٍ بذاته يُسمَّى الإنسان ذي ماهيَّة ثابتة لا تتغيَّر، لكن فيما يتعلَّق بإنسان فويرباخ يحسبُ له أنَّه أضفى فاعليَّةً على الذَّات الإنسانيِّة، لكنَّه وقعَ في نَفْس الفخِّ مرَّةً أخرى أي في التَّجريد، فالفاعليَّة الإنسانيَّة لدى فويرباخ لا تُمارِس وجودها الفعليّ سوى عن طريق النَّشاط التَّأمليّ الحَدْسيّ لا أكثر، أي بمعنى آخر لا تمارِسُ وجودها إلَّا في العالَم العقليّ، وبالتَّالي فهي فاعليَّةٌ زائفةٌ هَشَّةٌ، تُكرِّسُ الوضع القائم وتُبقِي الفرد في السَّلبيِّة المُطلَقة، هنا نجد أنَّ فويرباخ قد استغلقت عليه الفاعليَّة الإنسانيَّة الحقيقيَّة الأعظم التي تُغيِّرُ في الواقع الماديِّ الملموس بشكلٍ جذريٍّ وتشكِّله ألا وهي العمل.
مُقدِّمات نظريَّة للطَّرح:
إنَّ الكينونة في العالَمِ لا توجد بمعزلٍ عن البنى الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة، بل هي بالأحرى نِتاج نقيٌّ لهذه البنى المُشكِّلة لها، أي أنَّ الإنسان في تكوّنه مُنفعلٌ أكثر منه فاعل، لذا لا بُدَّ لنا من النَّظر إلى الكينونة الإنسانيَّة بوصفها مشروطاً لشروط خارِجة عن تحكُّمها (في صيرورتها البدئيَّة) لأنَّه حتَّى تشكيل الواقع الاجتماعيّ والفاعليَّة فيه يُفتَرَضُ وصول الفرد لمرحلةٍ ما من النُّمو (ونحن هنا نتحدَّث عمَّا قبل هذه المرحلة)، وبناءً عليه فإنَّ الكينونة مشروط لشروط كامنة في الواقعِ الخارجيِّ، ومن هذه الشُّروط المُشكِّلة للكينونة البشريَّة الموقع الطَّبقيّ، والموقع الطَّبقيّ يتحدَّد بواسطة انتماء الفرد لطبقة ما في مقابل طبقة أخرى، في المرحلة الرأسمالية من التَّاريخ ثمَّة طبقتان رئيسيَّتان على طرفَي نقيض يتَّسم الصِّراع بينهما بحدَّةٍ ووضوحٍ عارٍ لم يُعرَف الصِّراع عبر التَّاريخ بصراعٍ في مثل حدَّته، وهاتان الطَّبقتان متضايفتان بمعنى لا وجود لأحدهما دون الأخرى، وهما الطَّبقة البرجوازيَّة (المالكة لوسائل الإنتاج)، والبروليتاريا (المالكة لقوَّة العمل)
وسنتناول هنا أطروحات ماركس حول وجود الإنسان بما هو عامِل أو بروليتاري..
كيفيَّات وجود البروليتاري:
1- البروليتاري بوصفه حدَّاً أوسط لوعي البرجوازي بالذَّات:
إنَّ البروليتاري بما هو وعي بالذَّات مُستلَب لا يَنظر إلى ذاته كقيمومةٍ خالصةٍ عن بقيَّة عناصرِ العالَم، بل الأحرى بنا أن نقول أنَّه يَنظر إلى وجوده كوجودٍ اعتماديٍّ في المقام الأوَّل؛ إذ يستمدُّ الوعي بالذَّات في لدى البروليتاري الاعتراف به كوعي قائم واعتماديّ من وعي آخر بالذَّات على طرف نقيض وهو وعي البرجوازي بالذَّات، في هذا الوضعِ يتحوَّل وجود البروليتاري إلى وسيطٍ يَعي من خلاله البرجوازيّ ماهيَّته ويكتسب من نَفْيه تَحقُّقه وقيمومتهُ بما هو وعي بالذَّات سالب لكلِّ الموضوعات الأخرى (هنا لم يَصِرْ الوعي بالذَّات لدى البروليتاري إلى مرحلة الوعي الحقيقيِّ المستقلِّ، لذلك لا يزال مُتَّسِماً بالشيئيَّة).
ولكن ما هي حقيقة هذه العمليَّة على أرض الواقع الماديّ؟
2- العملُ بوصفه موضعة:
يكمن جوهر العمل (وهو أهمُّ ما يميِّز الإنسان كنوع) في الإنتاج، ويقوم الإنتاج بما نطلق عليه “الموضعة” أي اتِّخاذ الطَّبيعة كوسيلةٍ يَخلقُ بواسطتها الإنسان موضوعات جديدة تشكِّل جزءاً من الكيان الكلِّي للطَّبيعة، هذه الموضوعات المُنتَجة هي السِّلع، عندما يُنتِج العامِل السِّلع فإنَّه يقوم بموضعة قوى لم تكن موجودةً من قبل؛ إذ يكون هو خالِقُها الأوحد، لكن عمليَّة الخَلْقِ في هذه الحالة عمليَّةٌ شائهةٌ مغتربة ممسوخة؛ فالعامل ليس كاللَّه يخلق الأشياء على صورته ومثاله (وهي الصُّورة المُثلى للخالق في الوعي البشريّ)، بل هو يخلق قوى غريبةً عنه معاديةً له ماثلةً أمامه بوصفها آخريَّته القائمة ضدَّه.
3– التَّموضُع- التَّقوّم بما هو سَلْبٌ في عالَم الأشياء:
لم يعد نِتاج العمل ينتمي إلى العامِل، بل أَخذ مكانه في عالَم الأشياء، لكنَّه من المُحتَّم أن يكون له مالِك، والمالِك ليس الطَّبيعة الممسوخة، كما أنَّه ليس العامِل؛ وبناءً عليه نستدِّل أنَّ المالِك هو إنسانٌ آخرٌ غير العامِل، هذا المالِك هو البورجوازيّ المالِك لرأس المال (الذي يخلقه العامِل بشكلٍ غير مباشرٍ) وأدوات الإنتاج؛ إذاً أصبح العامل وجوداً مُستلَباً يقوِّم وجود آخر هو وجود البورجوازيّ عن طريق العمل.
وبما أنَّ العامل يستمدُّ وجوده أولاً من كونه عاملاً فصارَ من المفروض عليه أن يعزِّز اغترابه المرَّة تلوَ الأخرى ويقدِّم رأسماله (قِواه الجسديَّة والعقليَّة) إلى البورجوازيّ السَّيد حتَّى يستطيع أن يكون كَذاتٍ جسديَّةٍ، هنا يصلُ وعي العامل ووجوده إلى ذروة الانسلاب وهي أحدُّ الكيفيَّات قاطبةً والدَّافع الأكبر لنَفِي الوعي بالذَّات الآخر (البورجوازيّ) عن طريق الثَّورة الكاملة.