دراستنا المنشورة في جريدة الصباح
المقومات والهوية
تحديات منظومة الإعلام في العراق
خليل الطيار
شكلت تداعيات موضوع " قناة الحرة" بعد أن عرضت برنامجا في حلقتين، اثار مضمونه ردود افعال متباينة على مستوى الرأي العام الرسمي والشعبي حافزا قويا للكتابة مجددا عن التحديات التي تواجه منظومة الاعلام في العراق وتأثير ما يعتريها من اشكالات في بنيتها العامة. ولم يكن تعليق رخصة عمل مكاتب مكتب قناة الحرة العراق بكامل طاقمه العراقي سوى التمهيد لسياسةإعلامية مختلفة تنسجم مع عملية الصراع في المنطقة وإستهداف العراق حتى وهو منهك على كافة الصعد خوفا من عملية تغيير سلمية نحو الديمقراطية البرلمانية لبناء عراق جديد على إنقاض تاريخ ملتبس ساده الفكر الشمولي طوال أكثر من ثلاثين عاما.
مع تسليمنا بقدرة الاعلام العراقي على سرعة التحررمن ربقة سياسة النظام الديكتاتوري الشمولي وهيمنته على الاعلام وتقييد حريته وتسخير جميع روافده المسموعة والمرئية والمقروءة لخدمة نظامه السياسي وبسط نفوذه على ادارة موسساته والتحكم في صياغة محتوى خطاباتها، الا ان هذا التحرر الذي وفرته مناخات الاطر الديمقراطية في العراق بعد التحول السياسي الذي شهده العراق بعد العام 2003، فإن الدولة العراقية لم تنجح، بمن تعاقب على ادارة حكوماتها في انجازملف الإعلام في العراق بنهجه المتحرر، وفشلت مساعي القائمين على ادارة مؤسساته الاعلامية الرسمية منها والمستقلة بتحمل مسؤولية وضع سياسة واضحة لادارته، واستثمارمساحة الحريات التي وفرتها المناخات الديمقراطية لبناء منظومته على اسس مهنية وتشريعية سليمة، تؤسس لترصين مقومات هويته الوطنية وتزيد من فاعلية وتاثيرقدرته في ترسيخ العملية السياسية الجديدة في العراق ومشاركته في عملية بناء اللانسان العراقي وتعزيز المتطلبات التنموية لحياته العامة.
كل القوى الخارجية تعرف بأن نهضة الوطن العراقي هي نهضة المنطقة برمتها، ولذلك فإن أبعاد المخطط الدولي والإقليمي يصب في هذا الإتجاه. فالعراق اليوم هو في دائرة الإضاءة نحو مفترق طرق خطيرة خيار النهضة الحضارية فيه مكبل بعوامل متعددة الأبعاد تحركها عملية إعلامية ذات أجندات تديرها وتمولها قوى خارجية وأخرى أقليمية، يساعدها في ذلك نمط من حكومات لا تنظر بعيداً لمخاطر ما يجري في العراق وهو يتلمس طريق النفاذ من النفق المظلم الذي ساد العملية السياسية برمتها قبل أكثر من خمسة عشر عاما. كما لم تستفد من مساحة التحولات المعرفية التي تجاوزفيها الاعلام ، كونه مجرد وسيلة لنشرالقصص الاخبارية وضخ للمعلومات وتخطيه ذلك ليدخل في التنافس على هيمنة وامتلاك ادوات بناء الاستراتيجات التي صارت فيها الدول تعتمد ، ضمن اولويات اهتماماتها على منظومة الاعلام وتوظيفه لتحقيق اغراضها واهدافها التنموية المستدامة واستثماره لتعزيز قدراتها الامنية والاقتصادية والاجتماعية .
كما لم تدرك حجم خطورة تنامي ايقاع تاثير التطورات التكنلوجية والتقنية المتسارعة على بنية الاعلام وانفلاته من منظومة السيطرة والتحكم من خلال دخول ونفاذ منصاته لبوابات العالم الرقمي واتساع مجالات استخداماته وتنوع اوعيته وقوالبه، بعد التطور الكبير لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي هيمنت بقوة على مساحات الاعلام التقليدي وتمكنت من استبدال قواعد واسس عناصرالاتصال، وتنامى معها تاثير الاعلام الفردي والشخصي على منظومة ومهنية الاعلام الرسمي والمستقل، مما شكل تهديدا وتحديا قويا لخلق فوضى عارمة لصناعة محتوى اعلامي، باتت الدول وحكوماتها ومؤسساتها المعنية غير قادرة على السيطرة عليه في ظل فقر القوانين والتشريعات المنظمة لقطاع الاعلام .
دون ان نغفل هنا ذكر تاثير ضعف وهشاشة مرتكزات ومقومات العملية السياسية في العراق والتي ظلت غير قادرة على انتاج اداء محفز لبناء مؤسسات رصينة ومهنية للدولة وتحافظ على استقلاليتها وتركها بعيدة عن تاثير التجاذبات والصراعات السياسية التي تاثرت فيها مؤسسات الاعلام تاثرا كبيرا بفعل سيطرة نفوذ وضغط المال السياسي على مؤسساته المستقلة وتاثير التدخلات الحزبية على عمل ومهنية وسائل الاعلام الرسمية والقدرة على تحجيم صلاحياتها واختيار كوادرها وإضعاف قدراتها على انتاج وتقديم محتوى اعلامي نوعي يواجه التحديات الجسيمة التي يمر بها العراق.
هذه المعطيات وفرت الفرصة السهلة لفرض نفوذ وسياسة خطابات مؤسسات اعلامية خارجية ومحلية تعتمد لتسييرعملها على التمويل والدعم الخارجي سواء من دول دعمت هذه المؤسسات لتسويق سياساتها الخارجية اوعبرتمويل شخصيات اقليمة او دولية هيمنت على بساط الاعلام في العراق وشكلت امبراطوريات اعلامية ساهمت وسلبت منه هويته الوطنية واسقطته في مناخ اعلامي فوضوي يضعف فيه الاداء الاعلامي وتتقاطع فيه الخطابات المشعلة للازمات السياسية والمحرضة على العنف والطائفية والمشجعة على تمكين مصادر الارهاب من النفوذ لخطاباتها واستثمارمنصاتها.
ووسط هذه البيئة الاعلامية المضطربة ترك الباب مفتوحا وميسرا وسهلا لتنفذ من خلاله اغلب وسائل الاعلام العالمية نحو الساحة العراقية لتجد امامها بيئة رخوة تم اختراقها بسهولة وفرض اجندة سياستها الاعلامية، كما نجحت بذلك على سبيل المثال لا الحصرادارة قناة الحرة التي شهدت تحولا في ادائها ومهنيتها من مرحلة لاخرى بعد ان كان هدف انشائها يقوم على دعم سياستها الاعلامية لترصين العمل الديمقراطي في العراق وتشكيل نظامه السياسي الجديد ، لكن سرعان ما تحول الى خطاب اعلامي يعمل على ترجمة ستراتيجية السياسة الخارجية الامريكية وتمرير قضاياها في المنطقة وتاثيرها بالتدخل والتعاطي مع الشان الداخلي للعراق مستغلة هامش مساحة حرية التعبير وهشاشة البيئة القانونية المنظمة لعمل قطاع الاعلام في العراق .
ان هيئة الاعلام والاتصالات وشبكة الاعلام العراقي ومختلف المؤسسات الاعلامية المستقلة والمتحزبة والمراكز الاعلامية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، لا تزال غير قادرة على توحيد جهودها في ادارة ملف الاعلام في العراق وتعزيز دوره ليصبح سلطة تنويرية تسهم في بناء الدولة وتساعد على تجذير الاطر الديمقراطية الصحيحة في العراق.
إن الدولة العراقية تفتقر الى وجود منهجية واضحة لادارة سياسة الاعلام في العراق وعدم اتاحة الفرص للحكومات المتعاقبة لمسك وادارة ملف الاعلام وفق اسس محكمة ومدروسة، بسبب انشغال تلك الحكومات في اطفاء ازمات العملية السياسية وتحدياتها المتتالية، مما فوت عليها الفرصة لوضع اسس منهجية سليمة لادارة ملف الاعلام الذي بات يشكل ابرز مقومات دعم تنفيذ برنامجها واستمرار عملها او التحريض ضدها وإعاقة واضعاف مساعيها والنيل منها وتبني مشاريع اسقاطها، هذا إلى جانب التلكوء في اداء اعلام الدولة لمواجهة تلك الخطابات الاعلامية التي تهدد أداءها على كافة الصعد ومنها الأداء الإعلامي القائم على اسس وثوابت رصينة تنفذها شخصيات ومؤسسات اعلامية مهنية.
هذه المعطيات التي تشكل ابرزما يواجهه الاعلام العراقي من تحديات في بنيته الاساسية الذي يتطلب جملة اضاءات تساعد على إعادة ترتيب منظومة الاعلام في العراق وفق اسس سليمة تدعم مساراتها المستقبلية . هذه الإضاءات تتمثل بالتالي:
1- معالجة اشكالية توطين وتعزيز الهوية الوطنية للاعلام العراقي
2- معالجة قلة وضعف انتاج المعادل الإعلامي المتعلق بمدى مواكبة المنظومة الإعلامية العراقية لمشاريع وخطط وإنجازات الدولة في المجالات المختلفة، وبناء الإنسان العراقي
3- ايجاد تعريفات واضحة لمسؤولية النظام الاعلامي في الدولة العراقية وتحديد المهام المنوطة به المتعلقة بتعزيزجهودها المقدمة من مؤساتها الخدمية للمواطنين لمختلف روافدها،التعليمية والصحية والامنية والصناعية والاقتصاد، والتجارية ، والسياحة، والزراعة، والنقل والاتصالات وغيرها.
4- بيان مسؤولية المؤسسة الإعلامية المعنية بالاتصال الجماهيري ، وتسمية مهامها في تشخيص مستوى التحدي الذي تواجهه مؤسسات الدولة و قيامها بالدور الإيجابي والفعال لرفد وسائل الاعلام المختلفة، واعطاء صناع القرارالوقائع الصحيحة عن حاجتهم إلى إعلام مهني يكشف الحقائق ويعكس المنجز ولا يغض النظر عنه ويقوم بالاستقصاء وطرح المشاكل، تحت مقولة " ليس بالامكان افضل مما كان"
5- معالجة افتقارالاعلام العراقي الى (الهوية والرؤية والاستراتيجية)، فما زال إعلامنا العراقي يفتقر للاساليب والاداء المهني في رسائل النقد الهادف والحريص على مصلحة الشعب والوطن وما زالت خطاباته ورسائله اسيرة تاثير المال السياسي المنشغل بخطابات واهداف الاجنادات الحزبية والقومية والمذهبية بعيداً عن التعاطي مع الاغراض التنموية للقضايا الاجتماعية والثقافية والمساحات المشرقة ..
6- العمل على ايجاد مناخ وبيئة اعلامية عراقية تسهم فيها المنظومة الإعلامية لتشكل ذاكرة المجتمع، ومنبر للحوار والنقاش الديمقراطي وتكون منصة معرفية تلتقي فيها الآراء والأفكار ومختلف وجهات النظر بمهنية عالية.
7- العمل على ايجاد وتوفير بنية تحتية إعلامية متماسكة ورصينة في العراق، تعتمد على اداء مؤسسات مهنية تمتلك الاستقلال المالي والاداري وتمنح الصلاحيات المشفعة بالقوانين والتشريعات ما يمكنها من القيام بمسؤولياتها بكل استقلالية وشفافية ومهنية تحررها من تاثير هيمنة النفوذ الحكومي او السياسي الذي يتحكم في صناعة قراراتها واضعاف سياساتها الادارية.
8- زيادة جهود الجانب التشريعي لحسم اقرارحزمة القوانين المتعلقة بتنظيم الاعلام والمعلوماتية والقوانين المساندة لتعزيزعمل مؤسساتها ووضع منهجية لتشريعاتها وفق اسس سليمة تهدف لبناء مؤسسات رصينة ولا تعزز سلطة افرادها وهيمنة الاحزاب عليها .
ولما تقدم نجد ان الفرص متاحة وبقوة للعمل بجدية لاعادة مسك الملف الاعلامي في العراق ودراسة ما يواجه منظومته من تحديات وتحديد نقاط الخلل فيها والعمل على وضع ستراتيجية واضحة المعالم لمعرفة ماذا (تريد الدولة بالضبط من الإعلام؟ وماذا تريد مؤسساته الإعلامية بالتحديد؟ وماذا يريد الصحافي من مهنته؟ وماذا يريد المشرع من القوانين والتشريعات؟ وماذا تريد النقابات الصحفية والمؤسسات الاعلامية من المهنة ومن المنظومة الإعلامية ككل؟ وأخيراً، ماذا يريد المواطن من النظام الإعلامي في البلد؟)
إن الإجابة على هذه الأسئلة بكل مسؤولية، إنما تقع على عاتق جميع الاطراف المعنية بملف الاعلام في العراق وبمساهمة جميع القطاعات الرسمية والمدنية المستقلة، وتوحيد جهودها للعمل على تقديم الافكار والدراسات والبحوث الميدانية، وقراءة المعطيات وتحليلها لاستخلاص النتائج، وتقديمها لاصحاب القرار لوضع خارطة طريق محكمة، ومنهجية، تكون في مستوى التحديات التي يمر بها العراق والتي يشكل فيها الاعلام عنصراً فاعلا لمواجهتها ومعالجتها في المستقبل.