شريف صالح
مرت قبل أيام الذكرى الثلاثين لرحيل بليغ حمدي (ت1/ أكتوبر 1931 ـ أيلول/ سبتمبر 1993)، تُوفي قبل أن يبلغ الثانية والستين في نهاية مباغتة. ربما لأنه كان يعيش الحياة بقلبه لا عقله، لحن لمصر تتر مسلسل "بوابة الحلواني" كأنه لحن مودع، ينضم إلى أغنيات وطنية مؤثرة في الوجدان المصري مثل: يا حبيبتي يا مصر، وأنا ع الربابة بغني، والله أكبر باسم الله.. التي أنجزها في ساعات قليلة مواكبًا لحظة العبور في حرب أكتوبر.
ليس من قبيل المبالغة أنه لا أغنيات وطنية تفوق هذه الأعمال تأثيرًا إلا النشيد الوطني نفسه للشيخ سيد درويش.
المفارقة الحزينة أن الرجل الذي أبدع هذه الألحان الوطنية، وجد نفسه متهمًا بقتل الشابة المغربية سميرة مليان، حيث عُثر عليها في بيته بعد حفلة عامرة بالشخصيات الفنية. لم يكف دفاعه أنه ترك ضيوفه وذهب للنوم، وكان الحل الوحيد ابتعاده (أو إبعاده من مصر) خمس سنوات بين عامي 1984 ـ 1989، إلى أن تمت تبرئته، وعاد منكسرًا عليل الجسم وكأن الشيخوخة صعقته في الغربة. فمن غنّى كثيرًا للغربة كان لا بد أن يجرع كأسها.
يمكن ربط براعة بليغ في الوطنيات، إلى ولادته في حي شبرا العريق والشعبي المشهور بالجدعنة، والكوزموبوليتاني، إضافة إلى جذوره الصعيدية بكل ما تعنيه من كبرياء، وانتمائه إلى أسرة أستاذ جامعي مفتون بثورة 19 وزعيمها سعد زغلول، لدرجة أنه أطلق على ابنه اسم "سعد" وعلى ابنته اسم زوجته "صفية".
حب وبوهيمية
للكون ألغاز عصية على التفسير لكنها تسترعي الانتباه، فالشيخ سيد درويش مات في ريعان شبابه منتصف شهر أيلول/ سبتمبر، وكذلك مات بليغ منتصف الشهر نفسه تقريبًا، واختار حي شبرا سكنًا له بعد الإسكندرية، وبليغ ولد في الحي نفسه بعد ثماني سنوات من وفاة الشيخ سيد. وكلاهما كان مولعًا بالنساء والحب لكنه حب بغير اكتراث كبير بتكوين أسرة وأولاد (وإن كان الشيخ سيد أنجز ذلك بفضل زيجة تقليدية مبكرة)، ولا اكتراث بجمع المال والحفاظ على الصحة واكتساب النفوذ والمناصب.
كلاهما أيضًا اشترك في الحياة البوهيمية التي تبحث عن الحب في ذاته، وليس عن امرأة بعينها. لا يفكر في المرأة كامتلاك بل كإلهام. أي كحالة متوترة تفجر نغمة لم تولد بعد.
اشتهرت قصة حب الشيخ سيد مع "جليلة" التي غنى لها "زوروني كل سنة مرة"، واشتهرت قصة حب بليغ مع وردة التي تكللت بزواج بين عامي 1972 ـ 1978، أسفر عن ثنائي فني في قرابة ثلاثين أغنية ـ حتى بعد طلاقهما ـ وأشهرها: العيون السود، خليك هنا، دندنة، اسمعوني، اشتروني، عايزة معجزة، ليالينا، وحشتوني، دار يا دار، على رمش عيونه (كلتاهما غناهما أيضًا وديع الصافي)، وأخيرًا "بودعك" التي حققت نجاحًا لافتًا بسبب ميلودرامية كلماتها، وتوظيف قصة الفراق بين بليغ ووردة، ولأنها جاءت قرب خط النهاية، رغم أنها تبدو أغنية مُرهقَة تفتقد شيئًا ما، أقرب إلى بروفة ناقصة.
حاول بليغ تعويض خسارته لوردة (رغم أن التعاون لم ينقطع) فراهن على مطربات شابات ونجح في تجارب مهمة، مع عفاف راضي في أغنيات مثل: ردوا السلام، هوا يا هوا، دوري بنا، تعال جنبي، عطشانة، سلم سلم، لمين يا قمر، يمكن على باله. كلها كانت أغنيات قصيرة، وغالبًا من شعر عبد الرحيم منصور، واستثمر فيها بليغ أحيانًا قدراتها الأوبرالية وكأنها كانت محاولة لنسخ فيروز مصرية.
كما كانت له تجربة مهمة مع عزيزة جلال لولا أنها اعتزلت، وقدم لها: حبيبي مهما سافرت، ومستنياك. ثم تجربة أكثر امتدادًا ونجاحًا تحولت إلى ظاهرة في ثمانينات القرن الماضي مع ميادة الحناوي: الحب اللي كان، فاتت سنة، أنا بعشقك، وسيدي أنا.. وربما ساهم في تأثير هذا الثنائي جمال ميادة اللافت الذي وضعها في مقارنة مع وردة.
ولأنه بطبعه كان غزير الإنتاج، تبنى بليغ أصواتًا نسائية كثيرة مثل سميرة سعيد ولطيفة ونادية مصطفى، لكنها لا ترتقي إلى فكرة الثنائية.
ظلت المرأة والحب بكل عذابه وفراقه وجنونه، فضاءً نغميًا مهمًا وملهمًا لبليغ، حتى في تعاونه مع مطربات منافسات لوردة مثل شادية التي شكل معها ثنائيًا لم يأخذ حقه من الاهتمام في أغنيات مثل: قولوا لعين الشمس، خلاص مسافر، الحنة، عطشان يا صبايا، يا عيني ع الوله، آه يا أسمراني اللون، آخر ليلة، وأغاني مسرحيتها "ريا وسكينة".
واضح أن بليغ لم يقدم شادية البنوتة الدلوعة المرحة، بل جعلها فلاحة وصعيدية لا ينفصل حبها عن حزنها الدفين، نقلها من الشابة بنت الطبقة الوسطى المبتسمة بقصة شعرها المميزة، إلى سيدة شعبية تعصب رأسها بالمنديل والطرحة.
ومنذ بداياته المبكرة التقى فايزة أحمد في "ما تحبنيش بالشكل دا"، ثم أعمال مثل "حبيبي يا متغرب"، وكذلك صباح في أشهر أغانيها: عاشقة وغلبانة، جاني وطلب السماح، يانا يانا، شمس الشموس، ونجاة في: أنا بستناك، الطير المسافر، سلم عليّ، ليلة من الليالي، في وسط الطريق، وسكة العاشقين.
شجن شعبي صوفي
لا يبرع بليغ في الأغاني الخفيفة مثل محمد فوزي ومنير مراد وعبد الوهاب، فهو أقرب إلى شجن فريد الأطرش. كما لا يبرع في القصائد والموشحات وتشييد عمارة لحنية رصينة وفخمة على طريقة القصبجي ورياض السنباطي، ولا يملك تلك السلطنة في نوتة الشيخ زكريا أحمد. لكنه امتاز بخلطة الشجن الشعبي، لا الأرستقراطي مثل فريد، شجن أتى به من رائحة الحارات العتيقة ومواويل الفلاحين في الحقول وتعديد النساء عند المقابر وأغاني الأفراح في القرى والنجوع.. فكثير من عناوين أغانيه لمطربين ومطربات، وجمله الموسيقية، مستلهمة كلها من خريطة الفولكلور المصري.
صحيح له أغنيات كثيرة نجحت خارج هذا السياق، لكن ذلك سر تفرده، فمن أشهر أعماله مع عبد الحليم: على حسب وداد قلبي، سواح، التوبة، مداح القمر، حاول تفتكرني، جانا الهوا، الهوا هوايا، زي الهوا، أي دمعة حزن لا، وحبيبتي من تكون. وكذلك مع محمد رشدي في أعمال مثل: طاير يا هوا، ع الرملة، وعدوية. ومعظمها اعتمد فيها على شعراء من الصعيد مثل عبد الرحمن الأبنودي وعبد الرحيم منصور. وكان الملمح الأساسي فيها هو الشجن الشعبي، ونبرة الحزن.
ثمة مقولة لبليغ مفاداها أن اللحن الذي لا يقف له شعر الجلد لا يعول عليه، فاللحن ليس صنعة ولا ترتيبًا ذهنيًا، بل حالة شعورية تخترق حواس الإنسان وترجف روحه وجسده، وليس هناك مثل الحزن الوجودي داخل كل منا. إنه الشعور النبيل الملازم لتجربتنا الإنسانية بينما الفرح لحظة عابرة.
وغلف بليغ نبرته الحزينة بكل البهارات الشعبية، مستعيرًا جمل ونغم الفولكلور المصري وطرق الأداء، لذلك ليس غريبًا أن ينتقده ملحن مثل سيد مكاوي (وهو الشعبي حتى النخاع) لأنه جر عبد الحليم من منطقته الرومانسية إلى حس شعبي لا يناسبه.
ولا ينفصل حسه الشعبي الحزين عن ومضة صوفية آسرة، تنبض في أغنية مثل "ألف ليلة وليلة" لأم كلثوم مثلما تتجلى في أنشودة "مولاي" التي أبدعها للنقشبندي.
بين أم كلثوم وعبد الوهاب
يتردد كلام مرسل يضع بليغ في منزلة المجدد الثاني للموسيقى بعد سيد درويش، وهذا الرأي يتجاهل منجزات عظيمة لأسماء بمثابة أساتذة له مثل القصبجي والسنباطي وعبد الوهاب وحتى محمد ففوزي. ويقلل أيضًا من منافسين له لا يستهان بهم مثل كمال الطويل والموجي وسيد مكاوي.
ولا يصح فنيًا ولا تاريخيًا وضعه في مقارنة مع عبد الوهاب، الذي فعل كل شيء في الغناء والموسيقى قبل أن يولد بليغ أساسًا. وهذا لا يقلل من عبقريته قطعًا. فمن يتابع بليغ في بداياته فسيجده شديد التأثر بالآخرين والتماهي معهم، مثلًا "تخونوه" لعبد الحليم أقرب إلى روح كمال الطويل.
وإذا كان بليغ أصغر ملحن شاب تعاون مع أم كلثوم، بينما تأخر تعاون عبد الوهاب معها في الفترة نفسها، حتى تجاوز الستين، فهذا التعاون لم يتحقق إلا بتزكية من فوزي، وظهر بليغ مرتبكًا محاولًا اقتفاء خطى السنباطي والشيخ زكريا في أغنيات مثل: أنساك، وحب إيه.
وحين دخل عبد الوهاب إلى التجربة الكلثومية وأحدث ثورة بالمقدمة الموسيقية الطويلة في "أنت عمري" وتوظيف الأوركسترا والآلات الشرقية والغربية، تأثر بليغ بتلك النقلة في أعماله التالية لها مثل "سيرة الحب" و"الحب كله" وأصبح أقرب إلى ذاته الحقيقية.
من المؤكد أن بليغ نجح في إرضاء أم كلثوم، وأكسبها جمهورًا شبابيًا، لكنه لم يضف إليها فنيًا، ولم يعجب "السميعة" وعلى رأسهم شاعرها المفضل ومستشارها أحمد رامي.
آخر الرّهانات
عاش بليغ مشاريع حب غير موجهة لأحد بعينه، كائن اجتماعي فاشل تسبب في إيذاء وجرح المرأة التي قبلت الزواج منه. عاش حالة عشق وتوتر أبدي، يحترق في سبيل نغمة تلمس روحك وتخترق وترعش مسام جلدك. راهن على الوطن فاغترب عنه، وراهن على الحب من قصة سرية إلى زواج معلن، لكنه مات وحيدًا، وراهن على حياة الصعلكة والبوهيمية فاستنزفت قلبه قبل الأوان. وربما لم يكسب إلا هذا الهوس الشعبي به، والألتراس السري الذي يرى فيه نبي الحزن والعاطفة الجريحة. وربما كان هذا رهان الخلود.
مرت قبل أيام الذكرى الثلاثين لرحيل بليغ حمدي (ت1/ أكتوبر 1931 ـ أيلول/ سبتمبر 1993)، تُوفي قبل أن يبلغ الثانية والستين في نهاية مباغتة. ربما لأنه كان يعيش الحياة بقلبه لا عقله، لحن لمصر تتر مسلسل "بوابة الحلواني" كأنه لحن مودع، ينضم إلى أغنيات وطنية مؤثرة في الوجدان المصري مثل: يا حبيبتي يا مصر، وأنا ع الربابة بغني، والله أكبر باسم الله.. التي أنجزها في ساعات قليلة مواكبًا لحظة العبور في حرب أكتوبر.
ليس من قبيل المبالغة أنه لا أغنيات وطنية تفوق هذه الأعمال تأثيرًا إلا النشيد الوطني نفسه للشيخ سيد درويش.
المفارقة الحزينة أن الرجل الذي أبدع هذه الألحان الوطنية، وجد نفسه متهمًا بقتل الشابة المغربية سميرة مليان، حيث عُثر عليها في بيته بعد حفلة عامرة بالشخصيات الفنية. لم يكف دفاعه أنه ترك ضيوفه وذهب للنوم، وكان الحل الوحيد ابتعاده (أو إبعاده من مصر) خمس سنوات بين عامي 1984 ـ 1989، إلى أن تمت تبرئته، وعاد منكسرًا عليل الجسم وكأن الشيخوخة صعقته في الغربة. فمن غنّى كثيرًا للغربة كان لا بد أن يجرع كأسها.
يمكن ربط براعة بليغ في الوطنيات، إلى ولادته في حي شبرا العريق والشعبي المشهور بالجدعنة، والكوزموبوليتاني، إضافة إلى جذوره الصعيدية بكل ما تعنيه من كبرياء، وانتمائه إلى أسرة أستاذ جامعي مفتون بثورة 19 وزعيمها سعد زغلول، لدرجة أنه أطلق على ابنه اسم "سعد" وعلى ابنته اسم زوجته "صفية".
حب وبوهيمية
للكون ألغاز عصية على التفسير لكنها تسترعي الانتباه، فالشيخ سيد درويش مات في ريعان شبابه منتصف شهر أيلول/ سبتمبر، وكذلك مات بليغ منتصف الشهر نفسه تقريبًا، واختار حي شبرا سكنًا له بعد الإسكندرية، وبليغ ولد في الحي نفسه بعد ثماني سنوات من وفاة الشيخ سيد. وكلاهما كان مولعًا بالنساء والحب لكنه حب بغير اكتراث كبير بتكوين أسرة وأولاد (وإن كان الشيخ سيد أنجز ذلك بفضل زيجة تقليدية مبكرة)، ولا اكتراث بجمع المال والحفاظ على الصحة واكتساب النفوذ والمناصب.
كلاهما أيضًا اشترك في الحياة البوهيمية التي تبحث عن الحب في ذاته، وليس عن امرأة بعينها. لا يفكر في المرأة كامتلاك بل كإلهام. أي كحالة متوترة تفجر نغمة لم تولد بعد.
اشتهرت قصة حب الشيخ سيد مع "جليلة" التي غنى لها "زوروني كل سنة مرة"، واشتهرت قصة حب بليغ مع وردة التي تكللت بزواج بين عامي 1972 ـ 1978، أسفر عن ثنائي فني في قرابة ثلاثين أغنية ـ حتى بعد طلاقهما ـ وأشهرها: العيون السود، خليك هنا، دندنة، اسمعوني، اشتروني، عايزة معجزة، ليالينا، وحشتوني، دار يا دار، على رمش عيونه (كلتاهما غناهما أيضًا وديع الصافي)، وأخيرًا "بودعك" التي حققت نجاحًا لافتًا بسبب ميلودرامية كلماتها، وتوظيف قصة الفراق بين بليغ ووردة، ولأنها جاءت قرب خط النهاية، رغم أنها تبدو أغنية مُرهقَة تفتقد شيئًا ما، أقرب إلى بروفة ناقصة.
حاول بليغ تعويض خسارته لوردة (رغم أن التعاون لم ينقطع) فراهن على مطربات شابات ونجح في تجارب مهمة، مع عفاف راضي في أغنيات مثل: ردوا السلام، هوا يا هوا، دوري بنا، تعال جنبي، عطشانة، سلم سلم، لمين يا قمر، يمكن على باله. كلها كانت أغنيات قصيرة، وغالبًا من شعر عبد الرحيم منصور، واستثمر فيها بليغ أحيانًا قدراتها الأوبرالية وكأنها كانت محاولة لنسخ فيروز مصرية.
كما كانت له تجربة مهمة مع عزيزة جلال لولا أنها اعتزلت، وقدم لها: حبيبي مهما سافرت، ومستنياك. ثم تجربة أكثر امتدادًا ونجاحًا تحولت إلى ظاهرة في ثمانينات القرن الماضي مع ميادة الحناوي: الحب اللي كان، فاتت سنة، أنا بعشقك، وسيدي أنا.. وربما ساهم في تأثير هذا الثنائي جمال ميادة اللافت الذي وضعها في مقارنة مع وردة.
ولأنه بطبعه كان غزير الإنتاج، تبنى بليغ أصواتًا نسائية كثيرة مثل سميرة سعيد ولطيفة ونادية مصطفى، لكنها لا ترتقي إلى فكرة الثنائية.
ظلت المرأة والحب بكل عذابه وفراقه وجنونه، فضاءً نغميًا مهمًا وملهمًا لبليغ، حتى في تعاونه مع مطربات منافسات لوردة مثل شادية التي شكل معها ثنائيًا لم يأخذ حقه من الاهتمام في أغنيات مثل: قولوا لعين الشمس، خلاص مسافر، الحنة، عطشان يا صبايا، يا عيني ع الوله، آه يا أسمراني اللون، آخر ليلة، وأغاني مسرحيتها "ريا وسكينة".
واضح أن بليغ لم يقدم شادية البنوتة الدلوعة المرحة، بل جعلها فلاحة وصعيدية لا ينفصل حبها عن حزنها الدفين، نقلها من الشابة بنت الطبقة الوسطى المبتسمة بقصة شعرها المميزة، إلى سيدة شعبية تعصب رأسها بالمنديل والطرحة.
ومنذ بداياته المبكرة التقى فايزة أحمد في "ما تحبنيش بالشكل دا"، ثم أعمال مثل "حبيبي يا متغرب"، وكذلك صباح في أشهر أغانيها: عاشقة وغلبانة، جاني وطلب السماح، يانا يانا، شمس الشموس، ونجاة في: أنا بستناك، الطير المسافر، سلم عليّ، ليلة من الليالي، في وسط الطريق، وسكة العاشقين.
شجن شعبي صوفي
لا يبرع بليغ في الأغاني الخفيفة مثل محمد فوزي ومنير مراد وعبد الوهاب، فهو أقرب إلى شجن فريد الأطرش. كما لا يبرع في القصائد والموشحات وتشييد عمارة لحنية رصينة وفخمة على طريقة القصبجي ورياض السنباطي، ولا يملك تلك السلطنة في نوتة الشيخ زكريا أحمد. لكنه امتاز بخلطة الشجن الشعبي، لا الأرستقراطي مثل فريد، شجن أتى به من رائحة الحارات العتيقة ومواويل الفلاحين في الحقول وتعديد النساء عند المقابر وأغاني الأفراح في القرى والنجوع.. فكثير من عناوين أغانيه لمطربين ومطربات، وجمله الموسيقية، مستلهمة كلها من خريطة الفولكلور المصري.
صحيح له أغنيات كثيرة نجحت خارج هذا السياق، لكن ذلك سر تفرده، فمن أشهر أعماله مع عبد الحليم: على حسب وداد قلبي، سواح، التوبة، مداح القمر، حاول تفتكرني، جانا الهوا، الهوا هوايا، زي الهوا، أي دمعة حزن لا، وحبيبتي من تكون. وكذلك مع محمد رشدي في أعمال مثل: طاير يا هوا، ع الرملة، وعدوية. ومعظمها اعتمد فيها على شعراء من الصعيد مثل عبد الرحمن الأبنودي وعبد الرحيم منصور. وكان الملمح الأساسي فيها هو الشجن الشعبي، ونبرة الحزن.
ثمة مقولة لبليغ مفاداها أن اللحن الذي لا يقف له شعر الجلد لا يعول عليه، فاللحن ليس صنعة ولا ترتيبًا ذهنيًا، بل حالة شعورية تخترق حواس الإنسان وترجف روحه وجسده، وليس هناك مثل الحزن الوجودي داخل كل منا. إنه الشعور النبيل الملازم لتجربتنا الإنسانية بينما الفرح لحظة عابرة.
وغلف بليغ نبرته الحزينة بكل البهارات الشعبية، مستعيرًا جمل ونغم الفولكلور المصري وطرق الأداء، لذلك ليس غريبًا أن ينتقده ملحن مثل سيد مكاوي (وهو الشعبي حتى النخاع) لأنه جر عبد الحليم من منطقته الرومانسية إلى حس شعبي لا يناسبه.
ولا ينفصل حسه الشعبي الحزين عن ومضة صوفية آسرة، تنبض في أغنية مثل "ألف ليلة وليلة" لأم كلثوم مثلما تتجلى في أنشودة "مولاي" التي أبدعها للنقشبندي.
بين أم كلثوم وعبد الوهاب
يتردد كلام مرسل يضع بليغ في منزلة المجدد الثاني للموسيقى بعد سيد درويش، وهذا الرأي يتجاهل منجزات عظيمة لأسماء بمثابة أساتذة له مثل القصبجي والسنباطي وعبد الوهاب وحتى محمد ففوزي. ويقلل أيضًا من منافسين له لا يستهان بهم مثل كمال الطويل والموجي وسيد مكاوي.
ولا يصح فنيًا ولا تاريخيًا وضعه في مقارنة مع عبد الوهاب، الذي فعل كل شيء في الغناء والموسيقى قبل أن يولد بليغ أساسًا. وهذا لا يقلل من عبقريته قطعًا. فمن يتابع بليغ في بداياته فسيجده شديد التأثر بالآخرين والتماهي معهم، مثلًا "تخونوه" لعبد الحليم أقرب إلى روح كمال الطويل.
وإذا كان بليغ أصغر ملحن شاب تعاون مع أم كلثوم، بينما تأخر تعاون عبد الوهاب معها في الفترة نفسها، حتى تجاوز الستين، فهذا التعاون لم يتحقق إلا بتزكية من فوزي، وظهر بليغ مرتبكًا محاولًا اقتفاء خطى السنباطي والشيخ زكريا في أغنيات مثل: أنساك، وحب إيه.
وحين دخل عبد الوهاب إلى التجربة الكلثومية وأحدث ثورة بالمقدمة الموسيقية الطويلة في "أنت عمري" وتوظيف الأوركسترا والآلات الشرقية والغربية، تأثر بليغ بتلك النقلة في أعماله التالية لها مثل "سيرة الحب" و"الحب كله" وأصبح أقرب إلى ذاته الحقيقية.
من المؤكد أن بليغ نجح في إرضاء أم كلثوم، وأكسبها جمهورًا شبابيًا، لكنه لم يضف إليها فنيًا، ولم يعجب "السميعة" وعلى رأسهم شاعرها المفضل ومستشارها أحمد رامي.
آخر الرّهانات
عاش بليغ مشاريع حب غير موجهة لأحد بعينه، كائن اجتماعي فاشل تسبب في إيذاء وجرح المرأة التي قبلت الزواج منه. عاش حالة عشق وتوتر أبدي، يحترق في سبيل نغمة تلمس روحك وتخترق وترعش مسام جلدك. راهن على الوطن فاغترب عنه، وراهن على الحب من قصة سرية إلى زواج معلن، لكنه مات وحيدًا، وراهن على حياة الصعلكة والبوهيمية فاستنزفت قلبه قبل الأوان. وربما لم يكسب إلا هذا الهوس الشعبي به، والألتراس السري الذي يرى فيه نبي الحزن والعاطفة الجريحة. وربما كان هذا رهان الخلود.