يعدّ ترايتون أحد أغرب الأقمار في النظام الشمسيّ وعلى مستويات عدّة: المدار والحجم والسطح. ما هي سمات هذه الفرادة؟ وكيف يمكن تفسيرها؟
عالم الفيزياء الفلكيّة في جامعة مدينة نيويورك بول ساتر يأخنا في رحلة شيّقة عبر إضاءة نشرها موقع "سْبيس" الأميركيّ
في بعض الأحيان، يكون علم الفلك مثل تحقيق الطبّ الشرعيّ: لا يمكننا إعادة تشغيل الماضي، لذلك يتعيّن علينا دراسة الأدلّة لمعرفة ما حدث. ويحتوي النظام الشمسيّ الخارجيّ على مسرح جريمة ملفت للنظر يحمل لغزاً كبيراً: كيف حصلت البيئة المحيطة بنبتون على قمر مثل ترايتون.
لدى نبتون 14 قمراً معروفاً. باستثناء ترايتون، جميع أقمار نبتون صغيرة جداً، وتأتي في شكلين عامّين: منتظم وغير منتظم. تدور الأقمار المنتظمة بالقرب من الكوكب، أمّا الأقمار غير المنتظمة فهي عموماً أبعد عن نبتون، مع كل أنواع المدارات المجنونة. ثمّ هناك ترايتون.
من اكتشفه؟
اكتشفه التاجر الإنجليزيّ وعالم الفلك الهاوي ويليام لاسيل سنة 1846 بعد 17 يوماً فقط من اكتشاف نبتون نفسه. ولكنّنا لم نلقِ أوّل نظرة عن قرب على ترايتون إلّا في 25 أغسطس (آب) 1989، عندما حلّق مسبار "فوياجر 2" بالقرب منه في المحطة الأخيرة من جولته التاريخيّة الكبرى في النظام الشمسيّ الخارجيّ. على الرغم من أن "فوياجر 2" رسم خريطة لـ40 في المئة فقط من سطح ترايتون، كشفت المهمة عن مدى غرابة قمر نبتون.
سماته
أولاً، ترايتون كبير. إنّه سابع أكبر قمر في النظام الشمسيّ وهو أكبر بأكثر من 200 مرة من جميع أقمار نبتون الأخرى مجتمعة، ممّا يجعله بارزاً حقاً.
ثانياً، تريتون هو أحد الأقمار غير المنتظمة. يدور إلى الخلف بالنسبة لدوران نبتون، ويميل مداره بزاوية مذهلة تبلغ 67 درجة، أي بشكل عموديّ تقريباً بالنسبة إلى كوكبه الأم. على الرغم من عدم انتظامه، مدار ترايتون دائريّ بشكل مدهش، وهو في الواقع أحد المدارات الدائريّة الأكثر مثاليّة من بين جميع الأجسام الموجودة في النظام الشمسي. أما السطح فيبدو مثل الشمام. تتمّ تغطية جزء كبير من خطوط العرض الوسطى لترايتون بمعالم وعرة ومتجعّدة يطلق عليها بشكل مناسب تضاريس الشمام.
يتميّز قسم كبير آخر بسهول واسعة لا ملامح لها تتخلّلها كالديرات (فوهات) ضخمة، في حين يهيمن على الجزء الجنوبيّ غطاء جليدي ضخم من النيتروجين تتخلّله العشرات من البراكين الجليديّة - أي البراكين التي تنفث تيّارات من الماء. ما لا يحتوي عليه سطح ترايتون هو الكثير من الفوهات، ممّا يدلّ على أنه قادر على التشكّل مرّة أخرى ومحوها. وهذه القدرة على التمظهر مرّة أخرى غير شائعة في النظام الشمسيّ، وهي علامة على أنّ القمر لا يزال دافئاً جزئيّاً.
المشتبه بهم الرئيسيّون
قمنا بجمع وقائع التحقيق في مسرح الجريمة: قمر نبتون هذا أكبر بكثير مما ينبغي، وله مدار غريب تماماً وتشكل بطريقة غير تقليدية وله سطح شابّ وديناميكيّ ونشط.
ما القصة وراء هذه الغرائب؟ أفضل إجابة هي أنّ ترايتون ليس مجرد قمر، بل هو ضحية عملية اختطاف بين الكواكب. ربما يكون هذا الجسم في الواقع جسم من حزام كويبر أقرب إلى بلوتو أو إيريس منه إلى أقمار النظام الشمسيّ الأخرى. ربما منذ فترة طويلة، سقط ترايتون في محيط نبتون، فاستحوذت عليه جاذبيّة الكوكب، واضطرّ إلى قضاء مليارات السنين المتبقّية في مدار ضمن موطنه غير المرحِّب به. إمّا أنّ ترايتون لم يحالفه الحظ وكان له مدار خاطئ تماماً ليهبط فيه بالقرب من نبتون، أو أنّه عانى من اصطدام مشؤوم مع أحد أقمار نبتون الأصليّة، وفي هذه العمليّة، فقدَ ما يكفي من الطاقة للبقاء في المدار.
الاحتمال الآخر هو أنّ ترايتون تشكّل في الأصل كنظام ثنائيّ صغير، مثل الكثير من الأجسام الأخرى في حزام كويبر، وأدّت مواجهة قريبة مع نبتون إلى إرسال توأم ترايتون إلى الطيران بعيداً وترك ترايتون نفسه محتجزاً.
يفسّر احتجاز ترايتون مداره الغريب. إذا لم يتشكّل عضويّاً في النظام النبتونيّ فلن يكون لديه أي سبب لمشاركة المستوى المداريّ مع الأقمار العادية. وإذا تمّ احتجازه في وقت مبكر بما فيه الكفاية، فسيتعيّن عليه السباحة عبر الحطام المحيط بنبتون الذي كان لا يزال يتشكّل، وهو ما سيكون كافياً لتشكيل مداره في دائرة مثاليّة تقريباً.
سرّ الدفء
يظل ترايتون دافئاً لأنّه، مثل أجسام حزام كويبر الأخرى، يحتوي على ما يكفي من العناصر المشعّة لإطلاق الحرارة. تعمل هذه الحرارة على تحويل الماء وثاني أكسيد الكربون والجليد النيتروجينيّ إلى طين، مما يبقي السطح شاباً ونشطاً (يشبه إلى حدّ كبير بلوتو الذي يحتوي على حقل جليديّ عملاق ذائب من جليد النيتروجين). في الواقع، قد يكون ترايتون دافئاً جداً لدرجة أنه يحتوي على محيط مائيّ سائل تحت قشرته.
هل سنعرف الجواب في حياتنا؟
لقد مرّ أكثر من جيل منذ آخر لقاء قصير لنا مع ترايتون. تلك الصور التي التقطتها "فوياجر 2" هي الوحيدة المتوفرة لدينا. لسوء الحظ، لم تتخطّ أي تصوّرات لإرسال مهمّة إلى نظام نبتون مرحلة الاقتراح ضمن تمويل "ناسا". وبالنظر إلى اهتمام الوكالة بأقمار كوكب المشتري وزحل (والتي، كي نكون منصفين، هي أيضاً موطن لمحيطات شاسعة من الماء السائل وهي أقرب بكثير من نبتون)، فمن المحتمل ألّا تكون هناك مهمّة متابعة في حياتنا.
ولذا سيتعيّن على مسرح الجريمة هذا الانتظار حتى يتم التحقيق بشكل كامل مع الجيل القادم من المستكشفين.
عالم الفيزياء الفلكيّة في جامعة مدينة نيويورك بول ساتر يأخنا في رحلة شيّقة عبر إضاءة نشرها موقع "سْبيس" الأميركيّ
في بعض الأحيان، يكون علم الفلك مثل تحقيق الطبّ الشرعيّ: لا يمكننا إعادة تشغيل الماضي، لذلك يتعيّن علينا دراسة الأدلّة لمعرفة ما حدث. ويحتوي النظام الشمسيّ الخارجيّ على مسرح جريمة ملفت للنظر يحمل لغزاً كبيراً: كيف حصلت البيئة المحيطة بنبتون على قمر مثل ترايتون.
لدى نبتون 14 قمراً معروفاً. باستثناء ترايتون، جميع أقمار نبتون صغيرة جداً، وتأتي في شكلين عامّين: منتظم وغير منتظم. تدور الأقمار المنتظمة بالقرب من الكوكب، أمّا الأقمار غير المنتظمة فهي عموماً أبعد عن نبتون، مع كل أنواع المدارات المجنونة. ثمّ هناك ترايتون.
من اكتشفه؟
اكتشفه التاجر الإنجليزيّ وعالم الفلك الهاوي ويليام لاسيل سنة 1846 بعد 17 يوماً فقط من اكتشاف نبتون نفسه. ولكنّنا لم نلقِ أوّل نظرة عن قرب على ترايتون إلّا في 25 أغسطس (آب) 1989، عندما حلّق مسبار "فوياجر 2" بالقرب منه في المحطة الأخيرة من جولته التاريخيّة الكبرى في النظام الشمسيّ الخارجيّ. على الرغم من أن "فوياجر 2" رسم خريطة لـ40 في المئة فقط من سطح ترايتون، كشفت المهمة عن مدى غرابة قمر نبتون.
سماته
أولاً، ترايتون كبير. إنّه سابع أكبر قمر في النظام الشمسيّ وهو أكبر بأكثر من 200 مرة من جميع أقمار نبتون الأخرى مجتمعة، ممّا يجعله بارزاً حقاً.
ثانياً، تريتون هو أحد الأقمار غير المنتظمة. يدور إلى الخلف بالنسبة لدوران نبتون، ويميل مداره بزاوية مذهلة تبلغ 67 درجة، أي بشكل عموديّ تقريباً بالنسبة إلى كوكبه الأم. على الرغم من عدم انتظامه، مدار ترايتون دائريّ بشكل مدهش، وهو في الواقع أحد المدارات الدائريّة الأكثر مثاليّة من بين جميع الأجسام الموجودة في النظام الشمسي. أما السطح فيبدو مثل الشمام. تتمّ تغطية جزء كبير من خطوط العرض الوسطى لترايتون بمعالم وعرة ومتجعّدة يطلق عليها بشكل مناسب تضاريس الشمام.
يتميّز قسم كبير آخر بسهول واسعة لا ملامح لها تتخلّلها كالديرات (فوهات) ضخمة، في حين يهيمن على الجزء الجنوبيّ غطاء جليدي ضخم من النيتروجين تتخلّله العشرات من البراكين الجليديّة - أي البراكين التي تنفث تيّارات من الماء. ما لا يحتوي عليه سطح ترايتون هو الكثير من الفوهات، ممّا يدلّ على أنه قادر على التشكّل مرّة أخرى ومحوها. وهذه القدرة على التمظهر مرّة أخرى غير شائعة في النظام الشمسيّ، وهي علامة على أنّ القمر لا يزال دافئاً جزئيّاً.
المشتبه بهم الرئيسيّون
قمنا بجمع وقائع التحقيق في مسرح الجريمة: قمر نبتون هذا أكبر بكثير مما ينبغي، وله مدار غريب تماماً وتشكل بطريقة غير تقليدية وله سطح شابّ وديناميكيّ ونشط.
ما القصة وراء هذه الغرائب؟ أفضل إجابة هي أنّ ترايتون ليس مجرد قمر، بل هو ضحية عملية اختطاف بين الكواكب. ربما يكون هذا الجسم في الواقع جسم من حزام كويبر أقرب إلى بلوتو أو إيريس منه إلى أقمار النظام الشمسيّ الأخرى. ربما منذ فترة طويلة، سقط ترايتون في محيط نبتون، فاستحوذت عليه جاذبيّة الكوكب، واضطرّ إلى قضاء مليارات السنين المتبقّية في مدار ضمن موطنه غير المرحِّب به. إمّا أنّ ترايتون لم يحالفه الحظ وكان له مدار خاطئ تماماً ليهبط فيه بالقرب من نبتون، أو أنّه عانى من اصطدام مشؤوم مع أحد أقمار نبتون الأصليّة، وفي هذه العمليّة، فقدَ ما يكفي من الطاقة للبقاء في المدار.
الاحتمال الآخر هو أنّ ترايتون تشكّل في الأصل كنظام ثنائيّ صغير، مثل الكثير من الأجسام الأخرى في حزام كويبر، وأدّت مواجهة قريبة مع نبتون إلى إرسال توأم ترايتون إلى الطيران بعيداً وترك ترايتون نفسه محتجزاً.
يفسّر احتجاز ترايتون مداره الغريب. إذا لم يتشكّل عضويّاً في النظام النبتونيّ فلن يكون لديه أي سبب لمشاركة المستوى المداريّ مع الأقمار العادية. وإذا تمّ احتجازه في وقت مبكر بما فيه الكفاية، فسيتعيّن عليه السباحة عبر الحطام المحيط بنبتون الذي كان لا يزال يتشكّل، وهو ما سيكون كافياً لتشكيل مداره في دائرة مثاليّة تقريباً.
سرّ الدفء
يظل ترايتون دافئاً لأنّه، مثل أجسام حزام كويبر الأخرى، يحتوي على ما يكفي من العناصر المشعّة لإطلاق الحرارة. تعمل هذه الحرارة على تحويل الماء وثاني أكسيد الكربون والجليد النيتروجينيّ إلى طين، مما يبقي السطح شاباً ونشطاً (يشبه إلى حدّ كبير بلوتو الذي يحتوي على حقل جليديّ عملاق ذائب من جليد النيتروجين). في الواقع، قد يكون ترايتون دافئاً جداً لدرجة أنه يحتوي على محيط مائيّ سائل تحت قشرته.
هل سنعرف الجواب في حياتنا؟
لقد مرّ أكثر من جيل منذ آخر لقاء قصير لنا مع ترايتون. تلك الصور التي التقطتها "فوياجر 2" هي الوحيدة المتوفرة لدينا. لسوء الحظ، لم تتخطّ أي تصوّرات لإرسال مهمّة إلى نظام نبتون مرحلة الاقتراح ضمن تمويل "ناسا". وبالنظر إلى اهتمام الوكالة بأقمار كوكب المشتري وزحل (والتي، كي نكون منصفين، هي أيضاً موطن لمحيطات شاسعة من الماء السائل وهي أقرب بكثير من نبتون)، فمن المحتمل ألّا تكون هناك مهمّة متابعة في حياتنا.
ولذا سيتعيّن على مسرح الجريمة هذا الانتظار حتى يتم التحقيق بشكل كامل مع الجيل القادم من المستكشفين.