القصدية
القصدية intentionality تصور فلسفي يصف توجه ونزوع الوعي أو الفكر نحو موضوع ما، والذي بفضله يصبح الموضوع واقعة داخلية أو معطى للوعي، تنعكس فيه ماهيته وجوهره، بهدف الوصول إلى معرفته. والقصدية ليست فكرة جديدة بحال من الأحوال، كما يشير إليها أصل اسمها نفسه، ففي الفلسفة الإغريقية كانت القصدية تشير إلى «قوة الروح العليا»، كما كان العقل عند الرواقيين حاملاً التوجه والاهتمام. أما في الفلسفة المدرسية (العصور الوسطى)[ر] فقد تمت معالجة القصدية في معرض التمييز بين العلوم النفسية والمنطق، فكانت الموضوعات والظواهر النفسية هي مقصودات أولى للفكر، يحصل عليها بالتوجه نحو الموضوع وإدراكه له مباشرة، أما التفكير في هذه المدركات وذلك برجوع الفكر إلى نفسه، فيسمى بالقصد الثاني وهو موضوع علم المنطق، فالقديس توما الأكويني Aquinas يفهم القصدية أداة للإدراك والوعي حيث يصبح الذهن بإمكانياته الباطنة معقولاً بما يطابق الواقع فيتم استيعاب الموضوع في الفكر على مستوى الحس وفي الشق العقلي. ولتفسير انتقال العقل إلى ما هو عام وكلي يضع أوكام Ockham مفهوم القصدية في إشارة منه إلى توجه الفكر والأفعال والرموز المنطقية والسيكولوجية نحو موضوع ما. أما حديثاُ فقد تم استعمال هذا المصطلح عند الألمان مثل فرانتس برنتانو[ر] Brentano وهوسرل[ر] Husserl وكلاهما يرى أن هدف النظرية القصدية وصف وتحليل ارتباط الفكر بموضوع ما؛ للكشف عن ماهية ذلك الموضوع أو الشيء. ولهذا فإن نظرية هوسرل في القصدية تدعى أحياناً «بالموضوعية».
حاول برنتانو في فلسفته أن يدخل القصدية في صلب النشاط النفسي-الذاتي، فقصد بها تركيز الوعي على بعض الظواهر النفسية التي تتمايز نوعيا، بفضل قصديتها، من الظواهر الفيزيائية باعتبارها موجهة إلى شيء ما، أي تكون دائماً وعياً لشيء ما، فإذا قيل عن إنسان إنه قلق فلابد أن يكون هناك شيء ما يرتبط بقلقه. وبحسب برنتانو: لكل ظاهرة نفسية وجهان اثنان: أحدهما التوجه والارتباط بموضوع ما(سواء كان واقعيا أم متخيلاً)، والآخر «إدراك باطني» ينكشف مباشرة، يكون فيه الإدراك هو نفسه الفعل مضمون الإدراك، وتبعاً لعلاقة الوعي الفردي بالموضوع يميز برنتانو ثلاث فئات أساسية من الظواهر النفسية: التصور وفيه يظهر الموضوع حاضرا أمام العقل، والحكم فيه يقبل الموضوع على أنه واقع أو تقرير للواقع ويحكم عليه بالرفض إذا كان غير ذلك، والإدراك والنزوع (ويرتبطان بالرغبة والكراهية) وهما دائماً بعلاقة مع موضوع ما. وإذا كان برنتانو في كتابه «علم النفس من وجهة نظر تجريبية» قد فسر القصدية «بالانكشاف المباشر» لوجود الموضوع في النفس، فإنه في أعماله المتأخرة يسلم بأن قصدية الظاهرة النفسية ليست متصلة فقط بالعقل كموضوع له وجود واقعي، بل وترتبط أيضا«بالعلاقة» التي لاتستتبع عادة وجوده على النحو السابق. أما هوسرل فيعطي للقصدية معنى فينومينولوجي (ظاهراتي)[ر] فالوعي أو الشعور عنده يتجه دوماً إلى موضوع آخر خارجه، فالشعور يقصد موضوعه الذي يغايره في كل لحظة من لحظاته، وبه ميل تلقائي يحيله إلى هذا الموضوع الذي يوجد في حالة «معية». ويعني هوسرل بالقصدية العلاقة الثابتة في ارتباط أفعال الوعي مع الموضوع المعني، والموضوع كما يظهر في الوعي،الموضوع القصدي هو حصيلة تركيب أفعال الوعي في وحدة الوعي بالموضوع، وليس هو الموضوع المستقل واقعياً، أي هو الموضوع الذي تم استيعابه قصدياً فاكتسب وجوداً و«معنى»، وذلك بالنظر إلى تلك الفاعلية التي يمارسها الذهن في التوجه إلى الموضوع للإحاطة به. ولإدراك الموضوع بوصفه ظاهرة قصدية لابد عند هوسرل من الارتقاء بالموقف الطبيعي إزاء العالم إلى الموقف الفينومينولوجي، وهو ما يعرف لديه «بالرد الظاهراتي». في الموقف الطبيعي نصدر أحكاماً على الأشياء كما هي في ذاتها، لكن في الموقف الظاهراتي يضع هوسرل «العالم بين قوسين» وفيه نمتنع عن إصدار أي حكم على الوجود، مما يجعل تأمل الوعي المحض من دون أحكام مسبقة أمراً ممكناً، أي تأمل ما هو معطى للشعور كظاهرة قصدية يرتبط فيها الاتجاه الباطني أو القصد الشعوري بالموضوع المقصود، ويستعين هوسرل بمفهوم «التوقف» Epoch للتعبير عن القصدية الظاهراتية للوعي، وفيه يلغي افتراض ذات حقيقية وموضوع حقيقي لكي يستبقي القصدية بموقعها بين هذين القطبين. وبتطبيق مبدأ القصد إلى الموضوع والشعور بوجود الموضوع توصّل الوجوديون إلى القول بوجود العالم ووجود الذات. هيدغر[ر] Heidegger مثلاً يستعير مفهوم «الإحالة» من أستاذه هوسرل ليؤكد أن وجود الإنسان يحيلنا دائماً إلى العالم، وهذه الإحالة تجعل من العالم معطى من معطيات الخبرة المباشرة التي يحياها الإنسان في صميم خبرته الواعية، كما تجعل من الوجود الإنساني «وجوداً في قلب العالم» فهناك ثمة تركيب في الوجود يشير إلى أساس مطلق للعالم يكمن فيه الأساس المشترك لكينونة العالم وكينونة الإنسان. والقصدية تصدق على مجالات الشعور كافة، فهي تطال الجوانب الانفعالية أو العاطفية؛ فالمشاعر التي أحسها نحو شخص ما كالحب والكراهية لست أنا من خَلَق هذا الشعور، بل إن الشعور له موضوع يقصده يتعدى مجرد عاطفتي الذاتية ويجعله مستقلاً عني على نحو ما، وهذه الموضوعات القصدية للوجدان عدها ماكس شيلر[ر] Max Scheler «العنصر الأولي في الحياة الانفعالية» وهي القيم. ويرتبط اليوم مفهوم القصد في بعض الدراسات السلوكية المعاصرة بالأفعال الإرادية من حيث النية والهدف منها.
سوسان إلياس
القصدية intentionality تصور فلسفي يصف توجه ونزوع الوعي أو الفكر نحو موضوع ما، والذي بفضله يصبح الموضوع واقعة داخلية أو معطى للوعي، تنعكس فيه ماهيته وجوهره، بهدف الوصول إلى معرفته. والقصدية ليست فكرة جديدة بحال من الأحوال، كما يشير إليها أصل اسمها نفسه، ففي الفلسفة الإغريقية كانت القصدية تشير إلى «قوة الروح العليا»، كما كان العقل عند الرواقيين حاملاً التوجه والاهتمام. أما في الفلسفة المدرسية (العصور الوسطى)[ر] فقد تمت معالجة القصدية في معرض التمييز بين العلوم النفسية والمنطق، فكانت الموضوعات والظواهر النفسية هي مقصودات أولى للفكر، يحصل عليها بالتوجه نحو الموضوع وإدراكه له مباشرة، أما التفكير في هذه المدركات وذلك برجوع الفكر إلى نفسه، فيسمى بالقصد الثاني وهو موضوع علم المنطق، فالقديس توما الأكويني Aquinas يفهم القصدية أداة للإدراك والوعي حيث يصبح الذهن بإمكانياته الباطنة معقولاً بما يطابق الواقع فيتم استيعاب الموضوع في الفكر على مستوى الحس وفي الشق العقلي. ولتفسير انتقال العقل إلى ما هو عام وكلي يضع أوكام Ockham مفهوم القصدية في إشارة منه إلى توجه الفكر والأفعال والرموز المنطقية والسيكولوجية نحو موضوع ما. أما حديثاُ فقد تم استعمال هذا المصطلح عند الألمان مثل فرانتس برنتانو[ر] Brentano وهوسرل[ر] Husserl وكلاهما يرى أن هدف النظرية القصدية وصف وتحليل ارتباط الفكر بموضوع ما؛ للكشف عن ماهية ذلك الموضوع أو الشيء. ولهذا فإن نظرية هوسرل في القصدية تدعى أحياناً «بالموضوعية».
حاول برنتانو في فلسفته أن يدخل القصدية في صلب النشاط النفسي-الذاتي، فقصد بها تركيز الوعي على بعض الظواهر النفسية التي تتمايز نوعيا، بفضل قصديتها، من الظواهر الفيزيائية باعتبارها موجهة إلى شيء ما، أي تكون دائماً وعياً لشيء ما، فإذا قيل عن إنسان إنه قلق فلابد أن يكون هناك شيء ما يرتبط بقلقه. وبحسب برنتانو: لكل ظاهرة نفسية وجهان اثنان: أحدهما التوجه والارتباط بموضوع ما(سواء كان واقعيا أم متخيلاً)، والآخر «إدراك باطني» ينكشف مباشرة، يكون فيه الإدراك هو نفسه الفعل مضمون الإدراك، وتبعاً لعلاقة الوعي الفردي بالموضوع يميز برنتانو ثلاث فئات أساسية من الظواهر النفسية: التصور وفيه يظهر الموضوع حاضرا أمام العقل، والحكم فيه يقبل الموضوع على أنه واقع أو تقرير للواقع ويحكم عليه بالرفض إذا كان غير ذلك، والإدراك والنزوع (ويرتبطان بالرغبة والكراهية) وهما دائماً بعلاقة مع موضوع ما. وإذا كان برنتانو في كتابه «علم النفس من وجهة نظر تجريبية» قد فسر القصدية «بالانكشاف المباشر» لوجود الموضوع في النفس، فإنه في أعماله المتأخرة يسلم بأن قصدية الظاهرة النفسية ليست متصلة فقط بالعقل كموضوع له وجود واقعي، بل وترتبط أيضا«بالعلاقة» التي لاتستتبع عادة وجوده على النحو السابق. أما هوسرل فيعطي للقصدية معنى فينومينولوجي (ظاهراتي)[ر] فالوعي أو الشعور عنده يتجه دوماً إلى موضوع آخر خارجه، فالشعور يقصد موضوعه الذي يغايره في كل لحظة من لحظاته، وبه ميل تلقائي يحيله إلى هذا الموضوع الذي يوجد في حالة «معية». ويعني هوسرل بالقصدية العلاقة الثابتة في ارتباط أفعال الوعي مع الموضوع المعني، والموضوع كما يظهر في الوعي،الموضوع القصدي هو حصيلة تركيب أفعال الوعي في وحدة الوعي بالموضوع، وليس هو الموضوع المستقل واقعياً، أي هو الموضوع الذي تم استيعابه قصدياً فاكتسب وجوداً و«معنى»، وذلك بالنظر إلى تلك الفاعلية التي يمارسها الذهن في التوجه إلى الموضوع للإحاطة به. ولإدراك الموضوع بوصفه ظاهرة قصدية لابد عند هوسرل من الارتقاء بالموقف الطبيعي إزاء العالم إلى الموقف الفينومينولوجي، وهو ما يعرف لديه «بالرد الظاهراتي». في الموقف الطبيعي نصدر أحكاماً على الأشياء كما هي في ذاتها، لكن في الموقف الظاهراتي يضع هوسرل «العالم بين قوسين» وفيه نمتنع عن إصدار أي حكم على الوجود، مما يجعل تأمل الوعي المحض من دون أحكام مسبقة أمراً ممكناً، أي تأمل ما هو معطى للشعور كظاهرة قصدية يرتبط فيها الاتجاه الباطني أو القصد الشعوري بالموضوع المقصود، ويستعين هوسرل بمفهوم «التوقف» Epoch للتعبير عن القصدية الظاهراتية للوعي، وفيه يلغي افتراض ذات حقيقية وموضوع حقيقي لكي يستبقي القصدية بموقعها بين هذين القطبين. وبتطبيق مبدأ القصد إلى الموضوع والشعور بوجود الموضوع توصّل الوجوديون إلى القول بوجود العالم ووجود الذات. هيدغر[ر] Heidegger مثلاً يستعير مفهوم «الإحالة» من أستاذه هوسرل ليؤكد أن وجود الإنسان يحيلنا دائماً إلى العالم، وهذه الإحالة تجعل من العالم معطى من معطيات الخبرة المباشرة التي يحياها الإنسان في صميم خبرته الواعية، كما تجعل من الوجود الإنساني «وجوداً في قلب العالم» فهناك ثمة تركيب في الوجود يشير إلى أساس مطلق للعالم يكمن فيه الأساس المشترك لكينونة العالم وكينونة الإنسان. والقصدية تصدق على مجالات الشعور كافة، فهي تطال الجوانب الانفعالية أو العاطفية؛ فالمشاعر التي أحسها نحو شخص ما كالحب والكراهية لست أنا من خَلَق هذا الشعور، بل إن الشعور له موضوع يقصده يتعدى مجرد عاطفتي الذاتية ويجعله مستقلاً عني على نحو ما، وهذه الموضوعات القصدية للوجدان عدها ماكس شيلر[ر] Max Scheler «العنصر الأولي في الحياة الانفعالية» وهي القيم. ويرتبط اليوم مفهوم القصد في بعض الدراسات السلوكية المعاصرة بالأفعال الإرادية من حيث النية والهدف منها.
سوسان إلياس