“قبل أن ننسى”: معالجة واقعية وطرح رَّمزي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • “قبل أن ننسى”: معالجة واقعية وطرح رَّمزي


    “قبل أن ننسى”: معالجة واقعية وطرح رَّمزي


    4 July، 2023

    إعداد أحمد القاسمي

    تعيش السينما السعودية بشائر نهضة شاملة، مستفيدة من الانفتاح الذي تشهده المملكة اليوم، وتظهر موجة من الأفلام تطرح قضايا واقعها بجرأة، وتحاول أن تكسر الصورة النمطية التي كرّسها الإعلام طويلًا للمجتمع، فيصوره محافظًا متوازنًا بعيدًا عن الأزمات القيمية أو الاقتصادية، وما الفنّ إن لم يكن حفرًا في القشرة الخارجية المنتظمة، ليكشف ما يكمن تحتها من القلق والفوضى والارتباك؟ و”قبل أن ننسى”، الفيلم الذي أخرجه الإماراتي نواف الجناحي، نموذج جيّد لهذه الموجة من الأفلام المنتجة حديثا، والتي تنقد الواقع بشجاعة وجرأة، وتحاول أن تشكل هوية السينما السعودية، بتوفيق يختلف تقديره من تجربة إلى أخرى.

    الذاكرة والكنز



    لا يحسن الدكتور محمد المختص بطب العظام التصرّف في ممتلكاته، ويفقد توازنه المالي والأسري، فتهجره زوجته، ولا يكاد المركز الطبي الذي أنشأه حديثًا يستقطب المرضى، رغم ما كلّفه من ثروة، أما المزرعة فقد باتت مقفرة، بعد أن عجز عن دفع أجور عمّالها، والأدهى أنّ صديق العمر ذياب يهدّده بصرف الصكوك الخالية من الرصيد، ولم يبق له إلاّ أن يلتمس من والده بيع المنزل ليتخطى أزمته التي تهدده بالسجن، ويرفض الأب إسماعيل الفكرة كليّا، ففي أركانه تؤنسه ذكرى زوجته الراحلة، وتملأ فراغ حياته، وبالمقابل يخبره بأنه أخفى زمانًا كنزًا في أرض المزرعة؛ لعدم ثقته آنذاك بالبنوك، وما عليه إلاّ أن يبحث عنه لحلِّ مشاكله، وكيف لمحمّد أن يحمل كلام والده محمل الجِدّ؟. وهو يدرك أنه يعاني من اضطرابات في الذّاكرة، ويراه يسير بجلاء نحو مراحل متقدمة من الزهايمر، وهذا المرض، كما تقدّمه الموسوعات العلمية، اضطراب عصبي يصيب من تقدّم في السّن خاصّة، فيؤدي إلى تقلص الدماغ وموت خلاياه، وتصاب الذاكرة بتلف لا يفتأ يتفاقم مما يضعف استقلالية، ليتدرج شيئًا فشيئًا نحو التدهور، سواء على المستوى السلوكي والاجتماعي، أو على مستوى القدرة الذهنية والتفكير السليم، وهو ما يصطلح عليه بالاختلال المعرفي المعتدل (fMCI).

    ولكن اليأس يجعل الواقع في البئر يمسك بخيوط العنكبوت طلبا للنجاة، لا بدَّ إذن أن يأخذ والده إلى المزرعة؛ ليشرف بنفسه على عملية الحفر، قبل أن تنطفئ شاشة ذاكرته كليَّا، و”قبل أن ينسى..” رغم أنّ المعلومات التي يذكرها غير دقيقة، فهو يؤكد أنّ الكنز مدفون تحت شجرة الغاف، ولا وجود لمثل هذه الشجرة في المزرعة أصلًا.

    مادة ثرية



    لا بدَّ أن نسلّم للفيلم بفضيلة أولى، على الأقل هي طرافة القصة، فرغم أنّ المواضيع مبذولة أمام المبدعين، وأن الفضل يعود إلى كيفية معالجتها، فإن مرض الزهايمر يظل يحتفظ بحساسيته الخاصّة، فوجه المأساة فيه فصله للمريض عن ذاته، وجعله غريبًا عنها منبتًا عن وعيها، وعن بيئتها وتجاربها الماضية، حتى كأنّ الجسد يقتلع من روحه، دون أن يسكن منه نبض الحياة، ولغموضه من جهة أسبابه وسبل علاجه، لا يتركنا محايدين إزاءه، فينتابنا الإحساس بأننا ضحاياه المفترضون يومًا، والألم الذي يحدثه مزدوج: ألم الجسد المنتزع من روحه ومن هويته وكيانه، وألم المحيط العائلي الذي تعييه رعاية المريض، ففقدان عزيز علينا لذاكرته وتصرُّفه بغرابة يربكنا بشدة، ونحن نرى من كان طوقًا شامخًا يتهاوى بفعل الزّمن، ويصبح فاقدًا لاستقلاليته، مستطيعًا برعايتنا، محتاجًا إلى مرافقتنا الدائمة، وكثيرًا ما تتحوّل هذه الرعاية إلى عبء يعطل مسار حياتنا، ويربك برامجنا ويستهلك صبرنا، ولأنّ الكبير موقّر في مجتمعاتنا، ولأنّ قيمنا تمنعنا من أن نقول له أفٍّ أو أن ننهره، فنقع في الحرج الأخلاقي.

    تؤهِّل هذه العناصر جميعًا الموضوع ليكون مادة سينمائية ثرية، غير مستهلكة بعد، تأخذنا إلى عمق ذواتنا وراء القشرة الخارجية الخادعة، فتظهر أنانيتنا ونفاد صبرنا وجحودنا، وتبرمنا ممن تحمّلنا طويلًا وبذل لنا حياته بصبر، ولكن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي، فزمن المواضيع النبيلة قد ولَّى وانقضى، وقيمة الفيلم تنشأ من حسن المعالجة الدرامية للمواضيع أساسًا.

    بناء الشخصيات



    لا بدَّ لكاتب السيناريو أن يعرف شخصياته جيدًا وهو يشكّلها، فيجعلها تدرك حاجاتها، وتعمل على تحقيقها بما يلائم قدراتها من الوسائل، وما يحقّق الانسجام الضروري بين بنائها النفسي ومحيطها الثقافي والأسري والاجتماعي.

    وانطلاقا من هذه المعرفة يضع لها العقبات التي يتعيّن عليها أن تتخطّاها.. فإلى أي حدّ كانت شخصيات الفيلم تدرك أهدافها، وتختار ما يناسبها من الحلول؟ يحاول محمد أن يستعيد توازنه الأسري، ولكنّ سوء تقديره يغضب خطيبته، ويعقد علاقته معها بدل إرضائها.

    ويسعى إلى استرجاع توازنه المالي، فيكفُّ أذى صديقه ذياب، ولكنه يندفع نحو المزيد من الإفلاس، وهذا ما يخلق تنافرًا كبيرًا بين طبيعة الشخصيّة التي تعاني من الغفلة وفقدان الإحساس بالمسؤولية، ودورها ومنزلتها الاجتماعين، فالرجل حائز على أعلى الشهادات العلمية، وممارسته لطبِّ الاختصاص تقتضي ضمنيًّا قدرًا هائلًا من الفطنة وسرعة البديهة، ويشعر ابنه عمر بخيبة أمل من والده، فيتمرد عليه، ولكنه يعيد إنتاج أخطائه نفسها، فلا يرى في والده غير ممول لمشاريعه، وتتعقَّد علاقته بخطيبته للأسباب نفسها التي فرَّقت بين والده وخطيبته.

    ورغم أنّ كلّ ما في الفيلم يفرض الانتباه إلى عمق الشخصية النفسي، ويحرّك الوجدان، ويثير الحالة الروحية، من والد يغرق شيئًا فشيئًا في غياهب النسيان، إلى عائلة ممزقة تعصف الخلافات باستقرارها، إلى إفلاس، إلى خطر فقدان الحرية، إلى خيانة الصديق وابتزازه، لم يكن يعبأ كثيرًا بتصوير شخصياته في عمقها الباطني والروحي، فجاءت الشخصيات مسطحة، تعيش معاناتها بطريقة ميكانيكية، خالية من النبض الإنساني والعمق النّفسي، عاجزة، فاقدة للأدوات التي تساعدها في تحقيق أهدافها، وتخطّي ما يعترضها من العقبات.

    لذلك كان على الفيلم أن يقلب المعادلة بحثًا عن النهاية السحرية التي تغمر الجميع بالسعادة، وتعيد الود بين مختلف أفراد العائلة، فيصبح الجدُّ المصاب بالزهايمر، والشاردُ الذهن، اللامبالي الذي يغرق في النسيان الفاعلَ الأساسي، والدافعَ بالأحداث والمانحَ للحلول، فيتذكر فجأة موضع الأموال، ويدل عليه ابنه، وعندما يستولي عليها ذياب، معولًا على قدرات خارقة مفاجئة، يفتح محفظته التي تلازمه، ويناول ابنه مالًا ليخلصه من ورطته، ويحفظ المنزل من البيع، فنكتشف فيه، على خلاف ما حُدد في مسار الأحداث، وعلى نقيض وضع المصاب بالزهايمر، رجلًا يعي الوعي الحادَّ بكل ما يحيط به، ويقدر على التركيز، وعلى التفكير المنطقي السليم، فيدرك جيدًا أنه يسير نحو الهاوية، وأنه سيخلّف وراءه ابنًا رخوًا لم يخبر الحياة ومصاعبها كفاية.

    فيعمل، بموجب هذا الإدراك، على وضعه أمام اختبارات صعبة، وعلى تلقينه الدرس الأخير حتى ينقذه من السجن، وينقذ حفيده من زيجة غير متوازنة، ويصون الأسرة من التفكُّك.

    لقد جاءت الشخصيات متكلّفة، واقعة تحت تأثير سعي الفيلم إلى حشد التعاطف مع الأب إسماعيل، وعمله على انتزاع إعجاب المتفرّج به، فكانت تستجيب لحاجات الفيلم الدرامية، أكثر مما تتصرف من منطلق بنائها النفسي والذهني وحاجاتها المادية.
    ورغم أنّ كلّ ما في الفيلم يفرض الانتباه إلى عمق الشخصية النفسي، ويحرّك الوجدان، ويثير الحالة الروحية، إلا أنه لم يعبأ بتصوير شخصياته في عمقها الباطني والروحي.

    صراع مفتعل

    اختار الفيلم التعاطي مع المرحلة الأولى من مراحل مرض الزهايمر، تلك التي توسم بالخرف الطفيف أو المعتدل، ووزّع معالجته للصّراع على محورين، فمدار الصراع في نطاق الأسرة دار بين الجد والأب، أو بين الابن والحفيد، وكان المال موضوعه، فكأن الفرع لا يرى في الأصل غير مموّل يغدق العطاء، دون أن يحاسب نفسه أو يلومها على تواكلها، أو يحملها مسؤولية الفشل، فيطلب الأب من الجد أن يبيع المنزل، غير عابئ بمخاطر اجتثاثه من محيطه الذي يحفظ عليه بقايا ذاكرته الهشة المهددة بالاندثار، فما يشده إليه هو ذكرى زوجته الراحلة، والابن عمر يجد والده مقصرًا، فلا يتفهم وضعيته المالية المتعثرة، ويطلب مبلغًا كبيرًا لتحويل ملكية محل قطع الغيار الذي يعمل به، فتُجرّد العلاقة الأسرية من كل روابطها الوجدانية والروحية، ويتعامل الولد مع والده بصلف وغلظة، فتُكسر الهرمية التي تحكم المجتمعات العربية، ويُعصف بقيمة توقير الكبير وتبجيله.

    أما الصراع في نطاق المجتمع، فيكشف اختفاء قيمة التآزر، وفقدان قيمة الصداقة لمعناها، فتتحول المساعدة التي يقدّمها صديق الطفولة ذياب إلى محمد لتهيئة مركزه الطبي، إلى عنصر ابتزاز، ليفرض عليه تسوية غير عادلة، مهددًا بما يحوزه من صكوك خالية من الرصيد، ثم لما تسعف الذاكرة الجدَّ، ويدل ابنه على مكان الكنز نكتشف أنه كان يتعقّبه، فيظهر في اللحظة الحاسمة، ليستولي على كامل المال بقوة السلاح.

    يُعتمد الصراع في السينما للدفع بالأحداث، ومنحها حيوية وإيقاعًا وتشويقًا، فمن خلال تحديد أهداف الشخصيات ومعرفة عمقها النفسي تُخلق العقبات، ولكن رغم ما وسم هذا الصراع في فيلم “قبل أن ننسى” من العنف، جاء مفتعلًا ومسقطًا على مسار القصِّ، يدفعه دفعًا إلى نهايات تخدم فكرة الكاتب، ونزعته النقدية تجاه الأسرة والمجتمع، ولا ينبع من رحم الأحداث تلقائيًّا.
    رغم ما وسم الصراع من عنف، إلا أنه جاء مفتعلًا ومسقطًا على مسار القصّ، يدفعه دفعًا إلى نهايات تخدم فكرة الكاتب، ونزعته النقدية تجاه الأسرة والمجتمع.

    متعدد الأبعاد



    يبدو الفيلم اقتباسًا حرًّا يُخرج القصة التربوية الموجهة إلى الأطفال “العملُ كنزٌ” إخراجًا جديدًا، ومدارها على رجلٍ تدنو منه المنيّة، فيذكر لأبنائه أنّ في بستانهم كنزًا عظيمًا، يتعيّن عليهم إخراجه، وبعد موته ينصرف الأبناء إلى الحفر، وبعد أن يفنوا شهورًا في تقليب الأرض دون جدوى ينتبه أحدهم إلى المغزى من الحكاية، وإلى بعدها الرّمزي، فوالدهم قصد بالكنز الأرضَ نفسها، وكان يدعوهم بطريقته الملغزة إلى إصلاح تربتها، ليحسن الزّرع، ويزداد المحصول.

    ولكن سيناريو “قبل أن ننسى” اختار أن يقلب النهاية، وأن يجعل الكنز حقيقيًّا، وأن يجعل الأب من يدلّ ابنه عليه، رغم تهالك ذاكرته، وكان يستهدف منح الحكاية بعدًا رمزيًّا يتفاعل مع أزمتنا الحضارية الرّاهنة، فعلى خلاف صورة الأب في الثقافة الغربية المستندة إلى المقولات التحليلية النفسية، والتي تراه مستأثرًا باللذة دون الأبناء، وتتحدث عن ضرورة قتله رمزيًّا، ظل الأب يرمز إلى الماضي في الثقافة العربية الإسلامية، ويشير إلى مأساة العربي المسلم، ظلَّ ممزّقًا بين أحد الحلين: أن يتخلص من الأب (الماضي) وهو يولي وجهه إلى حداثة الغرب، ولكن كيف سيواجه الحاضر والمستقبل وهو أعزل بلا دليل؟ أو أن يقطع مع هذا الغربي فيتمسك بجلباب أبيه، ويعيش سلفية تشيح بوجهها عن العصر وحاجاته.

    ضمن هذا الأفق يتخلّى الابن والحفيد، كلاهما عن الأب (الماضي)، فيفشلان الفشل الذريع عائليًّا واجتماعيًّا ومهنيًّا، وكان لا بدَّ أن يتدخَّل هذا الماضي ليمنح الحاضر دعامة مواجهة المستقبل، وتمثل النهاية إجابة عن هذه الإشكالية الحضارية: فلن تخصب الأرض، ولن يقوّم اعوجاج الراهن في ظلِّ قطيعة مفاجئة مع الماضي.. ولكن مع ذلك لا بدَّ لهذا الانفصال أن يحدث، ولا بدّ لنا أن نستخلص الدروس العميقة “قبل أن ننسى”.

    فالفيلم متعدد الأبعاد، ففي المستوى الأول هو دراما اجتماعية، تطرح قضايا الواقع السعودي اليوم، كالعلاقة بين الأجيال ومرض الزهايمر، وفي العمق هو فيلم رمزي ذهني، يبحث في صلة الراهن بالإرث الحضاري والثقافي والمملكة تفتح نوافذها على الحداثة، وتقطع مع سياسة الانغلاق.
    “قبل أن ننسى” عمل متعدد الأبعاد، ففي المستوى الأول هو دراما اجتماعية تطرح قضايا الواقع السعودي، وفي العمق هو فيلم رمزي ذهني، يبحث في صلة الراهن بالإرث الحضاري والثقافي.
يعمل...
X