فضاء النقد
السَّرْدُ والنَّقد الاجتماعي:
قراءة في المجموعة القصصية
"مدن تأكل نفسها" للكاتب شريف صالح
د. إبراهيم منصور / مصر
الكاتب د. شريف صالح أديب متمكن من أدواته، له قدرة على كتابة النقد الأدبي والنقد الفني، وكتابة الإبداع السردي (رواية وقصة قصيرة) كما أنه قد حقق نجاحا كبيرا على موقع التواصل الاجتماعي (Facebook) حيث يكتب عن خبراته الشخصية من الريف والمدينة، كما يكتب عن اختياراته الغنائية والموسيقية والسينمائية، وتحوز منشوراته الغزيرة إعجاب وتفاعل أصدقائه وهم بضعة آلاف.
يلاحظ أن "شريف صالح" يميل في عناوين كتبه إلى صياغة "العنوان المزدوج" فمثلا قصته "أينشتين" لها عنوان فرعي هو "أسرار القطعة ٩٩" وروايته الصادرة مؤخرا في عمّان عنوانها مزدوج "ابتسامة بوذا.. ناديت باسمك في الماء" أما هذه المجموعة القصصية فهي ذات عنوان مزدوج أيضا.
*****
إن قارئ المجموعة القصصية "مدن تأكل نفسها.. مع المفاتيح والأبواب" (منشورات بتانة ٢٠١٨) لابد له من ملاحظة مسألة العنوان المزدوج عند الكاتب، وفي حالة هذه القصص خاصة، فإن العنوان الفرعي "مع المفاتيح والأبواب" قد ورّط الكاتب في عبارات أضافها في صدر كل قصة من قصص المجموعة وعددها ١١ قصة، لم أفهم لتلك العبارات موضعا ولا وظيفة ولا تأثيرا في القصص، وربما شاء الكاتب أن يجري لونا من التجريب في كتابة القصة القصيرة، لكن أثر هذا التجريب لم يلفت نظري لصالح العمل. ولذلك فإني أرى أن العنوان المختصر أفضل من الطويل.
أما قصة "مملكة الضحك" وهي القصة الأولى في المجموعة، فإن بلاغة السرد فيها مبنية على لون الأليجورياAllegory، أي القصة الرمزية، بمعنى أن القصة ذات طابع خيالي، لكنها ترمي إلى لون من النقد الاجتماعي غير المباشر، كما في فيلم "عادل إمام" من إخراج شريف عرفة "النوم في العسل (١٩٩٦)" مثلا. يزعجني في القصة كلمات مثل: الجميع، النساء، الكبار، أي مواطن، منسق المجموعة، فهذه الشخصيات بلا ملامح، وهذا هو مأزق هذا النوع من القصص، ثم تبدو القصة في النهاية كأنها تقرير صحفي يحاول كاتبه ألا يذكر واحدا من مصادره -أبطال القصة- بالاسم حتى لا يتعرض للمسألة القانونية.
*****
أما قصة "مَصْمَت الشيخ مسعد فتّة" فإن القصة تلخص من خلال السرد، قصة التحول الاقتصادي والاجتماعي الذي أصاب مدينة الاسكندرية، حيث يتتبع السرد مآلات واحد من المنشئات التجارية (كازينو بستروديس Pastroudis) وهو اسم مقهى حقيقي، كان يقدم خدمة الطعام والشراب والمُتع المصاحبة لهما، على مدى سنوات طويلة، حيث أنشأه الجد، وامتلكه الابن، ثم خسره الحفيد في النهاية.
تتبنى القصة رواية استشراقية حول مدينة الاسكندرية، فهناك اسكندرية "كفافيس" (الشاعر السكندري اليوناني) و"لورانس داريل" (الكاتب البريطاني) صاحب رواية "رباعية الاسكندرية" وهنا تبدو الاسكندرية اسكندريتان، إحداهما عربية مليئة بالروائح الكريهة، والطعم المنفّر، والثانية بريطانية يونانية، بل عالمية، أو كما تعرف في الأدبيات المعاصرة "الاسكندرية الكوزموبوليتانية" وهذه رائحتها ذكية، وطعومها لذيذة محببة ومرغوبة.
إن القصة تفعل ذلك، وهي تفعله بحسن نية لا شك فيه، أما المؤرخ المصري "خالد فهمي" فقد نبّهنا في مقال له بعنوان "روح الاسكندرية وروائحها" إلى تلك النظرة الاستعلائية التي صور بها "داريل" أهل الاسكندرية، ولاحظ فهمي أن كاتبا آخر هو "إدوار الخراط" (١٩٢٦- ٢٠١٥) الذي امتاز بملاحظة الروائح والطعوم جيدا في قصصه، وقد صور روائح الاسكندرية وطعومها على نحو إيجابي مغاير، فبدت روائح اسكندرية وطعومها ذكية كلها لا فرق بين ما كان منها يونانيا وما كان مصريا خالصا. وللأسف فإن الروائح والطعوم المنفرة في قصة "مصمت الشيخ مسعد فتة" كانت من نصيب المصريين، بينما ظلت الروائح والطعوم الذكية من نصيب اليوناني الذي هو رمز الأوربي أو الكوزموبوليتاني، حينما حل المصمت المصري محل الكازينو الأوربي.
في قصة "مصمت الشيخ مسعد فتة" لا نرى فقط هذا التحيز للطعوم والروائح الأوربية، بل نرى تعدد الشخصيات في القصة (٨ شخصيات) كما امتد زمن القصة لعدة أجيال، أكثر من نصف قرن، وهو زمن طويل لا تستطيع القصة معالجته في بضع صفحات على النحو المطلوب في عمل فني مركّز من نوع القصة القصيرة.
*****
أما قصة "بلد أم الولي" فهي قصة امتلأت بالعناوين الداخلية (عشرة عناوين) وبين العنوانين الأول "بوتيك لاروج" والثاني "كومباوند سان ريمو" لجأ الكاتب إلى الاختصار، والتلخيص في السرد، لكن هذه الرواية التي كُتبتْ على هيئة قصة قصيرة، تذكرنا بالمعالجة الروائية لدى الكاتب "يوسف أبو رية"(١٩٥٤- ٢٠٠٦) فهو عالم قصصي يدور في محيط البلدات الريفية الكبيرة، أو المدن الريفية، وما يمور فيها من تطور يقع في البنية الاجتماعية والثقافية، متزامنا مع تحوّر البنية المادية الاقتصادية، بدأ مع زمن "الانفتاح الاقتصادي" الذي أصبح سياسة معتمدة لا تراجع عنها في بلدنا.
وفي هذه القصة يقوم الرواي بعدة أدوار، فهو يروي الأحداث أو أغلب الأحداث، وهو كذلك يشارك في صنع تلك الأحداث، فالراوي أحد الفاعلين في القصة وليس راويا محايدا.
كما يلفت النظر في قصة "بلد أم الولي" أن أشجار "البونسيانا" تزهر في فصل الشتاء، فهل هذا صحيح؟ كما يلفت النظر أن الكمباوند في القصة كما لو كان "كشك سجاير" فليس له من صفات الكومباوند إلا الاسم، ثم إننا لا نعرف أن تلك القرى أو المدن الريفية ينشأ بها كومباوندات، مهما تطورت اقتصاديا، فهي لا تملك البنية الأساسية لكي ينشأ فيها أو حتى بجوارها هذا النمط الفاخر من الإسكان المرتبط بالأجيال الحديثة جدا من المدن، وبالمصايف، والأماكن ذات البعد السياحي، والثراء الفاحش. لقد نجح الكاتب في تصوير الغموض المحيط بشخصية المرأة بطلة القصة "أم لولي" وعلاقاتها المتشابكة مع كل من له نفوذ في البلدة ومحيطها.
أما المعضلة التي تقع فيها القصة أننا نخرج من نطاق الواقعية إلى لون من الفنتازيا، دون أن نرى في البناء القصصي أية علامة على هذا النمط من البناء الفني للقصص.
*****
أما قصة "العيش في الأغاني" فهي تمسك بلحظة في حياة شاب يحب الأغاني الحديثة، والموسيقى الصاخبة، موسيقى الميتال، هي لحظة القبض عليه وسجنه، بسبب ارتباط هواة تلك الموسيقى بما يسمى "عبَدَةُ الشيطان" وبطل القصة متهم فعلا بهذه التهمة، وحين قبض عليه وأودع السجن عانى معاناة نفسية مؤلمة، ثم خرج من السجن، وقد نال أهلَه رذاذُ التهمة المشينة، فألزموه بالبعد عن الأغاني والموسيقى، وآلمه أكثر أن زملاءه في الفن وفي السجن قد هاجروا جميعا فغادروا إلى أوربا، لكن الشاب المهووس بموسيقى الميتال، لم يتُبْ عن الموسيقى، لأنه كان عاشقا متيما بها. القصة جيدة جدا لأنها أمسكت باللحظة النفسية الصالحة لسرد مكتنز في نوع القصة القصيرة، وللأسف فإن الكاتب لم يصمت حين كان ينبغي أن يتوقف، بل استمر في السرد حتى ترهلت القصة، وكان الصواب أن ينهيها عند الصفحة ٧٤ بينما امتد السرد حتى الصفحة ٨٠.
*****
نلاحظ أيضا أن الكاتب لجأ في أغلب قصص مجموعة "مدن تأكل نفسها" إلى وضع عناوين
داخلية كما في قصة "عيد جميع المخلصين" وقصة "ما رواه ابن المقفع" ولعل الكاتب استشعر الحاجة إلى هذا التقسيم ليتمكن من الانتقالات السردية زمانيا ومكانيا، لكن المعتاد أن يلجأ كاتب القصة القصيرة إلى فواصل طباعية وليس عناوين داخلية تفسد العمل ولا تفيده.
إننا يجب أن نقدر للكاتب "شريف صالح" امتلاكه لناصية اللغة، فهو دارس لها عارف بأسرارها. كما نقدر امتلاكه العين اللاقطة، التي رصدت التغير الاجتماعي في ريف مصر وحضرها على السواء. وأخيرا فإن أهم ما خرجتُ به حين قرأت المجموعة القصصية "مدن تأكل نفسها" أني أرى كاتبها صاحب نَفَس روائي، وبما أنه قد ولد ونشأ في الريف، فليته يستثمر هذا الجهد في كتابة الرواية لكي يعطينا مزيدا من الإنتاج الروائي، يضيف به إلى تراث الرواية الريفية المصرية والعربية.