انفجارات أشعة جاما عالية الشدة والكثافة من الضوء، هي أكثر الأحداث توهجًا يُمكنك رؤيتها في الكون بالرغم من استمرارها لمدة ثوانٍ أو دقائق معدودة، بعضها يكون مُضيئًا متوهجًا فيُمكنك رؤيته بالعين المُجردة، مثل الانفجار (GRB 080319B) الذي اكتشفته وكالة ناسا من خلال مهمتها (Swift GRB Explorer) في 19 مارس عام 2008.
وبالرغم من قوتها إلا أنَّ العلماء لم يستطيعوا حتى الآن معرفة السبب وراء انفجارات أشعة جاما، حتى إنَّ بعضهم يعتقد أنها رسائلٌ من حضاراتٍ غريبةٍ عن كوكبنا وأكثر تقدمًا منا.
الآن لدينا ولأول مرةٍ كيفية صنع نسخةٍ صغيرةٍ من انفجار أشعة جاما داخل المعامل والمختبرات ما يفتح الطريق أمامنا لدراسةٍ أعمق لخصائص تلك الظاهرة الفريدة.
إحدى الأفكار التي تحدثت عن أصل الظاهرة قالت إنَّ أشعة جاما تنبعث بطريقةٍ ما أثناء انبثاق الجسيمات التي تُحرَّر بواسطة الأجسام الفيزيائية الفلكية الضخمة كالثقوب السوداء، وهذا يجعل الانفجارات هامةً لعلماء الفيزياء الفلكية، فدراستهم المُفَصَّلة لتلك الظاهرة قد تكشف لهم مزيدًا من الحقائق حول الثقوب السوداء والتي تُعد المصدر الأهم لتلك الانفجارات.
الحِزم التي تنطلق من الثقوب السوداء في الأغلب تتكون من الإلكترونات وما يرافقها من المادة المُضادة (البوزترونات)، كل الجسيمات لديها نظائرها من المادة المُضادة التي تتطابق معها في كل الخصائص ولكن بشحنةٍ مختلفة.
هذه الحزم لابد وأن تكون لها حقولٌ مغناطيسية مُولَّدة ذاتيًا، دوران هذه الجسيمات حول الحقول المغناطيسية ينشأ عنه انفجاراتٌ قويةٌ من إشعاع جاما، أو على الأقل هذا ما تتوقعه نظرياتنا، لكننا لا نعلم حتى الآن بأي طريقةٍ ستتولد تلك الحقول المغناطيسية.
لسوء الحظ هناك مُشكلتان عند دراسة هذا النوع من الانفجارات، الوقت الصغير الذي تستغرقه تلك الانفجارات، والمشكلة الأكبر أنَّ هذه الانفجارات تنشأ في المجرات البعيدة جدًا، التي تكون أحيانًا على بُعد مليارات السنين الضوئية من الأرض (تخيل رقم واحد وبجواره 25 صفرًا، هذه هي مسافة مليار سنةٍ ضوئيةٍ بالأمتار تقريبًا).
هذا يعني أنك تنظر إلى حدثٍ يقع بعيدًا جدًا عنك بعشوائيةٍ تامة ويستغرق فقط ثوانٍ معدودة.
إنها تشبه دراسةً لمكونات شمعة، وكل ما لديك هو ومضاتٌ تأتيك من تلك الشمعة التي تبعد عنك آلاف الكيلومترات.
أكثر أنواع الليزر قوةً في العالم:
اقتُرح مؤخرًا أنَّ أفضل طريقةٍ لمعرفة كيفية حدوث انفجارات أشعة جاما هي صناعة مُحاكاةٍ لها على نموذجٍ مُصغرٍ يتم إنتاجه داخل المختبرات، ويقوم مصدرٌ صغيرٌ بتوليد حِزم الإلكترونات والبوزترونات، ثم نُشاهد التطورات التي ستلحق بها من تلقاء نفسها.
مجموعتنا ومجموعةٌ أخرى من المُتعاونين من الولايات المُتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة والسويد نجحوا مؤخرًا في صناعة أول نسخةٍ طبق الأصل مُصغرةٍ من هذه الظاهرة باستخدام أحد أقوى أشعة ليزر على الأرض (ليزر الجوزاء – Gemini Laser)، حيث استضيفت التجربة في مختبرات (راذرفورد أبليتون) بالمملكة المُتحدة.
ولكن إلى أي مدى تبلغ شدة أشعة الليزر القوية تلك؟
قُم بتجميع الطاقة الشمسية التي تصطدم بالأرض جميعها، ثم قم بتركيزها على هيئة أشعةٍ قطرها ميكروناتٍ قليلة (أي تقريبًا بسماكة شعرة من رأس الإنسان)، الآن لقد حصلت على نموذجٍ مشابهٍ لأقوى أشعة ليزر على سطح الأرض.
وعند توجيه تلك الحزمة من الليزر إلى بعض الأهداف المُعقدة، تنطلق نُسخٌ عديدةٌ من التدفقات الفيزيائية الفلكية بسرعةٍ فائقة، ثم نقوم بتصويرها بسرعةٍ مماثلةٍ لنرى كيفية تصرفها من تلقاء نفسها.
كانت تلك التجربة مصغرةً بصورةٍ كبيرة، فبدلًا من إنتاج الأشعة التي قد يمتد طولها حتى آلاف السنين الضوئية، قمنا بضغطها إلى بضعة ملليمترات، واستطعنا -ولأول مرة- ملاحظة بعض أسرار تلك الظاهرة والتي تلعب دورًا هامًا في توليد انفجارات أشعة جاما، مثل التوليد الذاتي للحقول المغناطيسية التي استمرت لوقتٍ طويل.
كانت هذه الملاحظات قادرةً على تأكيد بعض التنبؤات النظرية حول قوة وانتشار هذه الحقول، وباختصار، تجربتنا أكدت بشكلٍ مستقلٍ أنَّ النماذج الحالية التي قُمنا باستخدامها لفهم انفجارات أشعة جاما هي على الطريق الصحيح، التجربة ليست فقط مُهمةً لدراسة انفجارات أشعة جاما، ولكنَّ المادة المصنوعة من إلكترونات وبوزيترونات فقط هي أحد حالات المادة التي تبلغ من الأهمية غايتها.
المادة العادية على سطح الأرض مُكونةٌ في الغالب من ذرات، حيث النواة الموجبة الشحنة ذات الكتلة العالية وسحبٌ من الإلكترونات الخفيفة سالبة الشحنة التي تحيطها.
نتيجة الفارق الكبير في الكتلة بين النواة والإلكترونات التي تدور حولها (أخف نواة تبلغ كتلتها 1836 ضعف كتلة الإلكترون)، فمُعظم الظواهر التي نختبرها في حياتنا اليومية تأتي من حركة الإلكترونات، وتُعد أسرع في استجابتها للمؤثرات الخارجية (كالضوء أو أي جسيماتٍ أخرى أو الحقول المغناطيسية) من استجابة النواة لتلك المؤثرات.
ولكن في حالة حِزم الإلكترونات والبوزيترونات، فإن للجسيمين نفس الكتلة، ما يعني اختفاء أي تفاوتٍ في ردود الأفعال بينهما، يترتب على ذلك العديد من النتائج الرائعة مثل عدم وجود أصواتٍ في عالمٍ تسوده الإلكترونات والبزوترونات.
جيدٌ جدًا، لكن لماذا يجب علينا الاهتمام كثيرًا بأحداثٍ بعيدةٍ كل البُعد عنَا؟ في الواقع هناك العديد من الأسباب.
أولًا، فهم كيفية تكَوُّن انفجارات أشعة جاما سيسمح لنا بفهم الكثير حول الثقوب السوداء، وبالتالي يفتح لنا نافذةً لنرى من خلالها نشأة الكون وكيفية تطوره مُستقبلًا، وهناك أسبابٌ أخرى أكثر قوة.
يقوم مشروع (البحث عن كائنات ذكية غير أرضية – SETI- Search for Extra Terrestial Intelligence) بالبحث عن رسائل من الحضارات الغريبة عن طريق التقاط إشاراتٍ كهرومغناطيسية من الفضاء والتي لا يُمكن تفسيرها طبيعيًا (غالبًا ما تكون أشعة راديو، ولكن انفجارات أشعة جاما ترتبط بتلك الإشعاعات أيضًا).
من المؤكد إذا قُمت بوضع لاقطٍ للإشارات لتبحث عن أي موجاتٍ آتيةٍ من الفضاء، فستحصل على مجموعةٍ رائعةٍ من الإشارات المُختلفة.
وإذا كُنت حقًا تُريد عزل الإرسال الذكيّ، فلابد لك أولًا أن تتأكد أنَّ الانبعاثات الطبيعية معروفةٌ بامتياز ويُمكن تمييزها وعزلها عن باقي الإشعاعات.
دراستنا تهدف إلى فهمٍ أكثر للثقوب السوداء والانبعاثات النبضية، وحين نلتقط أي شيءٍ مشابهٍ فسنكون على علمٍ بأنها ليست رسائل آتية من الحضارات الغريبة.