التقط مرصد فضائي بُنيَ على قمم جبال المكسيك من قبل مجموعة من العلماء الدوليين، أولَّ نظرة من زاوية واسعة لأشعة غاما التي تصدر عن نجمين دوَّارين بسرعات كبيرة، ويمنح هذا المرصد على القمم العالية (مصفوفة شيرينكوف المائيَّة) منظورًا جديدًا حول تدفق الضوء عالي الطاقة الصادر عن هذه النجوم الجارة، مما يعرض إمكانية لربط هذا التدفق؛ لشرح ظاهرة وجود فائضٍ من جسيمات المادة المضادة قرب الأرض.
لاحظ علماء فلك في سنة 2008م وجود عدد كبيرٍ مفاجئ لجسيم البوزيترون ــ نظير الإلكترون من المادة المضادة ــ في مدارٍ فوق الغلاف الجوي للأرض ببضعة أميال، ومنذ ذاك الحين اختلف العلماء حول سبب تلك الظاهرة غير الطبيعية، منقسمين حول نظريتين أساسيتين حول مصدر تلك الجسيمات، فاقترح البعض تفسيرًا بسيطًا، وهو: إن الجسيمات الفائضة قد أتت من نجومٍ منهارة قريبة تسمى بالنجوم النابضة (Pulsar)، التي تدور لمرَّاتٍ عديدة في الثانية الواحدة مطلقة الإلكترونات بعيدًا، والبوزيترونات، ومواد أخرى كذلك بقوة عنيفة، واقترح فريقٌ آخر قدوم المادة المضادة من عمليَّات تتضمن المادة المظلمة، وهي مادة منتشرة غير المرئيَّة لكننا نعلم بوجودها من خلال قوّة جذبها.
وباستخدام بيانات من مرصد شيرينكوف، قام الباحثون بأولى القياسات الدقيقة للنجمين النابضين اللذان تمَّ تحديدهما مسبقًا بصفة مصدرٍ ممكن للوجود المفرط للبوزيترونات، وعبر التقاط وحساب جسيمات الضوء الصادرة من تلك المحركات النجميَّة القريبة، استبعد الباحثون كون النجمين النابضين مصدر المادة المضادة حول الأرض، رغم وجود النجمين في العُمرِ والبعد عن الأرض المناسبين، فهما محاطان بسحابةٍ مظلمة واسعة تمنح معظم البوزيترونات من الهروب، وذلك طبقًا للنتائج المنشورة في مجلَّة ساينس بتاريخ 17 نوفمبر 2017م.
وفي هذا الشأن يقول جوردان جودمان (Jordan Goodman) بروفيسور الفيزياء من جامعة ماريلاند، وقائد فريق بحث تعاونية المرصد والمتحدث الرَّسمي للفريق الأمريكي من الباحثين: “هذه القياسات الجديدة مُحيرة لأنها ترفض فكرة قدوم فائض البوزيترونات نحو الأرض من النجوم النابضة القريبة، على الأقل عندما تفترض نموذجًا بسيطًا نسبيًا لكيفية انتشار هذه البوزيترونات بعيدًا عن هذه النجوم الدوَّارة”، ويضيف في موضعٍ آخر: “قياساتنا لا تمنح الأفضلية لفرضية المادة المظلمة، لكن أي نظريَّة تطمح لتفسير الوجود الفائض للمادة المضادة عبر النجوم النابضة يجب أن تأخذ في الحسبان ما توصَّلنا إليه”.
بينما يضيف فرانسيسكو ساليسا غريس (Francisco Salesa Greus) قائد تأليف ورقة البحث الجديدة، وعالم الفيزياء من معهد الفيزياء النووية بالأكاديمية البولندية للعلوم بمدينة كراكوف: “نحن أقرب لفهم مصدر الوجود الفائض للبوزيترونات بعد إقصاء مصدرين أساسيَّين من المصادر المرشَّحة”.
• عينٌ في السماء.
باستخدام كاميرا عاديَّة، يسمح جمع حجمٍ كبير من الضوء مرصد شيرينكوف ببناء صورٍ حادة لمصادر أشعة غاما الفرديَّة، وأكثر أشعة غاما طاقة تلك التي كان مصدرها مقابر النجوم الكبيرة، حول بقايا النجوم مثل بقايا السوبرنوفا المتمثلة في النجوم النابضة الدوَّارة، لكن ذلك الضوء لا يأتي من النجوم بذاتها، وبدلًا من ذلك، يتم خلق الضوء عندما تقوم النجوم النابضة الدوَّارة بتسريع الجسيمات إلى طاقات عالية للغاية، مما يتسبب في اصطدامهم بالفوتونات قليلة الطاقة التي خلَّفها الكون القديم.
إن حجم حقل البقايا حول النجوم النابضة القويَّة هو الذي يتم قياسه عبر بقعة الفضاء المتوهجة في أشعة غاما، ويخبر الباحثون عن مدى سرعة حركة المادة بالنسبة للنجوم الدوَّارة، وهذا يمنحهم القدرة على تقدير سرعة حركة البوزيترونات وكميَّتها التي قد تصل إلى الأرض من ذلك المصدر.
وباستخدام فهرس مرصد شيرينكوف الصادر مؤخرًا للسماء عالية الطاقة، استبعد العلماء النجم النابض (جيمينجا) ونجمه الشقيق (PSR B0656+14) بصفته مصدرًا لفائض البوزيترونات، رغم أن النجمين على عمرٍ قديم كفايةً وقريبين بشكلٍ يسمح باعتبار كونهما المصدر، والمادة التي لا تسافر بالسرعة اللازمة للوصول إلى الأرض.
كما يشرح روبن لوبيز- كوتو (Rubén López-Coto) المشارك في البحث من معهد ماكس بلانك بألمانيا: “أشعة غاما التي يقيسها مرصد شيرينكوف توضح وجود بوزيترونات عالية الطاقة هاربةً من تلك المصادر”، ويضيف لاحقًا: “لكن بالعودة إلى قياساتنا، ليس باستطاعتها أن تكون مساهمة بشكلٍ ملحوظ في فائض البوزيترونات الملاحظ على الأرض”.
لم يكن من الممكن القيام بهذه القياسات دون النظرة الواسعة لمرصد شيرينكوف، فهو يقوم بمسحٍ متواصل لحواليّ ثلث السماء من فوقنا، ممَّا يمنح الباحثين نظرة واسعة للفضاء من حول النجوم النابضة، والمراصد الأخرى لأشعة غاما عالية الطاقة مع مجالات رؤية أضيق أهملت الطبيعة المتوسعة للنجوم النابضة.
يقبع مرصد شيرينكوف في علو يصل إلى 13.500 قدم، على بركان سييرا نيجرا (Sierra Negra) الذي يقع في متنزه أوريزابا الوطني (Orizaba) بولاية بويبلا (Puebla) المكسيكيَّة، ويتشكَّلُ أساسًا من 300 خزانٍ ضخمًا للمياه تنتظر شلالات الجسيمات التي تتسبب بها حزم أشعة عالية الطاقة للضوء تسمى بأشعة غاما، التي تحتوي العديد منها على طاقة أعلى بـ 10 مليون مرَّة مقارنة بأشعة الأسنان السينية.
وعندما ترتطم أشعة غاما تلك بالغلاف الجوي العلوي، تنشر الذرَّات في الهواء، متسببةً في مطرٍ من الجسيمات التي تسير بسرعة تقارب سرعة الضوء نحو الأرض، وعندما تصل هذه الأمطار إلى خزَّانات مصفوفة شيرينكوف المائيَّة، تنتج ومضات من ضوءٍ أزرق في المياه، مما يسمح للباحثين بإعادة بناء طاقة أشعة غاما ومصدرها الكوني الذي طرح شلالات الجسيمات تلك.
وفي هذا الصدد يقول هاو زهو (Hao Zhou) العالم من مختبر لوس آلاموس الوطني بنيو مكسيكو والمشارك في البحث: “بفضل نظره الواسع، يمنح مرصد شيرينكوف قياسات استثنائيَّة لتفاصيل أشعة غاما عالية الطاقة التي يتسبب بها انتشار الجسيمات حول النجوم النابضة القريبة، مما يسمح لنا بتحديد مدى سرعة انتشار الجسيمات بشكلٍ أفضل من القياسات السابقة”.
ومن الممكن أن تسمح اكتشافات جديدة حول الفيزياء الفلكيَّة لهذه النجوم النابضة بالوصول إلى حقيقة فائض البوزيترونات الموجود على الأرض، لكن قد يتطلب ذلك نظريَّة أكثر تعقيدًا لانتشار البوزيترونات، ومن جهة أخرى، قد تمنح المادة المظلمة التفسير الصحيح، لكن نحتاج إلى أدلة أكثر لتقرير ذلك.