علماء فضاء يطوِّرون نموذجًا جديدًا بهدف معرفة وتحديد منشأ هذه الأشياء الغريبة جدًا المرعبة، والبدائية المتشكلة في الكون والتي تدعى بالثقوب السوداء.
وهي عبارة عن محاكاة من قبل الحاسوب تظهر الثقوب السوداء الضخمة المتشكلة في مركز الكون.
تعادل كتلة الثقوب السوداء الضخمة من مئات الملايين حتى مئات البلايين من كتلة أحد النجوم في الكون، وهي أكثر الظواهر غرابةً في الفيزياء الفضائية الحديثة، وتتواجد في مركز معظم المجرات الكبيرة بما فيها مجرة درب التبانة، ونظرًا لوفرتها، فقد تكون جزء رئيسي منها في نشوء وتشكّل الكون، ولكن كيفية نمت الثقوب إلى هذا الحد لم يزل أمرًا محيرًا بالنسبة لعلماء الفيزياء النظرية حول العالم.
ولعلَّ أكثر التفسيرات المقترحة حساسية، والتي تقول بأن هذه الثقوب الغريبة نَمَت بصورة رهيبة نتيجة ابتلاع كميات هائلة من الغاز عبر بلايين السنين، تُعرف الآن بأنَّها تفسيرات خاطئة، وإن عمليات الرصد الحديثة تشير إلى أن الثقوب السوداء متواجدة قبل تواجد الشمس ببلايين السنوات الضوئية، و التي نشأت هي بعد 800سنة ضوئية من حدوث الانفجار العظيم.
لذا فاللُّغز يكمن في كيفية نموها بهذه السرعة، وإن معظم الفلكيين يوافقون على اعتبار أن الثقوب الضخمة ناتجة عن ثقوب سوداء أصغر منها، (بذور\ ثقوب سوداء)، لكنهم لم يكتشفوا بعد كيف تشكَّلت هذه البذور، تتبنَّى مدرسة فكرة أن هذه البذور يجب أن يكون لها كتلة أكبر من كتلة الشمس من آلاف إلى عشرات ألاف المرات، أما النظرية المقابلة تفترض بأن تكون هذه البذور أصغر، بحيث لا تتجاوز المئة ضعف فقط من كتلة الشمس.
والمطلوب من الجهتين مواجهة قضية أن الثقوب السوداء تلتهم الطاقة بالكون بصورة فوضوية، وأن الجاذبية تضيف كمية محددة من الغاز ومن المادة وعند نقطة محددة تدعى ب ( حد إيدينغتون – Eddington limit) تبدأ هذه المواد في تكوين قرص أبيض ساخن لتَشِع بكمية كبيرة من الإشعاع الذي يَطرِد المواد الجديدة، وهنا نقول أن الإشعاع قد قام بقطع مصدر الغذاء عن الثقب الأسود.
نمو الثقب الأسود:
لقد قام (يوشيدا – Yoshida)، بالتعاون مع جامعة تكساس في أوستن، وجامعة توبنغن الألمانية، ومن خلال المحاكاة باستخدام الحاسب لإعادة تشكيل الظروف الأولية التي نشأ فيها الكون، وبتزويد البرنامج الحاسوبي بالبارامترات الكونية، ككثافة المادة السوداء، والتي حصل عليها علماء الفضاء، عبر قياساتهم لتركيبة الكون البدائية، حيث يخبرنا يوشيدا كيف جرب العلماء إعادة إنتاج الظروف الابتدائية لنشأة الكون، بأقرب ما يكون لعمليات الرصد الحقيقية “على قدر ما استطعنا” ومن ثمة السماح لهذا الكون بالنمو مع مرور الوقت.
واستنادًا لأبحاث فِرق النمذجة والمحاكاة، في بعض أجزاء الكون، فإن الجاذبية الناتجة عن المادة السوداء وقعت في شرك تشكيل دوامة سريعة من الهيدروجين والهيليوم البدائي الناجم عن الانفجار العظيم، وفي النتيجة توصل العلماء إلى أن هذه الغازات المبكرة تتسارع في بعض أجزاء الكون إلى درجة كبيرة، أو (رياح عالية السرعة -really fast winds ) مثلما يدعوها العالم يوشيدا ويقول أنَّه من الصعب جدًا إعاقة حركة الغاز بهذا الشكل، تصور أنك تضع يدك في مواجهة الفيض القادم من بيت النار، حيث تتدلَّى ذراعك نتيجة القوُّة، والطريقة الوحيدة لمواجهة وإيقاف هذه الرياح القوية، هي تشكيل جاذبية قوية بصورة كافية.
وقد قام الباحثون بحسابها خلال ثلاثة بلايين سنة ضوئية ممتدة في الكون المبكِر، وهناك كمية كافية من المادة السوداء وكمية كافية أيضًا من الجاذبية لتمتص وتعيق هذه الرياح، كامتلاك قوة لدفع تيار من الماء في الاتجاه المعاكس، وإن هذا التأثير المتبادل بين المادة السوداء والغاز، والذي يخلق غيمة كبيرة من الغاز، تمنع تشكُّل النجوم الصغيرة في طريقها.
وهذه الغيمة التي تمَّت محاكاتها، ومن ثم تنطوي ضمن نجم كبير جدًا، والذي يستمر بابتلاع المزيد من الغاز حتى يصل إلى ما يعادل 34,000 ضعف من كتلة الشمس، وهذا النجم الافتراضي الكبير قد يصل فقط في المغناطيسية إذا كان مغناطيسًا، خليط صاف من غازي الهيدروجين والهيليوم، الذي يدور ملتفًا حول الكون البدائي قبل أن يخضع أي نجم لانفجارات النجوم الساطعة التي أنتجت عناصر ثقيلة كالكربون والنيتروجين والأكسجين، وإن فكرة النجم الكبير قد طُرِحت من قبل، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها العلماء بمحاكاتها حاسوبيًا، ويقول يوشيدا: “إن محاكاتنا الحاسوبية تُظهر هذا النوع من الحوادث التي تحدث فعلًا وتبيِّن أيضًا النجم الضخم الممكن أن يتشكَّل.”
وبعد الوصول إلى هذه الكتلة الضخمة، يبدأ النجم أخيرًا بالانهيار، وتولد بذرة الثقوب السوداء، ويضيف يوشيدا: “في الحقيقة نحن لم نبحث عن حل يكون مناسبًا ولطيفًا، بل إنه قد ظهر كنتيجة طبيعية، وهذا ما أظنُّه الجواب النهائي عن أصل الثقوب السوداء، لكن البعض لا يتفق معي بذلك.”
إجابة جيدة…لكن؟!
إن العلماء الآخرين، الذين يفضلون فرضية البذور الكبيرة، يمتلكون العديد من الأفكار حول كيفية تشكُّل هذه البذور الكبيرة للمرة الأولى، على سبيل المثال فقد نُشرت مؤخرًا دراسة جديدة في”Nature Astronomy”
تقترح أن البذور هذه لم تتشكل من خلال الحركة المظلِمة للمادة المُظلمة، ولكن أيضًا من خلال سلوك النجوم المألوفة في المجرَّات، وضمن هذا السيناريو، الانفجار الشديد للأشعَّة فوق البنفسجية المنطلقة من التشكل الدقيق للنجم في المجرة القريبة اليافعة، والتي قد تمنع النجوم من التجمع وتشكيل غيمة غازية ضخمة، والسماح لها بأن تبقى متطاولة كفاية لتنهار بشكل مباشر ضمن ثقب أسود مع كتلة تبلغ حوالي أكبر من 100.000 ضعف كتلة الشمس.
جون وايز، وهو عالم فيزياء فلكية في معهد التكنولوجيا في جورجيا والمشارك في تأليف الدراسة العلمية في”Nature Astronomy”.
يَعتبر هذا العمل الجديد خطوة مهمة في مجال الفيزياء الفلكية، حيث أن يوشيدا وزملائه هم أول من قاموا بمحاكاة أثر حركة الغازات البدائية في تشكل الثقوب السوداء، لكنه يقول أنها ليست بعيدة عن مجال البحث الذي تدور حوله نظريته وقابلة للنقاش ضمن سياقها.
ويضيف: “أعتقد أن هنالك طرق متعددة لمعرفة كيفية تشكل هذه الثقوب، وهذا الطريق هو الآخر أظنع ممكنًا فعلًا”، بعدما قام بتسجيل الملاحظة فمن النادر ملاحظة الغازات البدائية السريعة الحركة عند نشأة الكون، ففرصة حدوث حركة رياح سريعة للغازات في إحدى مناطق الكون البدائي هي 0.3% ، حسب إحصاءات يوشيدا، وبالمقابل قد قام هو وزملاؤه بتسجيل سحابة غازية ضخمة موجودة بشكل مباشر بجوار نجم حديث التشكل، والمجرات أيضًا تبدو وكأنها نادرة الظهور والتشكل، وأن يوشيدا يعترف بأن إمكانية نشوء هذه الحادثة غير مؤكدة.
غريغ براين، عالم فيزياء فلكية في جامعة كولومبيا وهو مؤلف وكاتب مرموق في”Nature Astronomy”
ولديه مقال يمجّد فيه الاكتشافات الجديدة، ويقول: “بأنها ليست بإجابة محددة وواضحة للقضية، ولكنها الطريقة الأفضل للنظر في هذا النمط الجزيئي لتشكل الثقوب السوداء، وإذا طرأ تغير ضئيل عن الظروف الفعلية أثناء عملية المحاكاة، عندها لن نحصل على بذور لثقوب سوداء.”
فولفيو ميليا، عالم فيزياء فلكية في جامعة أريزونا، لم يكن راضي عن هذه النظرية، فهناك الكثير من الأفكار الفيزيائية الغير معروفة، والتي من المفروض أن يعتمد عليها المؤلفون كبقية الاقتراحات لتشكُّل البذور الضخمة، أو امتلاك هذه الأجسام لتنمو بمعدَّل عالي، ويقول “إنَّ عليهم تقديم اقتراحات محدَّدة عن سلوك المادة السوداء، ولكننا لا نعلم ما هي هذه الاقتراحات التي قد يجيئون بها.”
نهاية بذور الشك:
للحصول على إجابة حاسمة عن كيفية تكوُّن هذه الثقوب السوداء الضخمة والمرعبة حقًا، والذي تتوجه من أجلها كل أنظار العلماء لإمكانية رصد بذورها في الكون المبكر باستخدام تيلسكوبات ومناظير متطورة ومتقدمة، هذه الاحتمالية التي لن تكن ببعيدة المنال، وهناك العديد من المبادرات كاقتراح بعثة أثينا من وكالة الفضاء الأوروبية، المقرر انطلاقها عام 2028، والتي ستساعد لاستكشاف الأشعة اكس المنبعثة من الثقوب العملاقة، وقد جهَّزت ناسا رائد الفضاء (جيمس ويب – James Webb )، وأوكلت إليه مهمة التحليق في الفضاء العام المقبِل، والذي قد يزودنا برؤيته على ضوء دراسته للمجرات والنجوم الأقدم في الكون.
ويضيف ميليا: “الشيء المثير حقًا أنه لدينا الطرق الكفيلة باختبار مدى فعالية وصحة هذه الأفكار خلال السنوات القادمة، لأن رواد الفضاء سيقومون ببحوث شاملة واختبارات في الفضاء الجوي على هذه الأجسام والثقوب، وما يطلبه البشر هو شيء مختلف نوعًا ما عما نعرفه عن هذا الجزء من الكون الغامض والبعيد بالنسبة لنا”.