هنري زغيب
بين خمسة كتُب عالَمية، ذكرتُ في الجزء الأَول من هذا المقال كتاب "التأَمُّلات" للأَمبراطور الروماني ماركوس أُوريليوس وما كان له من أَثرٍ على جيله وعلى الأَجيال اللاحقة ممن رأَوا فيه كتابًا خالدًا للفكْر الإِنساني. وعالجتُ في الجزء الثاني كتابَين: "بحث الإِنسان عن المعنى"، و"رسائل من رُواقيّ".
الكتاب الرابع: "ما وراءَ الخير والشر"
معروف عن الفيلسوف الأَلماني فردريك نيتشه (1844-1900) صعوبة فهم نصوصه لِما فيها من أَبعاد فلسفية لا يسهُل على القراء العاديين بلوغ عمقها وجوهرها.
سوى أَن هذا الكتاب بالذات "ما وراء الخير والشر" (أَو "أَبعد من الخير والشر") أَسهل من سواه قراءةً واستيعابًا. مع أَنه لا يبدو كذلك من قراءته الأُولى لكنَّ إِعادة قراءته تجعله أَسهل إِيضاحًا.
في هذا الكتاب، يكسر نيشته المأْلوف المتداوَل من الفهم التقليدي للأَخلاق، ورسَم للقرن العشرين أُفقًا للفكر الإِنساني رآه الكثيرون واختطُّوه. من هنا أَنْ قد يكون أَكثرَ الفلاسفة تأْثيرًا في عصره، بهدمه الكثيرَ من المفاهيم والأَوهام الْكانت سائدة عصرئذٍ. لذا يعتبره الكثيرون في قمة الفكر الفلسفي ورائد الفكر الوجودي. ولعل في هذا الكتاب مختصر أَفكاره وطروحاته الفلسفية منه في كتبه الأُخرى. ذاك أَن فكره في هذا الكتاب يتجلَّى واضحًا في إِيجاز سائغ، ويَظهر عقله المفكّر في سطوع لافت. ولأَن معظم مؤلفاته في الأَلمانية، وفي لغة معقدة، لاقى هذا الكتاب "ما وراء الخير والشر" سهولة أَكثر لدى مترجميه.
تبسيط على عمق
رأَى نقاد حديثون أَن فلسفته الأُوروبية الكلاسيكية خضَّت الفكر الغربي في طرحها مسائل الحقيقة والله والخير والشر. وهو ينتقد بقسوةٍ المفاهيم المزوَّرة والأَخلاقيات المستهلَكة من أَجل فلسفة جديدة تمجِّد الحاضر وتشدِّد على قوة الإِرادة عند الفرد. وتولى مترجم الكتاب مايكل تانِّر وضع مقدمة وافية وتعليقات وهوامش لشرح تلك المفاهيم، ما بسَّط النص للقراء محبّي الفلسفة.
وأَكثر: في كتابه هذا جوابٌ صارمٌ عن الكتابات الميتافيزيقية التي تحاول عادةً إِيجاد التبريرات للدفاع عن الخير والشر، وردُّهُ الجازم أَن لكل فردٍ طريقته الشخصية في التفكير ولا يجوز التعميم، لذا يتولى كلُّ فردٍ أَمره وفْق واقعه الشخصي بصرف النظر كليًّا عن الأَخلاقيات التقليدية الموروثة بما فيها تلك المتأَتية من الدين أَو الوعي المأْلوف.
من هنا تركيز نيشته على ضرورة أَن يرفض الإِنسان كلَّ ما تعلَّمه ببغاويًّا من الفلاسفة والأَديان حول الأَخلاقيات والحقيقة المطلقة والقيَم، وأَن يعتنق ما يراه هو مناسبًا قناعاته، فأَحيانًا يقتبل الإِنسان نظريات يتبنَّاها على أَنها نهائية وثابتة وهي لا تكون كذلك.
الكتاب صدر سنة 1886 في تسعة فصول ذات تسعة مواضيع مختلفة، كتبها نيتشه في أُسلوب خاص امتدَّ على 296 مقطعًا، أَضاف فيها ما كان سبق له أَن عرضه في كتابه السابق "هكذا تكلَّم زرادشت" (1883)
الكتاب الخامس: "جمهورية" أَفلاطون
يُجمع النقاد ومؤَرخو الفكر الإِنساني والفلسفة بأَن "جمهورية" أَفلاطون أَحد أَهم الكتب السياسية والفلسفية في التاريخ. وضعه أَفلاطون (427-347 ق.م.) الفيلسوف النموذجي وأَحد طلَّاب سقراط (470-399 ق.م.) وأُستاذ أَرسطو (384-322 ق.م.). كتبَه نحو سنة 380 ق.م. بشكل حوارات حول العدالة والأَنظمة السياسية. وحتى غير المتخصصين في الشأْن السياسي يجدون في هذا الكتاب ما يُنير الفكر حول الحوكَمة الرشيدة والمواطَنة السعيدة ولماذا الفلاسفة هم أَفضل طبقات الحكَّام في العالم، وإِن لم يحكموا فعليًّا بعد.
أَفضل كتب عصره
خلاصة الحوارات السقراطية تتمحور حول العدالة والنظام والحكم العادل والمواطن الصالح. لذا يعتبر المؤَرخون أَن "الجمهورية" أَفضل ما صدر في العصر القديم من نظريات فلسفية وتطبيقاتها الاجتماعية.
الحوارات تجري بين عدد من الحضور وبينهم سقراط. وخلال الحوارات يدافع سقراط عن تفكيره بأَن العدالة أَبعدُ من الانصياع لأَحكام القانون، بل هي فضيلة يجب التعامل معها من هذا المنطق الذاتي وتَبَنِّيها على أَنها هكذا. من هنا قناعتُه بأَن المدينة لا تستقيم إِلا متى يحكمها ملك فيلسوف يقود شعبه إِلى هناءة العيش في مناخ نفسي وسياسي من العدالة الشاملة.
واضحٌ أَن حضوره دروس سقراط أَثَّر به في نظرياته لرسم المجتمع الأَفضل. وبعد وفاة سقراط راح يدور في المدن بحثًا عن مصدر آخر للتعلُّم، حتى عاد إِلى أَثينا بعد 12 سنة وأَسس مدرسته (الأَكاديميا) وهي أَقدم مدرسة منهجية في الحضارة الغربية، تخرَّج منها أَرسطو وآخرون كثيرون مثل فيتاغوراس، آناغزاغوراس، وبيرمينيدِسْ.
نظريّ لا تطبيقي
في رأْي المؤرخين، وفي شبه إِجماع، أَنَّ آراء أَفلاطون في هذا الكتاب تنحو كثيرًا إِلى النظريّ أَكثر مما إِلى التطبيقي. فهو يروي قصصًا جرَت معه، ويسرد ملامح من طبيعة العدالة وكيف يحاول هو وزملاؤُهُ أَن يُفَعِّلوها. وفي هذا السياق ذكر آراء سواه في كيفية يجب أَن تُحكَم الجمهورية الفضلى المثالية. سوى أَنه يُورد رأي الفلاسفة في العدالة، ويخلص إِلى أَنها ليست قوة في ذاتها بل الأَهم استخدام تلك القوة للصالح العام فيستفيد منها الجميع لا ذوو الحظوات فقط.
وفي ختام الكتاب يعدِّد أَفلاطون الأَربعة الأَنظمة الرئيسة: الأَرستقراطية، الأُوليغارشية، الديمقراطية، والاستبدادية. واللافتُ أَنه وضع الأَرستقراطية أَولًا وأَحلَّ الديمقراطية ثالثةً قبل الاستبدادية، مع أَن الكثيرين اليوم يجدون الديمقراطية أَفضل الأَنظمة لحكْم الشعوب.
بين خمسة كتُب عالَمية، ذكرتُ في الجزء الأَول من هذا المقال كتاب "التأَمُّلات" للأَمبراطور الروماني ماركوس أُوريليوس وما كان له من أَثرٍ على جيله وعلى الأَجيال اللاحقة ممن رأَوا فيه كتابًا خالدًا للفكْر الإِنساني. وعالجتُ في الجزء الثاني كتابَين: "بحث الإِنسان عن المعنى"، و"رسائل من رُواقيّ".
الكتاب الرابع: "ما وراءَ الخير والشر"
معروف عن الفيلسوف الأَلماني فردريك نيتشه (1844-1900) صعوبة فهم نصوصه لِما فيها من أَبعاد فلسفية لا يسهُل على القراء العاديين بلوغ عمقها وجوهرها.
سوى أَن هذا الكتاب بالذات "ما وراء الخير والشر" (أَو "أَبعد من الخير والشر") أَسهل من سواه قراءةً واستيعابًا. مع أَنه لا يبدو كذلك من قراءته الأُولى لكنَّ إِعادة قراءته تجعله أَسهل إِيضاحًا.
في هذا الكتاب، يكسر نيشته المأْلوف المتداوَل من الفهم التقليدي للأَخلاق، ورسَم للقرن العشرين أُفقًا للفكر الإِنساني رآه الكثيرون واختطُّوه. من هنا أَنْ قد يكون أَكثرَ الفلاسفة تأْثيرًا في عصره، بهدمه الكثيرَ من المفاهيم والأَوهام الْكانت سائدة عصرئذٍ. لذا يعتبره الكثيرون في قمة الفكر الفلسفي ورائد الفكر الوجودي. ولعل في هذا الكتاب مختصر أَفكاره وطروحاته الفلسفية منه في كتبه الأُخرى. ذاك أَن فكره في هذا الكتاب يتجلَّى واضحًا في إِيجاز سائغ، ويَظهر عقله المفكّر في سطوع لافت. ولأَن معظم مؤلفاته في الأَلمانية، وفي لغة معقدة، لاقى هذا الكتاب "ما وراء الخير والشر" سهولة أَكثر لدى مترجميه.
تبسيط على عمق
رأَى نقاد حديثون أَن فلسفته الأُوروبية الكلاسيكية خضَّت الفكر الغربي في طرحها مسائل الحقيقة والله والخير والشر. وهو ينتقد بقسوةٍ المفاهيم المزوَّرة والأَخلاقيات المستهلَكة من أَجل فلسفة جديدة تمجِّد الحاضر وتشدِّد على قوة الإِرادة عند الفرد. وتولى مترجم الكتاب مايكل تانِّر وضع مقدمة وافية وتعليقات وهوامش لشرح تلك المفاهيم، ما بسَّط النص للقراء محبّي الفلسفة.
وأَكثر: في كتابه هذا جوابٌ صارمٌ عن الكتابات الميتافيزيقية التي تحاول عادةً إِيجاد التبريرات للدفاع عن الخير والشر، وردُّهُ الجازم أَن لكل فردٍ طريقته الشخصية في التفكير ولا يجوز التعميم، لذا يتولى كلُّ فردٍ أَمره وفْق واقعه الشخصي بصرف النظر كليًّا عن الأَخلاقيات التقليدية الموروثة بما فيها تلك المتأَتية من الدين أَو الوعي المأْلوف.
من هنا تركيز نيشته على ضرورة أَن يرفض الإِنسان كلَّ ما تعلَّمه ببغاويًّا من الفلاسفة والأَديان حول الأَخلاقيات والحقيقة المطلقة والقيَم، وأَن يعتنق ما يراه هو مناسبًا قناعاته، فأَحيانًا يقتبل الإِنسان نظريات يتبنَّاها على أَنها نهائية وثابتة وهي لا تكون كذلك.
الكتاب صدر سنة 1886 في تسعة فصول ذات تسعة مواضيع مختلفة، كتبها نيتشه في أُسلوب خاص امتدَّ على 296 مقطعًا، أَضاف فيها ما كان سبق له أَن عرضه في كتابه السابق "هكذا تكلَّم زرادشت" (1883)
الكتاب الخامس: "جمهورية" أَفلاطون
يُجمع النقاد ومؤَرخو الفكر الإِنساني والفلسفة بأَن "جمهورية" أَفلاطون أَحد أَهم الكتب السياسية والفلسفية في التاريخ. وضعه أَفلاطون (427-347 ق.م.) الفيلسوف النموذجي وأَحد طلَّاب سقراط (470-399 ق.م.) وأُستاذ أَرسطو (384-322 ق.م.). كتبَه نحو سنة 380 ق.م. بشكل حوارات حول العدالة والأَنظمة السياسية. وحتى غير المتخصصين في الشأْن السياسي يجدون في هذا الكتاب ما يُنير الفكر حول الحوكَمة الرشيدة والمواطَنة السعيدة ولماذا الفلاسفة هم أَفضل طبقات الحكَّام في العالم، وإِن لم يحكموا فعليًّا بعد.
أَفضل كتب عصره
خلاصة الحوارات السقراطية تتمحور حول العدالة والنظام والحكم العادل والمواطن الصالح. لذا يعتبر المؤَرخون أَن "الجمهورية" أَفضل ما صدر في العصر القديم من نظريات فلسفية وتطبيقاتها الاجتماعية.
الحوارات تجري بين عدد من الحضور وبينهم سقراط. وخلال الحوارات يدافع سقراط عن تفكيره بأَن العدالة أَبعدُ من الانصياع لأَحكام القانون، بل هي فضيلة يجب التعامل معها من هذا المنطق الذاتي وتَبَنِّيها على أَنها هكذا. من هنا قناعتُه بأَن المدينة لا تستقيم إِلا متى يحكمها ملك فيلسوف يقود شعبه إِلى هناءة العيش في مناخ نفسي وسياسي من العدالة الشاملة.
واضحٌ أَن حضوره دروس سقراط أَثَّر به في نظرياته لرسم المجتمع الأَفضل. وبعد وفاة سقراط راح يدور في المدن بحثًا عن مصدر آخر للتعلُّم، حتى عاد إِلى أَثينا بعد 12 سنة وأَسس مدرسته (الأَكاديميا) وهي أَقدم مدرسة منهجية في الحضارة الغربية، تخرَّج منها أَرسطو وآخرون كثيرون مثل فيتاغوراس، آناغزاغوراس، وبيرمينيدِسْ.
نظريّ لا تطبيقي
في رأْي المؤرخين، وفي شبه إِجماع، أَنَّ آراء أَفلاطون في هذا الكتاب تنحو كثيرًا إِلى النظريّ أَكثر مما إِلى التطبيقي. فهو يروي قصصًا جرَت معه، ويسرد ملامح من طبيعة العدالة وكيف يحاول هو وزملاؤُهُ أَن يُفَعِّلوها. وفي هذا السياق ذكر آراء سواه في كيفية يجب أَن تُحكَم الجمهورية الفضلى المثالية. سوى أَنه يُورد رأي الفلاسفة في العدالة، ويخلص إِلى أَنها ليست قوة في ذاتها بل الأَهم استخدام تلك القوة للصالح العام فيستفيد منها الجميع لا ذوو الحظوات فقط.
وفي ختام الكتاب يعدِّد أَفلاطون الأَربعة الأَنظمة الرئيسة: الأَرستقراطية، الأُوليغارشية، الديمقراطية، والاستبدادية. واللافتُ أَنه وضع الأَرستقراطية أَولًا وأَحلَّ الديمقراطية ثالثةً قبل الاستبدادية، مع أَن الكثيرين اليوم يجدون الديمقراطية أَفضل الأَنظمة لحكْم الشعوب.