كرس ميلوتين ميلانكوفيتش –عالم الفيزياء الفلكية الصربي- حياته المهنية لتطوير نظرية رياضية للمناخ تقوم على الاختلافات الموسمية وكمية الإشعاع الشّمسي الذي تتلقاه الأرض، تعرفُ الآن باسم نظرية ميلانكوفيتش وتنص أنه في حركة الأرض حول الشمس يحصل تغيرات دورية في ثلاثة عناصر تؤثر في هندسة مسار الأرض حول الشمس وتتحد لإنتاج اختلافاتٍ في كميّة الطاقة الشمسية التي تصل للأرض:
- الاختلافات المدارية :الاختلافات في الانحراف المداري للأرض- شكل المدار حول الشمس.
- الميل: التغيرات في الزاوية بين محور دوران الأرض حول نفسها مع مستوى مدار الأرض حول الشمس.
- المبادرة المحورية: التغيير في اتجاه محور دوران الأرض.
تعرفُ التغيرات الدورية في هذه الحركات المدارية باسم «دورات ميلانكوفيتش-Milankovitch cycles»
الاختلافات المدارية
تؤثر تغيرات الانحراف المداري على المسافة بين الأرض والشمس ويوجد في الوقت الحالي اختلاف قدره 3% فقط (5 ملايين كيلومتر) بين أقرب مقاربة بين الأرض والشمس «الحضيض-perihelion» والتي تحدث في 3 يناير/كانون الثاني، وأبعد مسافة تبتعد فيها الأرض عن الشمس «الأوج-aphelion» والذي يحدث في حوالي 4 يوليو/تموز، وينتج عن الاختلاف في المسافة إلى زيادة قدرها 6% في «الإشعاع الشمسي- insolation» من يوليو/تموز إلى يناير/كانون الثاني.
يتغيرُ شكل مدار الأرض من بيضويٍ الشكل «الانحراف العالي» إلى دائريٍ تقريبًا «الانحراف المنخفض» في دورة تستغرق بينَ 90.000 و 100.000 سنة.
عندما يكون المدار بيضوي الشكل للغاية، ستتلقى الأرض كمية إشعاع شمسي عند الحضيض أكبر بحدود 20% إلى 30% مما هي عليه في الأوج، مما يؤدي إلى مناخٍ مختلف جوهريًا عما نعيشه اليوم.
وحسبَ نظرية ميلوتين ميلانكوفيتش: «بزيادة الميلان المحوري يزدادُ الاختلاف بين الفصول فيصبح الشتاء أكثر برودةً والصيف أكثر حرارة».
يتغيرُ الانحراف في مدار الأرض ببطء بمرور الوقت من صفرٍ تقريبًا إلى 0.07.
وكلما ازداد المدار بيضوية يزداد الفرق أكثر فأكثر في المسافة بين أقرب موضع للأرض مع الشمس «الحضيض» وأبعد موضع «الأوج» .
لاحظ أن الشمس ليست في مركز القطع الناقص المداري للأرض، بل هي واحدة من نقاط المحرق.
ملاحظة: الانحراف في المدار كما هو مبين في الصورة السفلى) 0.5( مبالغ فيه.
وحتى الحد الأقصى من الانحراف في مدار الأرض (0.07) سيكون من المستحيل أن يظهر واضحًا في صفحة ويب. ومع ذلك، فالانحراف الحالي للأرض هو 0.017 أي 5 ملايين كيلومتر أقرب إلى الشمس في الحضيض منه في الأوج.
(الصور لروبرت سيمون، NASA GSFC)
الميل «التغيير في الميل المحوري»
يزدادُ التباين الموسمي بزيادة الميل المحوري ليصبحَ الشتاء أكثر برودةً والصيف أكثر دفئًا في نصفي الكرة الأرضية.
يميل محور الأرض اليوم 23.5 درجة عن سطح مداره حول الشمس ولكن الميل يتغير، خلال دورة يبلغ متوسطها حوالي 40.000 سنة يتراوح ميل المحور بين 22.1 و 24.5 درجة وبسبب التغير في الميل تتغير الفصول التي نعرفها.
يعني المزيد من الميل مواسمَ أكثر حدة (أكثر دفئا في الصيف وبرودةً في الشتاء)، أما ميلٌ أقل يعني مواسمَ أقلَّ حدة (صيف أكثر برودة وشتاء أكثر اعتدالًا).
إنها مواسم الصيف البارد التي يُعتقد أنها تسمحُ للثلوج والجليد بأن يستمر من سنةٍ لأخرى في خطوط العرض المرتفعة، لتقوم بنهاية المطاف ببناء صفائح جليدية ضخمة.
لهذا ردود فعلٍ إيجابية في النظام المناخي أيضًا لأن الأرض التي تغطيها المزيد من الثلوج تعكسُ المزيد من طاقة الشمس في الفضاء، مما يسبب تبريدًا إضافيًا للكوكب.
یؤثر التغییر في ميل محور الأرض (الانحراف) علی حجم التغیر الموسمي، ففي الميل العالي تصبح الفصول أكثر تطرفًا، وفي الميل القليل تصبح أكثر اعتدالًا.
الميل المحوري الحالي هو 23.5 درجة.
(صورة روبرت سيمون، NASA GSFC)
«المبادرة محورية -Precession»
تؤثر التغييرات في الحركة المدارية المحورية في تواريخ الحضيض والأوج، وبالتالي يزيد التباين الموسمي في نصف الكرة الأرضية ويقل التباين الموسمي في نصف الكرة الأرضية الآخر.
المبادرة محورية – التغيير في اتجاه محور دوران الأرض يغير اتجاه الأرض مع مراعاة مرحلتي الحضيض و الأوج.
إذا كان نصف الكرة الأرضية موجه نحو الشمس عند الحضيض، فإن نصف الكرة الأرضية سوف يوجه بعيدًا في الأوج، والفرق في المواسم سيكون أكثر تطرفًا.
يُعكَسُ هذا التأثير الموسمي في نصف الكرة المعاكس، ويحدث حاليًا الصيف الشمالي بالقربِ من الأوج.
(صورة روبرت سيمون، NASA GSFC)
تمكن ميلانكوفيتش باستخدام هذه الاختلافات المدارية الثلاثة من صياغة نموذجٍ رياضيٍ شامل يحسب الاختلافات في التعرض لكمية أشعة الشمس وبالتالي درجة حرارة سطح الأرض خلال ال 600.000 سنة الماضية (قبل عام 1800) ثم حاول ربط هذه التغيرات مع نمو وتراجع العصور الجليدية.
للقيام بذلك، افترضَ ميلانكوفيتش أن التغيرات في مستوى الإشعاع عند بعض دوائر العرض في بعض المواسم أكثرَ أهميةً لنمو الصفائح الجليدية أو تضاؤلها مقارنة بدوائر العرض الأخرى أو المواسم الأخرى.
وبعد ذلك، وبناء على اقتراح من عالم المناخ الألماني فلاديمير كوبن، اختار فصل الصيف عند دائرة عرض 65 درجة شمالًا كأهم دائرة عرض وموسم لنمذجته، معتبرًا أن الصفائح الجليدية الكبيرة قد نمت بالقرب من دائرة العرض تلك وأن مواسم الصيف الأكثر برودة قد تقلل من ذوبان الثلوج في الصيف، مما يؤدي إلى أن تكون الثلوج التي سقطت أكثر من الثلوج التي ذابت وبالتالي تنمو الصفائح الجليدية.
تُظهر هذه الرسوم البيانية القيم المحسوبة لـ300.000 سنة من الاختلاف المداري.
يمثل الخط المسمى (0) زمننا الحالي ، في حين يشير
(-200) إلى 200.000 سنة مضت و (100) يشير إلى 100.000 سنة مستقبلًا.
لاحظَ ميلانكوفيتش أن دورات الميكانيكا المدارية هذه تتوافق مع العديد من مؤشرات تغير المناخ، مثل العصور الجليدية.
(من بيرغر ولوتر، 1991)
تجاهلَ الباحثون نظرية ميلانكوفيتش لما يقارب 50 عامًا، ثم نُشرَت دراسة في مجلة العلوم «Science» في عام 1976 بحثت في نوى رواسب أعماق البحار ووجدَت أن نظرية ميلانكوفيتش في الواقع تتوافق مع فترات تغير المناخ وعلى وجه التحديد استطاع المؤلفون استخراج سجل تغير درجة الحرارة الذي يعود لما قبل 450.000 سنة مضت، ووجدوا أن الاختلافات الرئيسية في المناخ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتغيرات في هندسة المدار الأرضي «الانحراف والميل والمبادرة المحورية».
حدثت العصور الجليدية عندما كانت الأرض تمر بمراحل مختلفة من الاختلاف المداري ومنذ هذه الدراسة تبنى المجلس الوطني للبحوث التابع للأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة نموذج دورة ميلانكوفيتش.
»لا تزالُ الاختلافات المدارية هي الآلية الأكثر دراسة لقياس التغير المناخي على مقياس زمني مقدر بعشرات آلاف من السنين، وهي أوضح حالات التأثر بمقدار الاشعاع الذي يصلنا من الشمس وتأثيره على الغلاف الجوي السفلي للأرض« المجلس الوطني للبحوث 1982.