عهد الهولوسين أو العهد الهولوسينيّ (Holocene Epoch)، يُمثّل بالنّسبة لنا الفترة الجيولوجيّة الحاليّة. ويُستخدم مصطلحٌ آخر أحيانًا للدِّلالة على هذا العهد، وهو عهد الأنثروبوسين (Anthropocene Epoch)؛ وذلك لأنّ السّمةَ الأساسيّة الّتي يتميّز بها عن غيره هي التّغيّرات العالميّة النّاجمة عن النّشاط البشريّ.
يمكن أحيانًا أن يكون هذا المصطلح مُضلّلًا، مع ذلك؛ نشأ الإنسان الحديث قبل وقتٍ طويل من بداية عهد الهولوسين بالفعل.
بدأ هذا العصر قبل 11.5-12 ألف سنة، في نهاية العصر الجليديّ-الباليوثيّ[1]، واستمرّ إلى الآن.
ولمّا توجّهت الأرض نحو الاحترار العالميّ، تراجعت أنهار العصر الحجريّ الجليديّة، وفسحت السّهول الجرداء الباردة «التّندرا-Tundra» المجال للغابات.
وبِتَغيُّر المناخ، قِيدَت الثّدْييّات الكبيرة جدًّا؛ مثل الماموث، ووحيد القرن الصّوفيّ إلى الانقراض.
وبينما كان البشر يعتمدون على هذه الثّدييّات الكبيرة لتوفيرِ الغذاء، توجّهوا إلى التّغذّي على الطّرائد الصّغيرة، وازداد جمعهم للموادّ الزّراعيّة لدعم نظامهم الغذائيّ.
تشير الأدلّة إلى أنّ قبل 10,800 سنة تقريبًا، قاسى المناخ منعطفًا حادًّا باردًا، استمرّ لعدّة سنواتٍ.
لم تعُد وقتها الأنهار الجليديّة، لكنّ الطّرائد والموادّ الزّراعيّة أصبحت نادرة.
ولمّا بدأت درجات الحرارة بالانتعاش مُجدّدًا، تلا ذلك ارتفاعٌ تدريجيٌّ في الكثافة السّكّانيّة، وبدّأنا نحن بابتداع كلّ ما من شأنه تغيير الكوكب إلى الأبد.
إيتيمولوجيا مُصطلَحَي الهولوسين والأنثروبوسين
توجد اختلافاتٌ بين الهولوسين والأنثروبوسين.
فلو جئنا إلى الأصل اللغويّ للكلمتين، لوجدنا أنّ مصطلح «هولوسين» اقتُرح لأوّل مرّة في المُؤتمر الدّوْليّ الثّالث عام 1885.
وأصل المصطلح إغريقيّ، يأتي من كلمَتَيْن: الأولى (Holos)، وتعني «الكامل أو التامّ-Whole»، والثّانية هي (Kainos)، وتعني «الحديث أو الأخير-Recent»، كإشارة إلى أنّ هذا العهد الجديد، هو أحدث تقسيمٍ لتاريخ الأرض. مع ذلك، استَخدَم العديد من العلماء مصطلحًا آخر للدِّلالة إلى هذا العصر، مثل العهد «الحديث أو ما بعد الجليديّ»، حتّى عام 1967، حينما اعتمدت هيئة المسح الجيولوجيّ الأمريكيّة «الهولوسين» كمصطلحٍ رسميٍّ، وأوقفت استخدام مصطلح «الحديث» كإشارة إلى العهد الّذي نختبره الآن.
أمّا مصطلح «أنثروبوسين»، فقد اقتُرِحَ للإشارة إلى العهد الّذي بدأت فيه البشريّة بلعب دورٍ هامٍّ في التّأثير على جيولوجيّةِ الأرض والأنظمة البيئيّة.
لكن، لم يوافِق على هذا المصطلح رسميًّا أيٌّ من اللجنة الدّوليّة لعلم طبقات الأرض الصّخريّة، والاتّحاد الدّوليّ للعلوم الجيولوجيّة على السّواء.
يبدو أنّ مصطلح أنثروبوسين استُخدِمَ من قِبَل علماء السّوفييت في وقتٍ مبُكّر من السّتّينيّات، كإشارة إلى العهد الرّابع، وهو أحدث عهد جيولوجيّ معروف.
لكنّه أصبح يعني شيئًا مختلفًا في الثّمانينيّات بالنّسبة إلى عالِم البيئة يوجين ف.ستومير (Eugene F. Stoermer)، وقد شاعَ بشكلٍ واسعٍ من قِبَل كيميائيّ الغلاف الجوّيّ بول كروتزِن (Paul J. Crutzen)؛ الّذي يَعتبر أنّ تأثير الإنسان الحديث على الغلاف الجوّيّ في القرون الأخيرة، مهمٌّ جدًّا؛ لأنّه قادرٌ على تشكيل عصرٍ جديدٍ لغلاف الأرض الصّخريّ.
وتقترح ورقة منشورة في عام 2016 -عن التّحقيقات في البصمات الخاصّة المناخيّة والبيولوجيّة والجيوكيميائيّة الّتي يُحدثها البشر في الرّواسب والعينّات الجليديّة- أنّ المرحلة الجديدة الّتي بدأت من منتصف القرن العشرين، ينبغي الاعتراف بأنّها مرحلة جيولوجيّة متميّزة في الهولوسين.
في عام 2008، قُدِّم اقتراح إلى لجنة علم طبقات الأرض في المجتمع الجيولوجيّ في لندن، لجعل الأنثروبوسين وَحْدة رسميّة تمثّل قسمًا من العصور الجيولوجيّة الّتي شهدتها الأرض.
أخذت الغالبيّة العظمى في اللجنة الاقتراح بعين الاعتبار، وقرّرت بأنّ الموضوع يحتاج إلى المزيد من الدّراسة والتّحقيق.
وتَوَالَت بعد ذلك الأبحاث والدّراسات من قِبَل بعض المجتمعات الجيولوجيّة، لتحديد ما إذا كان الأنثروبوسين يستحقّ أن يمثّل عصرًا جيولوجيًّا مُستقلًّا.
وتتابعت التّفاصيل بعد ذلك أيضًا في تحديد الوقت الّذي يُمثّل بداية هذا العصر، والسّمات الّتي يتميّز بها.
مصطلح «أنثروبوسين» هو مزيجٌ من جذرين إغريقيَّين: الأوّل هو (Anthropo)، ويعني «الإنسان-Human»، والثّاني هو (Cene)، ويعني «جديد أو حديث-New». وتُشير كلمة «حديث»، إلى الوقت الّذي انتهت فيه جميع عُصور حقبة الحياة الحديثة «السّينوزويك-Cenozoic». وباختصار جميع التّعقيدات الإيتيمولوجيّة، يظهر لنا بأنّ الأنثروبوسين يُشير إلى فترة زمنيّة أحدث من الهولوسين؛ أيْ أنّ الهولوسين هو مصطلح أشمل من الأنثروبوسين، إلّا أنّ هذا الأخير يُشير إلى فترّة ليست بعيدةً ألبتّة.
كما أنّ موسوعة ويكيبيديا تُفرد كِلا المصطلحين بمقالٍ مستقلٍّ شامل.
ازدهار وتأصّل الزّراعة
تعتبر الزّراعة واحدة من الطّرق الرّئيسيّة الّتي تمثّل تأثير النّشاط البشريّ على كوكب الأرض.
بالرّجوع إلى 8 آلاف سنة قبل الميلاد، انتشرت زراعةُ القمح والشّعير من أصولها في الهلال الخصيب (Fertile crescent) عبر العالم الهندو-أورُبّيّ.
يشتمل الهلال الخصيب على نهر دجلة والفرات، والجزء السّاحليّ من بلاد الشّام.
وقد بدّأ تدجين الخِراف والماعز والماشية في الوقت نفسه تقريبًا.
في أمريكا الوسطى والجنوبيّة، كانت النّباتات الأكثر انتشارًا في الوسط البشريّ هي الذّرة، والكالاباش جاف (نبتة من الفصيلة القرعيّة) والقرع والفاصولياء.
ويبدو أنّ الزّراعة قد تأخّرت قليلًا حتّى بدأت في آسيا.
تُشير الأدلّة الحاليّة إلى أنّ الزّراعة قد أُدخِلَت إلى الصّين عن طريق التّجارة مع القبائل الهندو-أورُبّيّة، على الرّغم من أنّه يبدو بأنّ الزّراعة قد أصبحت شيئًا شائعًا بحلول بداية عهد حكم أسرة شانغ الصّينيّة في نحوِ 1675 قبل الميلاد، الّتي حكمت مناطقَ مختلفة في وادي النّهر الأصفر (نهر من أنهار الصّين).
كانت البشريّة حتّى ظهور الزّراعة والتّحضّر ما زالت محكومة بشكلٍ كبيرٍ بالعوامل عينها الّتي تحكم الكائنات الحيّة الأُخرى.
وتشمل العوامل المُحدِّدة في البيئة توافر الغذاء والماء والمأوى والعلاقات التّطوّريّة المختلفة، كالعلاقة القائمة بين المفترس والفريسة، ووجود العوامل الممرضة؛ جميع هذه العوامل مُهمّة في الحفاظ على التّوازن الطّبيعيّ للكثافة السّكّانيّة.
إنّ أيّ كثافة سكّانيّة يمكنها أن تنمو باطّرادٍ إلى أن تصل للقدرة الاستيعابيّة النّهائيّة -وهي تلك القدرة الّتي تصف العدد الأقصى من أفراد النّوع الواحد الّذي تقدر بيئة معيّنة على استيعابه، دون وجود آثار ضارّة، وفي أيّ وقتٍ سيستقرّ النّموّ.
فاستمرار التّوسّع خارج القدرة الاستيعابيّة سيتبعه انهيارٌ عامّ بلا شكّ- أيْ هُبوطٌ سريعٌ إلى مستوًى أقلّ بكثير من القدرة الاستيعابيّة.
وإذا كان التّنوّع الجينيّ كافيًا، فقد تُحافظ البشريّة على وجودها، وقد تُقاد إلى الانقراض أيضًا.
بدأ البشر بالتّغلّب على هذه القيود شيئًا فشيئًا في بداية أوّل قرنٍ بعد الميلاد.
وزادت الزّراعة من عدد الأشخاص المُعتَمِدين على البيئة، أو المدعومين من قِبَلِها: لقد كُنّا «الحيوانات» الأولى الّتي اضطلعت بزيادة القدرة الاستيعابيّة لبيئتها الخاصّة الّتي تحكم موطنها.
أخذت الكثافة السّكّانيّة بالازدياد تدريجيًّا.
لقد كان على الأرض 170 مليون شخصٍ تقريبًا في نهاية القرن الأوّل بعد الميلاد، أمّا بحلول عام 1800، فقد تجاوزت البشريّة المليار.
سمحت الثّورة الصّناعيّة في القرن التّاسع عشر للكثافة السّكّانيّة بالنّموّ باطّراد.
وساعدت مجالات التّصنيع، ومرافق الصّرف الصّحّيّ المُحسّنة، والرّعاية الصّحّيّة على خفض مُعدّلات الوَفَيَات، بينما استمرّت معدّلات الولادة بالصّعود في مختلف أنحاء العالم.
لقد سانَدَنا العلم في عمليّة زيادة القدرة الاستيعابيّة لكوكبنا، لكن ليس لحجمِهِ!
انقراض الهولوسين
كانت لزيادةِ الضّغط السّكّانيّ آثارٌ بعيدةٌ على التّنوّع البيولوجيّ لكوكبنا.
شهدت الأرض ما لا يقلّ عن خمسة انقراضاتٍ جماعيّةٍ كبرى (هناك أوقات انقرض فيها ما نسبته 60% من الأجناس الحيّة بغضون فترةٍ لا تزيد عن بضع مئات الآلاف من السّنين).
وليسَ غريبًا على معظم النّاس آخر انقراضٍ جماعيّ خَتَمَ العصر الطّباشيريّ قبل 65 مليون سنة، وأدّى إلى انقراض الدّيناصورات.
يعتقد الكثير من العلماء بأنّنا في خضَمِّ الانقراض الجماعيّ السّادس، الّذي نحن مَنْ سنسبّبه لأنفسنا.
بالاعتماد على الكثافة السّكّانيّة المطلوبة للحفاظ على الّنوع والسّلامة الجينيّة، تُشير التّقديرات إلى أنّ 30% من النّباتات والأنواع الحيوانيّة ستنقرض في غضون المئة سنةٍ القادمة.
تدمير موطن الكائنات الحيّة هو السّبب الرّئيسيّ الّذي سيسبّب الانقراض النّوعيّ في عصرنا.
ولقد كانت لدينا تأثيرات هامّة على الخصائص الجيوفيزيائيّة للأرض.
إنّ الزّراعة الأُحاديّة (Monoculture) أثّرت في تكوين وخصوبة التّربة في معظم الأراضي الصّالحة للزّراعة في مختلف أنحاء العالم.
والزّراعة الأُحاديّة؛ هي تلك الّتي تُكرّس مساحاتٍ شاسعة لنوعٍ واحدٍ من المحاصيل.
وقد تمّ التّخفيف من حدّة هذا التّأثير باستخدامِ الأسمدة الكيماويّة، لكنّه بالطّبع لا يقضي على المشكلة.
وأدّى استنزاف المياه الجوفيّة إلى قلّة توفّر المياه العذبة على مستوى العالم.
لقد اعتمدنا في التّقسيم الجيولوجيّ الزّمنيّ لفترات الحياة على التّغيّرات في أشكال الحياة على الأرض في أوقاتٍ مختلفة.
في الماضي، كانت تغيّرات المناخ بالعادةِ متزامنةً مع الانقراضات الجماعيّة.
ولمّا كان الجدل قائمًا حول ما إذا كان البشر جزءًا من الأسباب الّتي قادت إلى الاحترار العالميّ المستمرّ، فليس هناك أي شكّ بأن الأرض قد عانت من التّغيّرات المناخيّة على مرّ العصور.
وربّما نحن قريبون من نهاية عصر الهولوسين أيضًا.
الهوامش:
[1] قد يبدو اسم (العصر الجليدي-الباليوثي) غريبًا، وغير معهود على مرّ السلسلة كلّها، لأن هذا الاسم ينتمي الى التصنيف الثاني لعصور الأرض التّاريخية (ما قبل الميلاد) ويسمى بـ «نظام العصور الثلاث» وهي: العصر الحجريّ والعصر البرونزيّ والعصر الحديديّ.
ويعتبر كريستيان تومسون (Ch.Thomson) أمين المتحف الدنماركي في كوبنهاغن، هو واضع هذا التصنيف في عام 1816م.