ميلان كونديرا.. رواية الذين فقدوا أوطانهم وماضيهم
عمر أبو سمرة
أذكر جيّدًا شعوري بالغرابة الشديدة والإرهاق عندما قرأت رواية ميلان كونديرا "كائن لا تُحتَمل خفّته" للمرّة الأُولى، وكنتُ لم أتجاوز السابعة عشرة. كنتُ في حالة إنكار ذاتي. لم أفهم الكتاب جيّدًا وقتَها، وكان من الصعب إدراك تفاصيله الصغيرة والدقيقة. لقد استهجنتُ محتواه، لكنّه بقي عالقًا في ذاكرتي لسنوات عديدة، ولم أستطع إبعاده من رأسي، أو التخلّص من مشهد المرآة المعلّقة على سقف الغرفة. لم أستطع التخلّص من فكرة التكرار، وأنّ هذا التكرار سيستمرّ إلى ما لا نهاية.
لم أستطع التخلّص من فكرة الثقل والخفّة. لقد استولت عليَّ أفكار كونديرا وأسلوبه الروائي، لكنّي لم أستسلم. باشرت بعدها بقراءة "الحياة في مكان آخر"، وشعرتُ بالذهول مرّةً أُخرى مع آخر كلمات الرواية: "كلّا، لا وجود للهب، فهو سيَغرق في الماء. كان ينظر إلى وجهه على صفحة الماء، ورأى فجأةً على هذا الوجه ذعرًا كبيرًا، وكان ذلك آخر ما رأى".
لقد أصابني ذعر كبير أثناء قراءة كونديرا. وبالطبع، شعرت بتلك الغصّة أثناء قراءة "البطء" و"الهوية" و"الجهل"، وشعرت بأنّ الإنسان الذي يستحضره هو ذلك الإنسان المهزوز من الداخل، والذي يشعر بديمومة قاتلة من الاغتراب؛ حيث لا يَعرف بلدًا ولا وطنًا، بل يصارع الوضع الراهن، لأنّه خسر تاريخه وماضيه.
كتب عن الإنسان المهزوز من الداخل، والذي يشعر بديمومة الاغتراب
يُنظر إلى كتابة كونديرا على أنها كتابة فلسفية وجريئة بالدرجة الأولى؛ فهي تناقش أفكارًا عن التحرّر والأخلاق والخلود والجشع البشري، كما أنّها تستحضر بوضوح بيئة تشيكوسلوفاكيا ما بعد الحربَين العالميتَين الأولى والثانية، والشيوعية، والحكم الشمولي. وبالطبع لا يخلو الأمر من السبر العميق لمواضيع المنفى والاغتراب والجسد والجنس. وهو لم يكتف بهذه الموضوعات، بل تطرّق لموضوعات سياسية مثل السلطة والحكم الشمولي، كما تناول، في العديد من كتبه، إشكاليات حول فنّ كتابة الرواية.
تجربة كونديرا الأدبية فريدةٌ من نوعها، لأسباب عديدة من بينها تنوُّع رواياته من حيث الشكل والطول والموضوعات. ويمكن أن نقسّم نتاجه الأدبي إلى ثلاث فئات: ثلاثة كتب ألّفها في أوساط العمر: "كتاب الضحك والنسيان" (1978)، و"كائن لا تُحتمل خفّته" (1984)، و"الخلود" (1988)، وكتب ذات طابع هزلي: "المزحة" (1965)، و"الحياة في مكان آخر" (1969)، و"فالس الوداع" (1972)؛ وفيها استحضر تاريخ تشيكوسلوفاكيا وبيئتها الثقافية، وكتب أُخرى صغيرة ومقتضبة مثل: "البطء" (1995)، و"الهوية"، (1986)، و"الجهل" (2000)؛ وهي أعمال ذات طابع فلسفي.
خسرت الساحة الأدبية في الفترة الأخيرة كُتّابًا قرأنا لهم بشغف وأحبننا أعمالهم، مثل خابيير ماريس وكروماك مكارثي. وها نحن نودّع كاتبًا مهمّا آخر سيبقى في ذاكرة الرواية وذاكرة قرّائه الذين سيعيشون مع أفكاره وصراعاته حتى النهاية... ميلان كونديرا ذلك الكائن الذي تُحتمل خفّته وبشدّة.
* كاتب من فلسطين