أحمد شافعي
من منا لا يوهم نفسه بأنه يدرس المجتمع بمتابعة قاذوراته لكي لا يلوم نفسه على الساعات التي يهدرها كل يوم محملقاً في الهاتف؟
لعل كثيرين من قراء هذا الأسطر يعرفون نعومي كلاين، فلها كتابان مترجمان إلى العربية، فضلاً عن مقالات تظهر بين الحين والآخر، وهي مثلما يعرف قراؤها ولمن لا يعرف ناشطة مناهضة للعولمة ومعارضة للرأسمالية وحادة النقد في تحليلاتها السياسية والاقتصادية للشركات الكبرى ومناصرة للبيئة، غير أن قراء كتابيها المترجمين إلى العربية وهما "لا شعار" و"عقيدة الصدمة" قد لا يجدون نعومي كلاين نفسها التي يعرفونها بالضبط في كتابها الجديد، فكأن أحدهم يشتري نعومي ليحصل على الثانية مجاناً وقد صدر الكتاب الجديد أخيراً في أكثر من 400 صفحة بعنوان "الشبيهة: رحلة في عالم المرآة".
تكتب مديرة برنامج التقارير الثقافية والنقد في "جامعة نيويورك" كيتي رويف ضمن استعراضها للكتاب ["نيويورك تايمز"، في السابع من سبتمبر (أيلول) 2023]، "تشعر وأنت تقرأ كتاب ’الشبيهة‘ الجديد للناشطة والكاتبة اليسارية نعومي كلاين وكأنك تسقط في جحر أرنب، غير أنه جحر مربك وحافل بالمعرفة. تبدأ الرواية التي تحكيها كلاين في هذا الكتاب بخلط في مواقع الإعلام الاجتماعي بينها ونعومي وولف، المثقفة النسوية التي تحولت إلى مناهضة شرسة للقاح، وتطلق عليها كلاين ’شبيهتي ذات الشعر الضخم‘".
والمناهض للقاح بحسب قاموس "ميريام وبستر" الأميركي هو من يعارض استعمال بعض أو جميع اللقاحات والتطعيمات، ويعارض القواعد التي تفوض بالتطعيم، أو كليهما في العادة، أي اللقاحات والقواعد، أو المعارض لتطعيم أبنائه، وفي موقع المعجم على الإنترنت إضافات جانبية منها أنه "نتيجة لوباء كورونا، تزايد استعمال مصطلح مناهض اللقاح (anti-vaxxer) واتسع ليشمل الآن من يعارضون القواعد التي تشترط التطعيم للسماح بالمشاركة في أنشطة معينة من قبيل الحضور في المدارس".
تكتب محررة مجلة "ذا نيوريببليك" لورا مارش ضمن استعراضها للكتاب ["ذا نيوريببليك"، في الخامس من سبتمبر 2023] أن نعومي وولف في فترة وباء كورونا كانت تروج عبر موقع "تويتر" في العادة لتخرصات من قبيل أن رئيس فرقة العمل المعنية بـ"كوفيد-19" في البيت الأبيض أنطوني فاوتشي هو الشيطان، أو أن الأطفال الذين يرتدون الكمامات فقدوا القدرة على الابتسام، أو أن اللقاحات هي في واقع الأمر "برامج يمكن تحميلها"، أو أنها اكتشفت مؤامرة من شركة "أبل" لتوفير لقاحات مزودة بجزيئات نانوية تمكن حامليها من السفر عبر الزمن فتسببت في موجة ذعر [تبين لاحقاً أن أساس هذه الفرية لم يكن غير حوار دار على مائدة مجاورة في مطعم ويتعلق بساعة "أبل"].
ما الذي جرى؟
تتساءل لورا مارش "أهذه هي نفسها نعومي وولف مؤلفة أطروحة ’أسطورة الجمال‘ النسوية المقروءة على نطاق واسع والكاتبة القديمة في صحيفة ’ذا غارديان‘ الليبرالية والوجه المألوف على الشاشات الليبرالية الراسخة منذ التسعينيات؟ ما الذي جرى لها؟".
غير أن هذا لم يكن السؤال الذي شغل نعومي كلاين نفسها. تكتب كيتي رويف أن "الناس كانوا يقولون كلما جاءت نعومي وولف بشيء من غرائبها هذه إن هذه أفكار نعومي كلاين ومقولاتها".
كان الخلط بين الاثنتين قديماً، فـ"قد كانت كلاين في حمام عام بـ’وول ستريت‘ أيام تظاهرات الاحتلال عام 2011، وسمعت بأذنيها من ينتقدونها في الخارج. فقط لم تكن هي التي يتكلمون عنها، ولكنهم خلطوا بينها و نعومي وولف مؤلفة كتاب ’أسطورة الجمال‘".
كانت تلك لحظة غريبة بالنسبة إلى كلاين بحسب ما تكتب أوفي باري ضمن استعراضها للكتاب ["اندبندنت الإيرلندية"، في الخامس من سبتمبر 2023]، مضيفة أن كلاين "على مدى السنين التالية تابعت هويتي النعومين وهما تزدادان انصهاراً على مواقع التواصل الاجتماعي في معظم الحالات".
تكتب باري أنه "مع إغلاق كورونا للعالم، انتقلت كلاين إلى ريف كندا برفقة زوجها وطفلهما، وصار وجود وولف بوصفها شبيهة أمراً متزايد الإزعاج لكلاين"، وهو أمر بديهي كما تقول كيتي رويف، فمن الطبيعي أن تنزعج كلاين الكاتبة الجادة لمؤلفات من قبيل "لا شعار" و"عقيدة الصدمة"، من الخلط بينها وبين أخرى "لا يبدو أنها قادرة على التفرقة بين إجراءات صحية عامة وانقلاب".
تكتب لورا مارش أن كلاين اضطرت إلى تغيير سيرتها الذاتية على "تويتر" لتقصرها على "لست تلك النعومي"، ولم تزد على ذلك كثيراً مكتفية بصمت رزين تبين لاحقاً أنه كان محض قشرة هشة.
تكتب رويف "في البداية، حاولت نعومي تجاهل نعومي، ثم بدأت بمتابعة جنونية لصعود نعومي وولف في ما تطلق عليه ’العالم المرآوي‘، وهو عالم قوامه نظريات المؤامرة وبارانويا اليمين. كانت نعومي كلاين تختبئ من أسرتها في فترة الوباء لتتابع نعومي وولف وتسمعها، وتحللها أيضاً، محولة ذلك إلى تحقيق استقصائي دقيق وبارع لثقافة الإنترنت كلها".
بمتابعتها الجنونية لنعومي الأخرى، تحاول نعومي كلاين أن تواجه وتفهم ما يحاول معظم الليبراليين اجتنابه أو الانصراف عنه. ولا تستسلم لغواية الإعراض عن وولف وغيرها من أهل العالم المرآوي باعتبارهم تافهين أو مجانين، بل إنها تغوص في تقصي ما يشغلهم وتبين سر جاذبيتهم.
وتكتب أوفي باري أن كتاب "الشبيهة" يتنقل من خلال دراسة حال الشبيهة وحال "العالم المرآوي"، وينضفر الخطان وينفصلان متماسين مع مواضيع من قبيل معلومات كورونا المغلوطة ونظريات المؤامرة وضبط محتوى الإنترنت ونظرية مؤامرة "كيو أنون" ومناهضي التطعيم وتغير المناخ وحماية السلامة البدنية ورأسمالية المراقبة والصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. والنطاق شديد الاتساع لدرجة أن القارئ في بعض الأوقات يتساءل كيف يتسنى أن تترابط كل الأشياء على هذا النحو، لكن كلاين قادرة دائماً على ضبط الخيوط المشتركة حتى لو حادت عنها قليلاً.
في اليمين واليسار
تقول لورا مارش إن قصة الشبيهة هذه تصلح منفردة لدراسة نفسية ولاستقصاء فكرة القرين في الفن والتاريخ، وتصلح لدراسة آثار وسائل التواصل الاجتماعي المربكة، والإحساس بالدوار عند النظر إلى مرآة مشوهة، "لكن الموضوع الأكبر لكتاب ’الشبيهة‘ أشد تعقيداً من ذلك كله. فالسؤال الهادي له هو كيف انفصل كل أولئك الناس خلال الأعوام الأخيرة عن الالتزام السياسي التقليدي باليمين واليسار ونبذوا الفهم المشترك للواقع وعبروا إلى عالم المرآة، عالم الشخصيات الغريبة والسياسات المقلوبة رأساً على عقب، حيث الحقائق عشوائية وحيث يمكن لأشخاص لا يزالون يقدمون أنفسهم بوصفهم ليبراليين أن يشتركوا في قضية واحدة مع فاشيين مؤمنين بنظريات المؤامرة"
في البداية كان الخلط بين النعومين قليلاً، فلكل منهما شخصيتها المستقلة، وولف مهتمة بالنسوية وكلاين مهتمة باستغلال الشركات، الأولى أصدرت كتاب "أسطورة الجمال" والثانية أصدرت كتاب "لا شعار"، ولم يكن من تشابه إلا أن الاثنتين مهتمتان بالأفكار الكبرى، ثم بدأت المشكلات قرابة عام 2007 بحسب ما تعتقد كلاين، "حينما بدأت وولف تكتب كتابات عامة في مواضيع ذات صبغة سياسية، فبدا على مستوى السطح في الأقل أنهما تكتبان في مواضيع متماثلة. ركز كتاب "نهاية أميركا" لنعومي وولف على مؤسسات النخبة، مثلما فعل كتاب "عقيدة الصدمة" لنعومي كلاين وإن بنهج ونبرة مختلفين أشد الاختلاف، وكتبت كلاين عن الصفقة الجديدة الخضراء [وهي خطة بدأت عام 2006 تهدف إلى بيئة نظيفة تماماً بحلول 2030]، وكذلك فعلت وولف مع إضافة بعض المؤامرات، وكتبت كلاين عن أخطار الهندسة الجيولوجية في رد فعل على أزمة المناخ تقريباً في مثل الوقت الذي انشغلت فيه وولف بالتكهن عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول زرع السحاب الكيماوي وحالات التسمم الجماعي السرية.
تقول لورا مارش إن كتابات وولف في هذه القضايا يمكن أن تعد بمثابة نسخة من كتابات كلاين، لكنها مشوهة في مرآة من بيت المرايا في الملاهي، وقد اكتست بطبقة من النظريات الملتهبة والتحذيرات العاجلة، وتضيف أن "التمييز بين هاتين النسختين يعني أن نتبين دقة إحداهما في مقابل مغالاة الأخرى، ورؤية الفارق بين الاستعمال الصارم للمصادر في مقابل القفز المذعور على المنطق. ولا يصعب علينا أن نتخيل كيف يمكن بل يسهل أن تغيم الحدود بين النسختين في ذهن القارئ العادي"، وعلى رغم أن كلاين معادية للتفكير المؤامراتي في تناولها لكل مواضيعها فهي لا ترى أن الربط بينها ونعومي الأخرى متعمد، بل تقول ببساطة إنه "محض حظ عثر".
أهل هذا الزمان
لكن لعل لوم الحظ في هذا الأمر لا ينم عن بساطة موقف كلاين فحسب، ولكن لعله أيضاً ينم عن بساطة في التفكير، أو نزوع إلى الاستسهال، إذ ما الفرق حقاً بين لوم الحظ ولوم المؤامرة؟ كلاهما يوشك أن يعفي المرء حتى من مهمة التفكير ناهيكم عن العمل. والحق أن تفسير الخلط بين كاتبتين كهاتين لا يمكن أن يوعز إلى تناولهما المواضيع نفسها والاكتفاء بهذا، فهذا دأب المواضيع على مدى تاريخ الإنسانية كلها، وإلا فأي موضوع هذا الذي لم يتناوله إلا كاتب واحد فبات الكاتب معروفاً بموضوعه والموضوع معروفاً بكاتبه؟ ربما يمكن أن يلام مناخ الإنترنت نفسه، مناخ القراءة المتعجلة الملهوفة والقراءة بنية الكتابة ولو لم تتجاوز الكتابة التعليق الوجيز الضحل غالباً في ذيل المقالة، أو التمهيد الوجيز الضحل غالباً في أعلى الرابط. ولم تكن حال القراءة دائماً أن تفضي حتماً إلى كتابة، أو حتى إلى تعليق، وحتى حينما كانت تؤدي إلى أي من الأمرين، كان يليها أولاً، وعلى مدى تاريخنا كله، طور أوسط هو الفهم. ربما يمكن أن يلام المناخ الذي لا يكاد يعاقب الناس حينما يهرفون بما لا يعرفون، قبل أن يلام الحظ الذي جعلنا من أهل هذا الزمان، وهو جدير في هذا باللوم.
ولعل لورا مارش أوشكت أن تضع يدها على فكرة المناخ الرديء هذه حينما كتبت أن كلاين أرادت في البداية، حينما بدأ الخلط بينها ووولف بإثارة ضيقها أن تنأى بنفسها، لكنها بطريقة ما شعرت بأنها منجذبة "للسعي إلى فهم الرسائل والأسرار والهواجس" التي تظهر عند شبيهتها. "بدأت تقضي أمسيات في مشاهدة كل ’ما تستطيع العثور عليه في ما يتعلق بالأشباه والقرناء، سواء عند عالم نفس مثل كارل يانغ أو روائية إثارة مثل أورسولا كيه لوغوين، أو فيودور دوستويفسكي‘"، ونشأ لديها اشتباك نفسي وفكري حاد بحساب وولف في "تويتر"، ومن أكثر اللحظات فتنة في الكتاب تلك المناوشات المألوفة حول الاستعمال غير الصحي لمواقع التواصل الاجتماعي، كأن تقسم كلاين ألا تشاهد أي شيء يتعلق بوولف خلال إجازة في إحدى الجزر لتنتهي بها الحال وقد حنثت بقسمها في حماسة. تكتب لورا مارش "نشأ لدى كلاين هاجس قد يبدو شبيهاً بالمراقبة، إن لم يكن في حقيقة الأمر هو طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي ونموذج العمل الذي تقوم عليه أساساً".
هذه فقرة تشير إلى بعض المثالب الحقيقية في عصرنا، أعني ذلك الانجذاب شبه القسري من كلاين إلى متابعة وولف، وأهم من ذلك المساواة عند البحث في موضوع معين بين دوستويفسكي ويانغ ولوغوين على ما بين الثلاثة من مسافات، فهذه المساواة توشك أن تكون متفشية في كل شيء، تساوي بين الجد والهزل وبين السمين والغث، فتنزع القيمة عن كل شيء. وليس غريباً أن يلوث المناخ السائد أحدنا، بل لعل الغريب هو أن ينجو أحد من ذلك. من منا ليس لديه "وولفـ"ـه الذي ينهش سلامة وعيه؟ من منا الذي ليس لديه هذا الهاجس المسيطر عليه من دون جدوى، وليس بالضرورة أن يكون شبيهاً يقاسمه صورته عند الناس، لكنه ربما يكون أي شيء، شيخاً مثلاً جاهزاً دائماً بالفتاوى التي تبيح ما نشاء وتمنع ما نشاء، أو امرأة تتذرع بتنظيف بيتها لتوسخ أرواح مشاهديها، أو أهدافاً من مباريات زمن كانت كرة القدم فيه أقرب إلى الفن منها إلى سباقات السيارات؟ من منا لا يوهم نفسه أنه يدرس المجتمع بمتابعة قاذوراته وفقاقيعه لكي لا يلوم نفسه على ساعات طوال يهدرها كل يوم ولا يدرك أن وقته أثمن من أن يهدره فيها إلا عندما تنفد بطارية الهاتف؟
والحق أن نعومي كلاين تفطن في ما يبدو إلى هذا، إذ تكتب رويف أن كلاين "من خلال رصدها لمسار تطور شبيهتها [من المثقفة النسوية إلى المؤمنة بنظريات المؤامرة]، فضلاً عن رصدها لجيوب أخرى للبارانويا ازدهرت على الإنترنت أثناء الوباء، تتعقب كلاين كيف بدأ الليبراليون بحسن نية يتطابقون مع مناهضي اللقاح، فتكتب ’إننا نعرف أنفسنا بالمقابلة مع بعضنا بعضاً، غير أننا بطريقة ما نزداد تشابهاً في أن كل مجموعة تعقد العزم على أن تخرج المجموعة الأخرى من زمرة البشر‘".
ربما يكون نفي الآخر هذا هو أقل شيء ينفرد به زماننا عن الأزمنة السابقة، فثمة كما تقدم مثالب يحق لجيلنا أن يفخر بإضافتها إلى صحيفة خطايا البشرية، لكن حسبه أن كلاين تضع يدها من خلاله على أن الرداءة تعتري الجميع وأن الخلط بين الأضداد قد لا يكون مفتعلاً تماماً، وإنما هو محض عرض طبيعي لمرض مستفحل لأن هذه الأضداد ليست على القدر الموهوم من التميز أصلاً.