كايتي روسينسكي يحظى أدب الجريمة الحقيقية بشعبية كبيرة لكنه غالباً ما يعتبر نوعاً إشكالياً يقدم تياراً مستمراً من المحتوى عن الجرائم المظلمة والبغيضة. نستكشف موجة من الروايات الجديدة التي تحلل طريقة رواية هذه القصص وسبب شهيتنا المفتوحة لها.
"هل استمعت إلى المدونة الصوتية؟" يسأل الراوي في رواية إليزا كلارك الجديدة “توبة” Penance. إذا كنتم عادة تبدؤون نهاركم بالضغط على زر "التشغيل" للاستماع إلى مناقشة أخرى حول جريمة قتل مروعة، فإن هذا الخطاب المباشر قد يجعلكم تشعرون بارتعاش في المعدة. الكتاب الثاني لـ كلارك، التي ظهرت أخيراً في القائمة القصيرة لمجلة غرانتا الأدبية للروائيين المرموقين الشباب، هو سرد غير خيالي "مؤلفه" صحافي يدعى أليك كيرلي. "هل ألقى المقدم نكاتاً؟ هل لديك روح دعابة سوداء؟ هل جعل ذلك الأمر على ما يرام؟"، يتحقق كيرلي "أم أن لديهم حساسية تجاه ذلك؟ هل أضافوا المؤثرات الصوتية في المواضع المناسبة؟".
من الصفحة الأولى، تعتبر "توبة" انتقاداً قوياً للطرق التي قد نجهد بها لتسويغ اهتمامنا بقصص الحياة الواقعية حول القتلة والقضايا القديمة وعمليات الاختطاف وغيرها من الموضوعات غير الهنيئة. نشعر بالضيق وبالتواطؤ في الجريمة حتى - وهذا قبل أن نكون على علم بالتفاصيل الدموية لهذه القضية (الخيالية). طوال الرواية، تجعل كلارك من الصعب عدم مواجهة الأخلاقيات القاتمة لاستهلاك قصة جريمة حقيقية مثل هذه. كتابها هو الأحدث في موجة من الروايات التي تطرح أسئلة غير مريحة حول هذا النوع الأدبي، وتختتم النقاش بذكاء بفضل حبكة جذابة تأسر القارئ.
تدور أحداث "توبة" في بلدة سياحية باهتة في شمال شرقي إنجلترا، وترسم الأحداث التي أدت إلى وفاة جوني ويلسون، ابنة الستة عشر ربيعاً التي تم إحراقها حية على يد ثلاثة من زملائها في الفصل الدراسي عشية الاستفتاء على العضوية في الاتحاد الأوروبي الذي جرى عام 2016. يعني هذا التوقيت أن القصة مدفونة تحت ركام من تغطية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ما يجعلها ناضجة كفاية ليعاد تقييمها لاحقاً من قبل هواة الجريمة الحقيقية وصحافيين أمثال كيرلي. تجعلنا كلارك نتساءل ما نوع القضايا التي تكتسب مكانة تجعل لها مريدين. هل يمكن أن تكون الجريمة الأخلاقية الحقيقية أكثر من مجرد تناقض في المصطلحات؟ وما هي العواقب في الحياة الحقيقية المترتبة على النشأة على الاستهلاك الرقمي لقصص العنف الحقيقية وقصص القتلة المتسلسلين؟
ليس اهتمامنا بالقضايا الجنائية بالأمر الجديد، إذ لطالما كانت لأدب الجريمة "علاقة طفيلية بالجريمة الحقيقية"، كما يقول روائي الجريمة أوليفر هاريس، كبير المحاضرين في الكتابة الإبداعية في جامعة مانشستر متروبوليتان. يشرح أن هذا النوع كان متجذراً في "منشورات القرنين السابع عشر والثامن عشر التي تتناول قضايا المحاكم والمجرمين وأن الشهية للجانب المظلم" استمرت في العصر الفيكتوري. في بداية عهد الملكة فيكتوريا، كان ما يسمى بروايات نيوغيت – وهي حكايات ميلودرامية مستوحاة من جنح حقيقية - تحظى بشعبية كبيرة ومثيرة للجدل بشدة، واتهمت بتمجيد الإجرام.
يقول هاريس إنه بعد ذلك "خلال القرن العشرين، عندما أصبحت الأخبار مهووسة بالقتلة المتسلسلين، يمكنك رؤية تأخر زمني واضح... ستجد [تلك القصص] على الصفحات الأولى لكل الصحف، وبعد عام أو عامين، ستتحول إلى روايات: يمكنك رؤية عملية تعلق الكتّاب أنفسهم بهذه القصص، وإدراك مدى روعتها". كانت أكثر الروايات تأثيراً - وإثارة للاهتمام - في القرن العشرين عن الجريمة الحقيقية، هي بالتأكيد رواية ترومان كابوتيه "بدم بارد" In Cold Blood، روايته "غير الخيالية" عن جرائم قتل عائلة من كانساس عام 1959. كتب كابوتي الرواية بينما كانت القضية ما زالت تتكشف وأجرى مقابلات مع سكان محليين ومحققين واثنين من القتلة. في وقت لاحق، تم الطعن في صحة قصته، حيث ادعى الأشخاص الذين تناولهم في كتابه أنه قام بتلفيق مشاهد أو تحريف الحوار.
لقد كان ازدهار المدونات وصعود البث التدفقي هو الذي أدى إلى إدخال هذا النوع الأدبي إلى التيار الثقافي السائد في العصر الحديث. يمكنكم تتبع هوسنا الحالي بالجرائم الحقيقية إلى عام 2014 الذي شهد إصدار مدونة "متسلسل" Serial الصوتية التي تستكشف وفاة الطالبة هاي مين لي في سن الثامنة عشرة في عام 1999 وتأثيم خليلها السابق عدنان سيد، في عام 2015 حققت شبكة "نتفليكس" نجاحاً كبيراً بسبب سلسلة "صناعة مجرم" Making A Murderer الوثائقية التي تروي قصة ستيفن أفيري، رجل من ولاية ويسكنسن حُكم عليه بتهمة قتل المصورة تيريزا هالباخ في عام 2005. ألهم نجاح المدونة والسلسلة عدداً لا يحصى من النسخ المقلدة عبر الوسيطين، تتفاوت بشكل كبير في نبرتها حيث تتراوح بين رواية القصص بشكل رصين وحذر إلى الإثارة اللطيفة وما يسمى بالفكاهة "الحادة" (تمت السخرية من هذه الأخيرة في نصوص المدونة الصوتية الوهمية في "توبة"، المأخوذة من برنامج بعنوان "تبوّلت على قبرك").
تقول أليس سليتر، التي تتصارع روايتها الأولى "موت بائعة كتب" Death Of A Bookseller مع عواقب الاستهلاك المستمر وغير النقدي للجريمة الحقيقية: "مع تضخم العصر الذهبي للجريمة الحقيقية إلى نقطة التشبع بدأ الأمر يبدو وكأنه كان هناك مزيد ومزيد من المحتوى الذي يقدم أقل وأقل... المدونات الصوتية أو المسلسلات التلفزيونية السابقة التي انتشرت على نطاق واسع كانت تقول شيئاً ما حقاً - سواء كنت توافق على ما تقوله أم لا، كان يتم طرح فكرة فنية أو سياسية. بدأت ببساطة أشعر أنني كلما استهلكت أكثر، قل ما كنت أكتسبه حقاً".
تضيف أن المدونات الصوتية المقلدة عن الجريمة الحقيقية لا "تتحدث عن الجوانب الأوسع [للقضية]... من التغيير الاجتماعي المحتمل الذي يمكن أن يكون وقائياً، إلى إلغاء عقوبة السجن، إلى العناصر السياسية التي تبني المشهد العام لنظام العدالة" – وأن كثيراً من البرامج التي استمعت إليها كانت في نهاية المطاف "سوداء وبيضاء للغاية، مؤيدة للسجن، أو حتى تلمح إلى كونها مؤيدة لعقوبة الإعدام". من دون مظهر الغطاء الرقيق للعدالة الاجتماعية، يمكن القول إن هذه القصص مجرد كاتالوغات عن التطرف. في حلقة حديثة من سلسلة "مرآة سوداء" Black Mirror بعنوان "لوخ هنري" تلخص شخصية المخرجة بيا التي تجسدها ميهالا هيرود الجاذبية الأساسية لهذا النوع الفني: "إنه “ما هذا بحق الجحيم؟” إنه “أعطني مزيداً من التفاصيل!” والتفاصيل مروعة جداً، إنه لا يقاوم". تحاول بيا إقناع صديقها وزميلها مخرج الوثائقيات بالاستفادة من علاقته الشخصية بقضية مروعة. تؤدي جهودها في النهاية إلى نتائج عكسية، حيث ستقلب ديناميكية الاستغلال رأساً على عقب بطريقة بشعة.
وصلت سليتر إلى "نقطة تحول حقيقية" مع الجريمة الحقيقية منذ حوالى خمس سنوات، عندما حضرت تسجيلاً مباشراً لمدونة "جريمة القتل المفضلة لدي" الصوتية My Favourite Murder (التي تتردد فيها عبارة "ابق مثيراً ولن تتعرض للقتل"). تقول: "بدأت حينها حقاً أشعر أن شيئاً ما لم يكن صائباً في طريقة تفاعلنا مع هذه القصص... لقد وجدت الأمر مخيفاً للغاية، وجودي في هذه الغرفة محاطة بآلاف الأشخاص يصفقون ويهتفون لهذه المعلومات المحزنة حقاً - الجناة يتجهون مباشرة نحو موتهم، وآخرون يموتون في السجن. وكان لدي هذا الإحساس الحقيقي بأنني معلقة على حبل المشنقة... في المملكة المتحدة، كنا نجتمع في ساحات الأسواق لمشاهدة عمليات الإعدام، وشعرت فجأة وكأنني في نسخة جديدة من هذا النوع من التلصص".
إنها تجربة كتبتها في الفصل الافتتاحي من روايتها. تتوجه روتش المهووسة بالجرائم الحقيقية إلى أكاديمية بريكستون لتسجيل برنامج شبيه جداً بـ "جريمة القتل المفضلة لدي" يحمل عنوان "فتيات الجريمة" (تتردد فيه عبارة: "سنراكم في الجحيم"). يناقش مقدمو المدونة القصة (الخيالية) سيئة السمعة لقاتل متسلسل من منطقة ولتهامستو في لندن، وجرائم القتل التي تتذكرها روتش بشدة لما كانت تسكن في المنطقة في سن المراهقة. عندما تعلم أن زميلتها لورا بائعة الكتب لديها علاقة شخصية بقضية مظلمة، فإنها تطور علاقة غريبة مع زميلتها والتي تشكل سلوكها بطرق مزعجة. إن هوسها بالجريمة الحقيقية له عواقب ملموسة، تماماً مثلما تقوم المواد الرقمية المظلمة التي يلتهمها الأبطال المراهقون في "توبة" في النهاية بتشكيل حياتهم الواقعية.
يؤدي تصوير معجبة خيالية بالجريمة الحقيقية إلى إثارة المآزق الأخلاقية لهذا النوع. إذا كانت روايتك تستكشف كيف يمكن لهذا الاستهلاك أن يشكلنا بطريقة أسوأ، فكيف يمكنك تناول هذه القصص الحقيقية من دون زيادة الطين بلة؟ تقول سليتر: "إنه شيء ناقشته كثيراً... كنت أشعر بعدم اليقين حقاً... هل سيكون من النفاق إنشاء هذا العمل، ثم تضمين أسماء القتلة المتسلسلين سيئي السمعة؟" في الوقت نفسه، شعرت أنها لو ملأت الرواية بقضايا مزيفة "سيكون السياق مفقوداً". في النهاية قررت "التمسك فقط بأبرز القضايا البارزة... لم أرغب في الدخول في منطقة ليست متغلغلة تماماً بالفعل داخل الثقافة الشعبية". مع ذلك، حتى هذا القرار كان شيئاً "واجهت صعوبات معه... وما زلت غير متأكدة مما إذا كنت قد اتخذت القرار الصحيح". تردد كلماتها صدى تعليقات قالتها كلارك أخيراً التي كانت روايتها مستوحاة من بعض الحالات الحقيقية. وقالت لمجلة "آن أذر": "في بعض الأحيان لا أشعر براحة بشكل خاص تجاه حقيقة أنني استخدمت حالات حقيقية أساساً".
يلاحظ هاريس أن المدونة الصوتية الخاصة بالجريمة الحقيقية "تواجه شهيتنا المعقدة" بطريقة لا تفعلها، على سبيل المثال، قراءة الأخبار أو مشاهدتها. يضيف أنك عندما تنتقي إحدى الصحف "أنت لا تختار عن عمد قضاء ساعة في الاستماع إلى قاتل متسلسل"، على كل حال، في حالة المدونة الصوتية أنت تختار ذلك. تقول ريبيكا مكاي، مؤلفة كتاب: "لدي بعض الأسئلة لك": "أنت تصادف أمثلة من ذلك تم تنفيذها بطريقة غير مسؤولة ثم تشعر بالاشمئزاز من الأمر، ثم في الوقت نفسه ترى مدونات صوتية أو حركات على الإنترنت قد حلت جرائم أو أخرجت شخصاً من السجن... تمثل الجريمة موضوعاً رائعاً للأدب المتخيل: إليك هذا الشيء المتناقض والمعقد بشكل كبير".
في رواية مكاي، تعود مقدمة المدونات الصوتية بودي كين إلى المدرسة الداخلية التي التحقت بها عندما كانت مراهقة، حيث تم تكليفها بتدريس أساسيات السرد الصوتي للقصص لفصل من طلاب الجيل زيد الجادين (الذين يدركون تماماً أن الجريمة الحقيقية يمكن أن تكون "نوعاً إشكالياً"، على حد تعبير أحدهم، إضافة إلى الأخطار المحتملة في أن تصبح المادة مجرد "فتاة بيضاء أخرى تضحك على القتل"). من أجل مشروعهم، يجب على المراهقين أن يختاروا موضوعاً متعلقاً بالمدرسة وكما هو متوقع يختار أحدهم حالة كتب عليها "الأكثر تنزيلاً من قبل مستخدمي أجهزة آبل": مقتل تاليا كيث في عام 1995، وهي إحدى الطالبات العتيقات الأكثر شعبية وشاركت بودي السكن ذات مرة، والإدانة الفاشلة المحتملة لمدرب الرياضة في المدرسة.
"هل استمعت إلى المدونة الصوتية؟" يسأل الراوي في رواية إليزا كلارك الجديدة “توبة” Penance. إذا كنتم عادة تبدؤون نهاركم بالضغط على زر "التشغيل" للاستماع إلى مناقشة أخرى حول جريمة قتل مروعة، فإن هذا الخطاب المباشر قد يجعلكم تشعرون بارتعاش في المعدة. الكتاب الثاني لـ كلارك، التي ظهرت أخيراً في القائمة القصيرة لمجلة غرانتا الأدبية للروائيين المرموقين الشباب، هو سرد غير خيالي "مؤلفه" صحافي يدعى أليك كيرلي. "هل ألقى المقدم نكاتاً؟ هل لديك روح دعابة سوداء؟ هل جعل ذلك الأمر على ما يرام؟"، يتحقق كيرلي "أم أن لديهم حساسية تجاه ذلك؟ هل أضافوا المؤثرات الصوتية في المواضع المناسبة؟".
من الصفحة الأولى، تعتبر "توبة" انتقاداً قوياً للطرق التي قد نجهد بها لتسويغ اهتمامنا بقصص الحياة الواقعية حول القتلة والقضايا القديمة وعمليات الاختطاف وغيرها من الموضوعات غير الهنيئة. نشعر بالضيق وبالتواطؤ في الجريمة حتى - وهذا قبل أن نكون على علم بالتفاصيل الدموية لهذه القضية (الخيالية). طوال الرواية، تجعل كلارك من الصعب عدم مواجهة الأخلاقيات القاتمة لاستهلاك قصة جريمة حقيقية مثل هذه. كتابها هو الأحدث في موجة من الروايات التي تطرح أسئلة غير مريحة حول هذا النوع الأدبي، وتختتم النقاش بذكاء بفضل حبكة جذابة تأسر القارئ.
تدور أحداث "توبة" في بلدة سياحية باهتة في شمال شرقي إنجلترا، وترسم الأحداث التي أدت إلى وفاة جوني ويلسون، ابنة الستة عشر ربيعاً التي تم إحراقها حية على يد ثلاثة من زملائها في الفصل الدراسي عشية الاستفتاء على العضوية في الاتحاد الأوروبي الذي جرى عام 2016. يعني هذا التوقيت أن القصة مدفونة تحت ركام من تغطية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ما يجعلها ناضجة كفاية ليعاد تقييمها لاحقاً من قبل هواة الجريمة الحقيقية وصحافيين أمثال كيرلي. تجعلنا كلارك نتساءل ما نوع القضايا التي تكتسب مكانة تجعل لها مريدين. هل يمكن أن تكون الجريمة الأخلاقية الحقيقية أكثر من مجرد تناقض في المصطلحات؟ وما هي العواقب في الحياة الحقيقية المترتبة على النشأة على الاستهلاك الرقمي لقصص العنف الحقيقية وقصص القتلة المتسلسلين؟
ليس اهتمامنا بالقضايا الجنائية بالأمر الجديد، إذ لطالما كانت لأدب الجريمة "علاقة طفيلية بالجريمة الحقيقية"، كما يقول روائي الجريمة أوليفر هاريس، كبير المحاضرين في الكتابة الإبداعية في جامعة مانشستر متروبوليتان. يشرح أن هذا النوع كان متجذراً في "منشورات القرنين السابع عشر والثامن عشر التي تتناول قضايا المحاكم والمجرمين وأن الشهية للجانب المظلم" استمرت في العصر الفيكتوري. في بداية عهد الملكة فيكتوريا، كان ما يسمى بروايات نيوغيت – وهي حكايات ميلودرامية مستوحاة من جنح حقيقية - تحظى بشعبية كبيرة ومثيرة للجدل بشدة، واتهمت بتمجيد الإجرام.
يقول هاريس إنه بعد ذلك "خلال القرن العشرين، عندما أصبحت الأخبار مهووسة بالقتلة المتسلسلين، يمكنك رؤية تأخر زمني واضح... ستجد [تلك القصص] على الصفحات الأولى لكل الصحف، وبعد عام أو عامين، ستتحول إلى روايات: يمكنك رؤية عملية تعلق الكتّاب أنفسهم بهذه القصص، وإدراك مدى روعتها". كانت أكثر الروايات تأثيراً - وإثارة للاهتمام - في القرن العشرين عن الجريمة الحقيقية، هي بالتأكيد رواية ترومان كابوتيه "بدم بارد" In Cold Blood، روايته "غير الخيالية" عن جرائم قتل عائلة من كانساس عام 1959. كتب كابوتي الرواية بينما كانت القضية ما زالت تتكشف وأجرى مقابلات مع سكان محليين ومحققين واثنين من القتلة. في وقت لاحق، تم الطعن في صحة قصته، حيث ادعى الأشخاص الذين تناولهم في كتابه أنه قام بتلفيق مشاهد أو تحريف الحوار.
لقد كان ازدهار المدونات وصعود البث التدفقي هو الذي أدى إلى إدخال هذا النوع الأدبي إلى التيار الثقافي السائد في العصر الحديث. يمكنكم تتبع هوسنا الحالي بالجرائم الحقيقية إلى عام 2014 الذي شهد إصدار مدونة "متسلسل" Serial الصوتية التي تستكشف وفاة الطالبة هاي مين لي في سن الثامنة عشرة في عام 1999 وتأثيم خليلها السابق عدنان سيد، في عام 2015 حققت شبكة "نتفليكس" نجاحاً كبيراً بسبب سلسلة "صناعة مجرم" Making A Murderer الوثائقية التي تروي قصة ستيفن أفيري، رجل من ولاية ويسكنسن حُكم عليه بتهمة قتل المصورة تيريزا هالباخ في عام 2005. ألهم نجاح المدونة والسلسلة عدداً لا يحصى من النسخ المقلدة عبر الوسيطين، تتفاوت بشكل كبير في نبرتها حيث تتراوح بين رواية القصص بشكل رصين وحذر إلى الإثارة اللطيفة وما يسمى بالفكاهة "الحادة" (تمت السخرية من هذه الأخيرة في نصوص المدونة الصوتية الوهمية في "توبة"، المأخوذة من برنامج بعنوان "تبوّلت على قبرك").
تقول أليس سليتر، التي تتصارع روايتها الأولى "موت بائعة كتب" Death Of A Bookseller مع عواقب الاستهلاك المستمر وغير النقدي للجريمة الحقيقية: "مع تضخم العصر الذهبي للجريمة الحقيقية إلى نقطة التشبع بدأ الأمر يبدو وكأنه كان هناك مزيد ومزيد من المحتوى الذي يقدم أقل وأقل... المدونات الصوتية أو المسلسلات التلفزيونية السابقة التي انتشرت على نطاق واسع كانت تقول شيئاً ما حقاً - سواء كنت توافق على ما تقوله أم لا، كان يتم طرح فكرة فنية أو سياسية. بدأت ببساطة أشعر أنني كلما استهلكت أكثر، قل ما كنت أكتسبه حقاً".
تضيف أن المدونات الصوتية المقلدة عن الجريمة الحقيقية لا "تتحدث عن الجوانب الأوسع [للقضية]... من التغيير الاجتماعي المحتمل الذي يمكن أن يكون وقائياً، إلى إلغاء عقوبة السجن، إلى العناصر السياسية التي تبني المشهد العام لنظام العدالة" – وأن كثيراً من البرامج التي استمعت إليها كانت في نهاية المطاف "سوداء وبيضاء للغاية، مؤيدة للسجن، أو حتى تلمح إلى كونها مؤيدة لعقوبة الإعدام". من دون مظهر الغطاء الرقيق للعدالة الاجتماعية، يمكن القول إن هذه القصص مجرد كاتالوغات عن التطرف. في حلقة حديثة من سلسلة "مرآة سوداء" Black Mirror بعنوان "لوخ هنري" تلخص شخصية المخرجة بيا التي تجسدها ميهالا هيرود الجاذبية الأساسية لهذا النوع الفني: "إنه “ما هذا بحق الجحيم؟” إنه “أعطني مزيداً من التفاصيل!” والتفاصيل مروعة جداً، إنه لا يقاوم". تحاول بيا إقناع صديقها وزميلها مخرج الوثائقيات بالاستفادة من علاقته الشخصية بقضية مروعة. تؤدي جهودها في النهاية إلى نتائج عكسية، حيث ستقلب ديناميكية الاستغلال رأساً على عقب بطريقة بشعة.
وصلت سليتر إلى "نقطة تحول حقيقية" مع الجريمة الحقيقية منذ حوالى خمس سنوات، عندما حضرت تسجيلاً مباشراً لمدونة "جريمة القتل المفضلة لدي" الصوتية My Favourite Murder (التي تتردد فيها عبارة "ابق مثيراً ولن تتعرض للقتل"). تقول: "بدأت حينها حقاً أشعر أن شيئاً ما لم يكن صائباً في طريقة تفاعلنا مع هذه القصص... لقد وجدت الأمر مخيفاً للغاية، وجودي في هذه الغرفة محاطة بآلاف الأشخاص يصفقون ويهتفون لهذه المعلومات المحزنة حقاً - الجناة يتجهون مباشرة نحو موتهم، وآخرون يموتون في السجن. وكان لدي هذا الإحساس الحقيقي بأنني معلقة على حبل المشنقة... في المملكة المتحدة، كنا نجتمع في ساحات الأسواق لمشاهدة عمليات الإعدام، وشعرت فجأة وكأنني في نسخة جديدة من هذا النوع من التلصص".
إنها تجربة كتبتها في الفصل الافتتاحي من روايتها. تتوجه روتش المهووسة بالجرائم الحقيقية إلى أكاديمية بريكستون لتسجيل برنامج شبيه جداً بـ "جريمة القتل المفضلة لدي" يحمل عنوان "فتيات الجريمة" (تتردد فيه عبارة: "سنراكم في الجحيم"). يناقش مقدمو المدونة القصة (الخيالية) سيئة السمعة لقاتل متسلسل من منطقة ولتهامستو في لندن، وجرائم القتل التي تتذكرها روتش بشدة لما كانت تسكن في المنطقة في سن المراهقة. عندما تعلم أن زميلتها لورا بائعة الكتب لديها علاقة شخصية بقضية مظلمة، فإنها تطور علاقة غريبة مع زميلتها والتي تشكل سلوكها بطرق مزعجة. إن هوسها بالجريمة الحقيقية له عواقب ملموسة، تماماً مثلما تقوم المواد الرقمية المظلمة التي يلتهمها الأبطال المراهقون في "توبة" في النهاية بتشكيل حياتهم الواقعية.
يؤدي تصوير معجبة خيالية بالجريمة الحقيقية إلى إثارة المآزق الأخلاقية لهذا النوع. إذا كانت روايتك تستكشف كيف يمكن لهذا الاستهلاك أن يشكلنا بطريقة أسوأ، فكيف يمكنك تناول هذه القصص الحقيقية من دون زيادة الطين بلة؟ تقول سليتر: "إنه شيء ناقشته كثيراً... كنت أشعر بعدم اليقين حقاً... هل سيكون من النفاق إنشاء هذا العمل، ثم تضمين أسماء القتلة المتسلسلين سيئي السمعة؟" في الوقت نفسه، شعرت أنها لو ملأت الرواية بقضايا مزيفة "سيكون السياق مفقوداً". في النهاية قررت "التمسك فقط بأبرز القضايا البارزة... لم أرغب في الدخول في منطقة ليست متغلغلة تماماً بالفعل داخل الثقافة الشعبية". مع ذلك، حتى هذا القرار كان شيئاً "واجهت صعوبات معه... وما زلت غير متأكدة مما إذا كنت قد اتخذت القرار الصحيح". تردد كلماتها صدى تعليقات قالتها كلارك أخيراً التي كانت روايتها مستوحاة من بعض الحالات الحقيقية. وقالت لمجلة "آن أذر": "في بعض الأحيان لا أشعر براحة بشكل خاص تجاه حقيقة أنني استخدمت حالات حقيقية أساساً".
يلاحظ هاريس أن المدونة الصوتية الخاصة بالجريمة الحقيقية "تواجه شهيتنا المعقدة" بطريقة لا تفعلها، على سبيل المثال، قراءة الأخبار أو مشاهدتها. يضيف أنك عندما تنتقي إحدى الصحف "أنت لا تختار عن عمد قضاء ساعة في الاستماع إلى قاتل متسلسل"، على كل حال، في حالة المدونة الصوتية أنت تختار ذلك. تقول ريبيكا مكاي، مؤلفة كتاب: "لدي بعض الأسئلة لك": "أنت تصادف أمثلة من ذلك تم تنفيذها بطريقة غير مسؤولة ثم تشعر بالاشمئزاز من الأمر، ثم في الوقت نفسه ترى مدونات صوتية أو حركات على الإنترنت قد حلت جرائم أو أخرجت شخصاً من السجن... تمثل الجريمة موضوعاً رائعاً للأدب المتخيل: إليك هذا الشيء المتناقض والمعقد بشكل كبير".
في رواية مكاي، تعود مقدمة المدونات الصوتية بودي كين إلى المدرسة الداخلية التي التحقت بها عندما كانت مراهقة، حيث تم تكليفها بتدريس أساسيات السرد الصوتي للقصص لفصل من طلاب الجيل زيد الجادين (الذين يدركون تماماً أن الجريمة الحقيقية يمكن أن تكون "نوعاً إشكالياً"، على حد تعبير أحدهم، إضافة إلى الأخطار المحتملة في أن تصبح المادة مجرد "فتاة بيضاء أخرى تضحك على القتل"). من أجل مشروعهم، يجب على المراهقين أن يختاروا موضوعاً متعلقاً بالمدرسة وكما هو متوقع يختار أحدهم حالة كتب عليها "الأكثر تنزيلاً من قبل مستخدمي أجهزة آبل": مقتل تاليا كيث في عام 1995، وهي إحدى الطالبات العتيقات الأكثر شعبية وشاركت بودي السكن ذات مرة، والإدانة الفاشلة المحتملة لمدرب الرياضة في المدرسة.