"سيل الروايات" العربية أمر طبيعي جدا
القاص والروائي شريف صالح لـ"العرب": المبدع يظل يطارد تجربة لا تكتمل أبدا.
الاثنين 2023/09/11
كل كتابة تنطلق من بذرة ذاتية ما
الكتابة في مجالات متعددة توفر جوا من التنوع لتجربة الكاتب، لكن الرهان الأدبي الحقيقي لا يكمن في التعدد بقدر ما يتمثل في تقديم نص مختلف للقارئ، وهذا كان رهان الكاتب المصري شريف صالح الذي كان لـ”العرب” معه هذا الحوار حول تجربته الأدبية في أجناس مختلفة.
منذ انطلاقه بصفته قاصا بمجموعته “إصبع يمشي وحده”، كشف الكاتب المصري شريف صالح عن موهبة فريدة في تشكيل عالمه الإبداعي، وتأكدت أصالة روحه الفنية واتساع آفاق مخيلته في مجموعاته التالية “مثلث العشق”، “شخص صالح للقتل”، “بيضة على الشاطئ” و”دفتر النائم”، حتى إذا انتقل إلى الرواية بروايته “حارس الفيسبوك”، ثم “أينشتاين. أسرار القطعة 99”.
وأخيرا قدم روايته “ابتسامة بوذا. ناديت باسمك في الماء”، فاتحا المزيد من تجليات آفاق عالمه وما يعتمل في مخيلته من رؤى خصبة وبصيرة بالحيوات التي يضج بها الواقع، وتمكنه من خيوط نسيجه السردي.
كتابة الرواية
كتب للطفل وعمل في الصحافة لأكثر من عشرين عاما
شريف صالح لم يكتب القصة والرواية فقط بل كتب المسرح والنقد، وحازت مسرحيته “رقصة الديك” على جائزة الشارقة للإبداع العربي، كما توجت مسرحيته “مقهى المساء” بجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان “أيام المسرح للشباب” في الكويت، وهو حاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في النقد الأدبي، وقد كانت أطروحته للدكتوراه بعنوان “التحليل السيميائي للنص المسرحي – يسري الجندي نموذجا”.
وفضلا عن كل ذلك فقد كتب للطفل وعمل في الصحافة لأكثر من عشرين عاما. في هذا الحوار معه نبدأ من روايته الأخيرة “ابتسامة بوذا” ثم نمضي لنضيء العديد من جوانب تجربته وما تحمله من ثراء.
يقول صالح “بين روايتي الصادرة حديثا عن دار خطوط وظلال ‘ابتسامة بوذا. ناديت باسمك في الماء’، وروايتي السابقة ‘حارس الفيسبوك’، الصادرة عن الدار المصرية – اللبنانية، حوالي خمس سنوات، لأنني لست ممن ينشرون رواية كل عام، ولا آخذ قرار نشر أي كتاب بسهولة. كما أتريث لأتأكد أن النص يقدم تجربة جديدة”.
ويضيف “‘حارس الفيسبوك’ كانت روايتي الأولى وانشغلت فيها بالعالم الافتراضي خصوصا موقع فيسبوك ودور أدواته في تغيير العلاقات بين البشر، وتعرضه كعالم مواز للانهيار في أي وقت أو فضح خصوصية المشتركين، وكانت زوجة شابة هي نقطة الانطلاق. بينما تقع ‘ابتسامة بوذا’ في 24 فصلا تميزت جميعها بازدواجية العناوين ومنها: الحجز، تذكرة سفر، ختم المغادرة، جهاز كشف الأمتعة، الرحلة 666، ختم الوصول، ليموزين الغزال الأبيض، الريسبشن، واللوبي. وهي تتناول قصة روائي يحمل اسما وهميا هو ‘مار’، يسافر إلى أبوظبي ويقضي أياما في أحد الفنادق هناك، ويخطط لكتابة رواية عن الفنانة الراحلة سعاد حسني. لكنه يفاجأ بأن الفندق أصبح مهجورا، ولا يوجد به أحد سواه، وتنقطع صلاته بالعالم المحيط، فيبقى في الفندق المعزول بين الصحراء والماء”.
ويتابع “لعل السبب الذي جعلني اختار أبوظبي فضاء مركزيا لرواية ‘ابتسامة بوذا’ أن فكرتها وسطورها الأولى كتبتها خلال إحدى زياراتي إليها، ولمحبتي الشخصية للإمارات. لكن الأحداث إجمالا ليست واقعية وأقرب إلى الفنتازيا. فمن اللحظة الأولى في الرواية يبدو البطل ‘مار’ مشوش الذهن ويرى التفاصيل من حوله بقدر من الغرائبية. ففي عمله الأصلي في شركة استصلاح الأراضي يجبره مديره على تربية الضفادع، وعندما يذهب إلى المطار يلتقي شرطيا غريب الأطوار يناقشه في الشعر والنساء. كذلك حين تقلع به الطائرة يفاجأ أنها مليئة برجال الدين وقد صعدوا إليها في مهمة غامضة لاصطياد الشيطان”.
ويشير صالح “لا أتعمد أن تكون الأجواء غرائبية ورمزية لكن هذا الملمح قائم في حوالي 17 كتابا نشرتها، وفي ‘ابتسامة بوذا’ وجدتني أكتب وفق قالب الرحلة منذ استعداد البطل لمغادرة القاهرة، حتى ضياعه في أبوظبي. حيث يجد نفسه متورطا في مواقف غريبة تدفعه إلى أن يطرح على نفسه أسئلة شتى حول الموت والحياة والدين والحب والمصير، ومدى قدرة الإنسان على إدراك الواقع. كما يلتقي شخصيات مهمة لتاريخه الشخصي منها شويكار ومادونا وسعاد حسني التي تتنكر لحياتها كفنانة وتصر أنها ليست أكثر من عاملة في مطعم الفندق، ولا تبدو متحمسة لمشروع إصدار رواية عنها”.
ويقول “في البداية لم أخطط لاستعمال اسم بوذا في العنوان، لكن كانت لدي شخصية عامل في فندق ظلت تتمدد إلى أن أصبحت شريكا للبطل في المواقف، هذا العامل الآسيوي ضخم الجثة ادعى أنه هو نفسه بوذا، وفي البداية يحاول ‘مار’ الخلاص من قبضة بوذا هذا والهروب من الفندق المهجور بأي طريقة، واستعادة وعيه الطبيعي بالأشياء. كما يواصل التفكير في حياته العادية السابقة التي بات عاجزا عن استعادتها ومنها علاقته بأمه الراحلة. ومع طرح شخصية بوذا بطريقة مختلفة أتاح ذلك لي كتابة سيرة روحية لذاتي ككاتب، والانفتاح على مفاهيم وفلسفة التصوف المستلهمة من البوذية وقد يكون ذلك جديدا إلى حدٍ ما في الأدب العربي الذي يركز أكثر على التصوف الإسلامي مثل ابن عربي وجلال الدين الرومي”.
الحركة النقدية بخير إما من خلال البحث الأكاديمي أو النقد الصحفي إضافة إلى التفاعل بين القراء والكتاب
ويؤكد صالح أن سؤال رواية “ابتسامة بوذا” ليس عن غرابة الفندق، بل عن غرابة الحياة نفسها، ومرورنا العابر والفاتن فيها، دون أن نفهم – ربما – الحكمة من وجودنا. وكيف أن تشبثنا بعقلنا أحيانا لا يساعدنا للاندماج في تيار الحياة. إن الألفة تجعلنا نعتاد الأشياء، نرى الشمس تطلع كل يوم فلا ننتبه إلى كونها “معجزة”، وكثيرا ما نستهلك عقولنا في فحص وتصنيف كل ما هو مألوف. لكن في ظنه أن الحياة معجزة ونعمة عظيمة، تتطلب أن نخوضها باللطف والمحبة وليس بالعقل وحده. ولذلك عندما تبدلت أحوال البطل وتغيرت طبيعة الأشياء، توجب عليه أن يرى ويعي بقلبه أولا.
ويرى أن “كل كتابة تنطلق من بذرة ذاتية ما، تجربة شخصية أو مشاهدة أو سماع. ثم تتحرر البذرة وتتجاوز أصلها بالتخييل. لذلك بدأت الرواية مني مباشرة، واخترت لبطلها أن يكون كاتبا، وضمنتها تفاصيل كثيرة تعبر عن أفكاري الخاصة وتجاربي، من ثم أصبح البطل أنا وليس أنا، نتيجة الإضافة واللعب والتخييل”.
ويلفت إلى أن “كثرة دور النشر ووسائل التواصل الافتراضي في ظني وسعت المشهد الروائي كما وكيفا. فمن المؤكد أن هناك كتابات روائية ملهمة جدا سواء في مصر أو سوريا والعراق أو بلاد المغرب العربي أو دول الخليج. قبل بضعة عقود كان بالإمكان أن نعد كتاب الرواية على أصابع اليدين، أما الآن فنحن نتحدث عن مئات وربما آلاف. وهذا كله جيد. لكن المشكلة هي غلبة الكم واستسهال النشر، وغياب المعايير، وضياع الجيد في زحام المتواضع فنيا. وربما نحتاج إلى أدوات ذات مصداقية للفرز والتقييم. وكذلك إلى آليات تسويق مغايرة للأدب العربي لإيصاله للجمهور”.
مشروع لا يكتمل
وينفي صالح أن يكون قد ابتعد عن القصة القصيرة، ويضيف “يظل الشكل الإبداعي الأقرب إلى قلبي، لكنني شعرت أنه ليس لدي ما يمكن إضافته بعد نشر سبع مجاميع قصصية، ثم أعدت نشر أكثر القصص أهمية في مجموعتين من المختارات هما ‘شعر غجري تتطاير منه الحجارة’ عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، و’ألم الزجاج’ عن دار خطوط وظلال. وكانت آخر مجموعة نشرتها قبل أربع سنوات هي ‘مدن تأكل نفسها’ التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الملتقى في الكويت، وانشغلت فيها عبر 11 قصة بقضايا المدينة وأسباب انهيارها. ومنذ بضع سنوات أحضّر لمجموعة قصصية جديدة لكن لم أتخذ قرار نشرها بعد”.
ويتابع “لا أعرف إذا كان تنقلي بين أشكال مختلفة من الكتابة ميزة أم عيبا. نصف كتبي كانت في القصة القصيرة لكنني جربت الكتابة للمسرح ومثلا لي في الكويت ثلاث مسرحيات، وحصلت على جائزة الشارقة للإبداع – الإصدار الأول، عن مونودراما ‘رقصة الديك’ ثم فجأة أجد نفسي مبتعدا عن المسرح إلى الرواية. وأحيانا منشغلا بالنقد وعرض الكتب”.
ويوضح صالح أن “الكتابة للطفل والناشئة تكمل نزعة التجريب لدي، ربما دفعتني إليها علاقتي مع ابنتي وابني ورغبتي أن أحكي لهما. ثم انتبهت إلى أن معظم ما يكتب لأولادنا ينشغل بقضايا أخلاقية وتربوية مثل الحث على العبادة والتواضع وحب الجار وغير ذلك. بينما يبدو المحتوى العلمي هزيلا ويعتمد في الأساس على الترجمة”.
ويضيف “لذلك أصدرت روايتي الأولى للناشئة بعنوان ‘سوشانا والحذاء الطائر’ ركزت فيها على صناعة وتاريخ الأحذية، وطرح سؤال أقرب إلى الخيال العلمي عن إمكانية تطوير الحذاء بتقنية متطورة تسمح لمن يرتديه أن يطير. وساعتها لن يحتاج إلى المشي ولا شراء سيارات. وقبل عام صدرت روايتي للناشئة بعنوان ‘أينشتاين: أسرار القطعة 99’ تحكي لأولادنا عن سيرة أشهر فيزيائي في القرن العشرين، والأفكار الثورية التي طرحها وغيرت وجه القرن العشرين كله، إضافة إلى حكاية مشوقة عن سرقة مخه، والرواية كلها تروى على لسان القطعة 99 من هذا المخ. وأيضا طرحت فكرة تنتمي إلى الخيال العلمي عن إمكانية زراعة أمخاخ العباقرة في أشخاص آخرين”.
الكاتب يشتغل على النص ببروفات كثيرة ويعرضه على حلقة قراءة من الأصدقاء والصديقات، ويستمر في معالجته لسنوات
ويؤكد “لدي بالفعل مشروع رواية ثالثة للناشئة بعنوان مبدئي ‘الفتى الذي ركض ألف عام’ عن علاقة غريبة بين صبي مراهق وحي شبرا الذي ولد فيه، حيث يطرح على نفسه أفكارا تتعلق بالذاكرة والحياة والحب والسعادة والزمن. فمثلما تعطي الرواية توصيفا لأحد الأحياء الشهيرة والعريقة في مصر، تثير أسئلة وقضايا مهمة ولا تخلو أيضا من مسار خاص بالخيال العلمي، وعلاقتنا كبشر بالكائنات الفضائية وإمكانية التلاعب بالزمن”.
ويرى صالح أنه في جميع اشتغالاته لم يخرج عن سياق عالمه الإبداعي سواء في الماجستير حيث اشتغل على معالجات رواية “اللص والكلاب” في الصحافة والسينما والتلفزيون، أو في الدكتوراه عن مسرح يسري الجندي. فالدراسة بالنسبة إليه هي تعلم مستمر، وكان حريصا أن يفيد ككاتب من مجالات فنية مغايرة ويقترب منها عن كثب سواء السينما أو التلفزيون أو المسرح. وفي ظنه هذا يثري تجربة أي كاتب ويتسق مع شخصيته التي لا تمل التجريب وتتبع فضاءات الكلمة حيثما كانت. كان الأكثر سهولة بالنسبة إليه إعداد دراسة عن مجموعة روايات لكنه آثر الاستزادة المعرفية والجمالية من إبداعات أدائية مغايرة.
ويؤكد أن الحركة النقدية بخير إما من خلال البحث الأكاديمي أو النقد الصحفي إضافة إلى التفاعلية الحالية بين القراء والكتاب مباشرة في “السوشيال ميديا”. وربما أزمة النقد تكمن في صعوبة ملاحقة كل ما ينشر، وضعف العائد للنقاد، فليس معقولا أن يضيع الناقد الحقيقي أسبوعا أو شهرا في قراءة وتحليل رواية ثم لا يتلقى أي أجر. وتطور الإبداع العربي مرهون بإعادة النظر في أوضاع وأجور الكتاب والنقاد والقدرة على تسويقهم. مثلما هو مرهون بمناخ حرية أكثر تسامحا مع الأفكار والإبداع.
ويرى صالح أن “سيل الروايات” أمر طبيعي جدا؛ فدور النشر تفضلها وتتحسس من نشر الشعر والمسرح والقصة القصيرة. كذلك معظم الجوائز الكبرى تتجه إليها حصرا، إلى درجة أن نصف الشعراء العرب تخلوا عن الشعر وأصبحوا “روائيين”. ويضاف إلى ذلك أن الرواية بطبيعتها فن هجين، يغري بالكتابة وليس له نقاء الشعر والقصة القصيرة. فمن السهل أن تضم رواية الكثير من الركاكة وتنجح جماهيريا. ليس معنى ذلك أنه ممن يتبنون مصطلح “زمن الرواية” ربما الأكثر دقة أنه “زمن التفاهة” حيث الربح والتسويق أكثر أهمية من القيمة.
ويشدد على أن مسألة الرضا عما يكتبه نسبية، ويقول “بطبعي أشتغل على النص ببروفات كثيرة وأعرضه على حلقة قراءة من الأصدقاء والصديقات، وأستمر في معالجته لسنوات دون ملل. لأنه ليس من السهل بلوغ الرضا. لكن ثمة لحظة مؤقتة أشعر فيها ككاتب بأنه لم يعد لدي ما أضيفه ساعتها أدفع به إلى الناشر وأتجاوزه إلى عمل آخر، وغالبا لا أعود إلى قراءته. أما الرضا عن تجربتي مع الكتابة بوجه عام، فأظنها عالجتني من اليأس والجنون، وقسوة الحياة. لأن الكتابة تساعدنا على الشفاء من جروحنا وقبول ذواتنا كما هي. لا أنكر أنها منحتني جوائز وقدرا من النجاح لكن الأكثر أهمية ينبع من علاقتي الذاتية بعملية الكتابة نفسها، وليس بالمردود الاجتماعي لها كالجوائز وإعجاب الجمهور”.
ويختم صالح مؤكدا “لا أعرف إذا كنت أمتلك مشروعا حقا أم لا. أظن أن المبدع يظل يطارد تجربة لا تكتمل أبدا. يظل يحلم ويجرب ويتعثر وينضج ويأمل ويحبط. وهو يحلم بالنص المستحيل الذي لم يكتبه بعد”.
محمد الحمامصي
القاص والروائي شريف صالح لـ"العرب": المبدع يظل يطارد تجربة لا تكتمل أبدا.
الاثنين 2023/09/11
كل كتابة تنطلق من بذرة ذاتية ما
الكتابة في مجالات متعددة توفر جوا من التنوع لتجربة الكاتب، لكن الرهان الأدبي الحقيقي لا يكمن في التعدد بقدر ما يتمثل في تقديم نص مختلف للقارئ، وهذا كان رهان الكاتب المصري شريف صالح الذي كان لـ”العرب” معه هذا الحوار حول تجربته الأدبية في أجناس مختلفة.
منذ انطلاقه بصفته قاصا بمجموعته “إصبع يمشي وحده”، كشف الكاتب المصري شريف صالح عن موهبة فريدة في تشكيل عالمه الإبداعي، وتأكدت أصالة روحه الفنية واتساع آفاق مخيلته في مجموعاته التالية “مثلث العشق”، “شخص صالح للقتل”، “بيضة على الشاطئ” و”دفتر النائم”، حتى إذا انتقل إلى الرواية بروايته “حارس الفيسبوك”، ثم “أينشتاين. أسرار القطعة 99”.
وأخيرا قدم روايته “ابتسامة بوذا. ناديت باسمك في الماء”، فاتحا المزيد من تجليات آفاق عالمه وما يعتمل في مخيلته من رؤى خصبة وبصيرة بالحيوات التي يضج بها الواقع، وتمكنه من خيوط نسيجه السردي.
كتابة الرواية
كتب للطفل وعمل في الصحافة لأكثر من عشرين عاما
شريف صالح لم يكتب القصة والرواية فقط بل كتب المسرح والنقد، وحازت مسرحيته “رقصة الديك” على جائزة الشارقة للإبداع العربي، كما توجت مسرحيته “مقهى المساء” بجائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان “أيام المسرح للشباب” في الكويت، وهو حاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في النقد الأدبي، وقد كانت أطروحته للدكتوراه بعنوان “التحليل السيميائي للنص المسرحي – يسري الجندي نموذجا”.
وفضلا عن كل ذلك فقد كتب للطفل وعمل في الصحافة لأكثر من عشرين عاما. في هذا الحوار معه نبدأ من روايته الأخيرة “ابتسامة بوذا” ثم نمضي لنضيء العديد من جوانب تجربته وما تحمله من ثراء.
يقول صالح “بين روايتي الصادرة حديثا عن دار خطوط وظلال ‘ابتسامة بوذا. ناديت باسمك في الماء’، وروايتي السابقة ‘حارس الفيسبوك’، الصادرة عن الدار المصرية – اللبنانية، حوالي خمس سنوات، لأنني لست ممن ينشرون رواية كل عام، ولا آخذ قرار نشر أي كتاب بسهولة. كما أتريث لأتأكد أن النص يقدم تجربة جديدة”.
ويضيف “‘حارس الفيسبوك’ كانت روايتي الأولى وانشغلت فيها بالعالم الافتراضي خصوصا موقع فيسبوك ودور أدواته في تغيير العلاقات بين البشر، وتعرضه كعالم مواز للانهيار في أي وقت أو فضح خصوصية المشتركين، وكانت زوجة شابة هي نقطة الانطلاق. بينما تقع ‘ابتسامة بوذا’ في 24 فصلا تميزت جميعها بازدواجية العناوين ومنها: الحجز، تذكرة سفر، ختم المغادرة، جهاز كشف الأمتعة، الرحلة 666، ختم الوصول، ليموزين الغزال الأبيض، الريسبشن، واللوبي. وهي تتناول قصة روائي يحمل اسما وهميا هو ‘مار’، يسافر إلى أبوظبي ويقضي أياما في أحد الفنادق هناك، ويخطط لكتابة رواية عن الفنانة الراحلة سعاد حسني. لكنه يفاجأ بأن الفندق أصبح مهجورا، ولا يوجد به أحد سواه، وتنقطع صلاته بالعالم المحيط، فيبقى في الفندق المعزول بين الصحراء والماء”.
ويتابع “لعل السبب الذي جعلني اختار أبوظبي فضاء مركزيا لرواية ‘ابتسامة بوذا’ أن فكرتها وسطورها الأولى كتبتها خلال إحدى زياراتي إليها، ولمحبتي الشخصية للإمارات. لكن الأحداث إجمالا ليست واقعية وأقرب إلى الفنتازيا. فمن اللحظة الأولى في الرواية يبدو البطل ‘مار’ مشوش الذهن ويرى التفاصيل من حوله بقدر من الغرائبية. ففي عمله الأصلي في شركة استصلاح الأراضي يجبره مديره على تربية الضفادع، وعندما يذهب إلى المطار يلتقي شرطيا غريب الأطوار يناقشه في الشعر والنساء. كذلك حين تقلع به الطائرة يفاجأ أنها مليئة برجال الدين وقد صعدوا إليها في مهمة غامضة لاصطياد الشيطان”.
ويشير صالح “لا أتعمد أن تكون الأجواء غرائبية ورمزية لكن هذا الملمح قائم في حوالي 17 كتابا نشرتها، وفي ‘ابتسامة بوذا’ وجدتني أكتب وفق قالب الرحلة منذ استعداد البطل لمغادرة القاهرة، حتى ضياعه في أبوظبي. حيث يجد نفسه متورطا في مواقف غريبة تدفعه إلى أن يطرح على نفسه أسئلة شتى حول الموت والحياة والدين والحب والمصير، ومدى قدرة الإنسان على إدراك الواقع. كما يلتقي شخصيات مهمة لتاريخه الشخصي منها شويكار ومادونا وسعاد حسني التي تتنكر لحياتها كفنانة وتصر أنها ليست أكثر من عاملة في مطعم الفندق، ولا تبدو متحمسة لمشروع إصدار رواية عنها”.
ويقول “في البداية لم أخطط لاستعمال اسم بوذا في العنوان، لكن كانت لدي شخصية عامل في فندق ظلت تتمدد إلى أن أصبحت شريكا للبطل في المواقف، هذا العامل الآسيوي ضخم الجثة ادعى أنه هو نفسه بوذا، وفي البداية يحاول ‘مار’ الخلاص من قبضة بوذا هذا والهروب من الفندق المهجور بأي طريقة، واستعادة وعيه الطبيعي بالأشياء. كما يواصل التفكير في حياته العادية السابقة التي بات عاجزا عن استعادتها ومنها علاقته بأمه الراحلة. ومع طرح شخصية بوذا بطريقة مختلفة أتاح ذلك لي كتابة سيرة روحية لذاتي ككاتب، والانفتاح على مفاهيم وفلسفة التصوف المستلهمة من البوذية وقد يكون ذلك جديدا إلى حدٍ ما في الأدب العربي الذي يركز أكثر على التصوف الإسلامي مثل ابن عربي وجلال الدين الرومي”.
الحركة النقدية بخير إما من خلال البحث الأكاديمي أو النقد الصحفي إضافة إلى التفاعل بين القراء والكتاب
ويؤكد صالح أن سؤال رواية “ابتسامة بوذا” ليس عن غرابة الفندق، بل عن غرابة الحياة نفسها، ومرورنا العابر والفاتن فيها، دون أن نفهم – ربما – الحكمة من وجودنا. وكيف أن تشبثنا بعقلنا أحيانا لا يساعدنا للاندماج في تيار الحياة. إن الألفة تجعلنا نعتاد الأشياء، نرى الشمس تطلع كل يوم فلا ننتبه إلى كونها “معجزة”، وكثيرا ما نستهلك عقولنا في فحص وتصنيف كل ما هو مألوف. لكن في ظنه أن الحياة معجزة ونعمة عظيمة، تتطلب أن نخوضها باللطف والمحبة وليس بالعقل وحده. ولذلك عندما تبدلت أحوال البطل وتغيرت طبيعة الأشياء، توجب عليه أن يرى ويعي بقلبه أولا.
ويرى أن “كل كتابة تنطلق من بذرة ذاتية ما، تجربة شخصية أو مشاهدة أو سماع. ثم تتحرر البذرة وتتجاوز أصلها بالتخييل. لذلك بدأت الرواية مني مباشرة، واخترت لبطلها أن يكون كاتبا، وضمنتها تفاصيل كثيرة تعبر عن أفكاري الخاصة وتجاربي، من ثم أصبح البطل أنا وليس أنا، نتيجة الإضافة واللعب والتخييل”.
ويلفت إلى أن “كثرة دور النشر ووسائل التواصل الافتراضي في ظني وسعت المشهد الروائي كما وكيفا. فمن المؤكد أن هناك كتابات روائية ملهمة جدا سواء في مصر أو سوريا والعراق أو بلاد المغرب العربي أو دول الخليج. قبل بضعة عقود كان بالإمكان أن نعد كتاب الرواية على أصابع اليدين، أما الآن فنحن نتحدث عن مئات وربما آلاف. وهذا كله جيد. لكن المشكلة هي غلبة الكم واستسهال النشر، وغياب المعايير، وضياع الجيد في زحام المتواضع فنيا. وربما نحتاج إلى أدوات ذات مصداقية للفرز والتقييم. وكذلك إلى آليات تسويق مغايرة للأدب العربي لإيصاله للجمهور”.
مشروع لا يكتمل
وينفي صالح أن يكون قد ابتعد عن القصة القصيرة، ويضيف “يظل الشكل الإبداعي الأقرب إلى قلبي، لكنني شعرت أنه ليس لدي ما يمكن إضافته بعد نشر سبع مجاميع قصصية، ثم أعدت نشر أكثر القصص أهمية في مجموعتين من المختارات هما ‘شعر غجري تتطاير منه الحجارة’ عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، و’ألم الزجاج’ عن دار خطوط وظلال. وكانت آخر مجموعة نشرتها قبل أربع سنوات هي ‘مدن تأكل نفسها’ التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الملتقى في الكويت، وانشغلت فيها عبر 11 قصة بقضايا المدينة وأسباب انهيارها. ومنذ بضع سنوات أحضّر لمجموعة قصصية جديدة لكن لم أتخذ قرار نشرها بعد”.
ويتابع “لا أعرف إذا كان تنقلي بين أشكال مختلفة من الكتابة ميزة أم عيبا. نصف كتبي كانت في القصة القصيرة لكنني جربت الكتابة للمسرح ومثلا لي في الكويت ثلاث مسرحيات، وحصلت على جائزة الشارقة للإبداع – الإصدار الأول، عن مونودراما ‘رقصة الديك’ ثم فجأة أجد نفسي مبتعدا عن المسرح إلى الرواية. وأحيانا منشغلا بالنقد وعرض الكتب”.
ويوضح صالح أن “الكتابة للطفل والناشئة تكمل نزعة التجريب لدي، ربما دفعتني إليها علاقتي مع ابنتي وابني ورغبتي أن أحكي لهما. ثم انتبهت إلى أن معظم ما يكتب لأولادنا ينشغل بقضايا أخلاقية وتربوية مثل الحث على العبادة والتواضع وحب الجار وغير ذلك. بينما يبدو المحتوى العلمي هزيلا ويعتمد في الأساس على الترجمة”.
ويضيف “لذلك أصدرت روايتي الأولى للناشئة بعنوان ‘سوشانا والحذاء الطائر’ ركزت فيها على صناعة وتاريخ الأحذية، وطرح سؤال أقرب إلى الخيال العلمي عن إمكانية تطوير الحذاء بتقنية متطورة تسمح لمن يرتديه أن يطير. وساعتها لن يحتاج إلى المشي ولا شراء سيارات. وقبل عام صدرت روايتي للناشئة بعنوان ‘أينشتاين: أسرار القطعة 99’ تحكي لأولادنا عن سيرة أشهر فيزيائي في القرن العشرين، والأفكار الثورية التي طرحها وغيرت وجه القرن العشرين كله، إضافة إلى حكاية مشوقة عن سرقة مخه، والرواية كلها تروى على لسان القطعة 99 من هذا المخ. وأيضا طرحت فكرة تنتمي إلى الخيال العلمي عن إمكانية زراعة أمخاخ العباقرة في أشخاص آخرين”.
الكاتب يشتغل على النص ببروفات كثيرة ويعرضه على حلقة قراءة من الأصدقاء والصديقات، ويستمر في معالجته لسنوات
ويؤكد “لدي بالفعل مشروع رواية ثالثة للناشئة بعنوان مبدئي ‘الفتى الذي ركض ألف عام’ عن علاقة غريبة بين صبي مراهق وحي شبرا الذي ولد فيه، حيث يطرح على نفسه أفكارا تتعلق بالذاكرة والحياة والحب والسعادة والزمن. فمثلما تعطي الرواية توصيفا لأحد الأحياء الشهيرة والعريقة في مصر، تثير أسئلة وقضايا مهمة ولا تخلو أيضا من مسار خاص بالخيال العلمي، وعلاقتنا كبشر بالكائنات الفضائية وإمكانية التلاعب بالزمن”.
ويرى صالح أنه في جميع اشتغالاته لم يخرج عن سياق عالمه الإبداعي سواء في الماجستير حيث اشتغل على معالجات رواية “اللص والكلاب” في الصحافة والسينما والتلفزيون، أو في الدكتوراه عن مسرح يسري الجندي. فالدراسة بالنسبة إليه هي تعلم مستمر، وكان حريصا أن يفيد ككاتب من مجالات فنية مغايرة ويقترب منها عن كثب سواء السينما أو التلفزيون أو المسرح. وفي ظنه هذا يثري تجربة أي كاتب ويتسق مع شخصيته التي لا تمل التجريب وتتبع فضاءات الكلمة حيثما كانت. كان الأكثر سهولة بالنسبة إليه إعداد دراسة عن مجموعة روايات لكنه آثر الاستزادة المعرفية والجمالية من إبداعات أدائية مغايرة.
ويؤكد أن الحركة النقدية بخير إما من خلال البحث الأكاديمي أو النقد الصحفي إضافة إلى التفاعلية الحالية بين القراء والكتاب مباشرة في “السوشيال ميديا”. وربما أزمة النقد تكمن في صعوبة ملاحقة كل ما ينشر، وضعف العائد للنقاد، فليس معقولا أن يضيع الناقد الحقيقي أسبوعا أو شهرا في قراءة وتحليل رواية ثم لا يتلقى أي أجر. وتطور الإبداع العربي مرهون بإعادة النظر في أوضاع وأجور الكتاب والنقاد والقدرة على تسويقهم. مثلما هو مرهون بمناخ حرية أكثر تسامحا مع الأفكار والإبداع.
ويرى صالح أن “سيل الروايات” أمر طبيعي جدا؛ فدور النشر تفضلها وتتحسس من نشر الشعر والمسرح والقصة القصيرة. كذلك معظم الجوائز الكبرى تتجه إليها حصرا، إلى درجة أن نصف الشعراء العرب تخلوا عن الشعر وأصبحوا “روائيين”. ويضاف إلى ذلك أن الرواية بطبيعتها فن هجين، يغري بالكتابة وليس له نقاء الشعر والقصة القصيرة. فمن السهل أن تضم رواية الكثير من الركاكة وتنجح جماهيريا. ليس معنى ذلك أنه ممن يتبنون مصطلح “زمن الرواية” ربما الأكثر دقة أنه “زمن التفاهة” حيث الربح والتسويق أكثر أهمية من القيمة.
ويشدد على أن مسألة الرضا عما يكتبه نسبية، ويقول “بطبعي أشتغل على النص ببروفات كثيرة وأعرضه على حلقة قراءة من الأصدقاء والصديقات، وأستمر في معالجته لسنوات دون ملل. لأنه ليس من السهل بلوغ الرضا. لكن ثمة لحظة مؤقتة أشعر فيها ككاتب بأنه لم يعد لدي ما أضيفه ساعتها أدفع به إلى الناشر وأتجاوزه إلى عمل آخر، وغالبا لا أعود إلى قراءته. أما الرضا عن تجربتي مع الكتابة بوجه عام، فأظنها عالجتني من اليأس والجنون، وقسوة الحياة. لأن الكتابة تساعدنا على الشفاء من جروحنا وقبول ذواتنا كما هي. لا أنكر أنها منحتني جوائز وقدرا من النجاح لكن الأكثر أهمية ينبع من علاقتي الذاتية بعملية الكتابة نفسها، وليس بالمردود الاجتماعي لها كالجوائز وإعجاب الجمهور”.
ويختم صالح مؤكدا “لا أعرف إذا كنت أمتلك مشروعا حقا أم لا. أظن أن المبدع يظل يطارد تجربة لا تكتمل أبدا. يظل يحلم ويجرب ويتعثر وينضج ويأمل ويحبط. وهو يحلم بالنص المستحيل الذي لم يكتبه بعد”.
محمد الحمامصي