عن سجون الوجوه وأشباح الناجين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عن سجون الوجوه وأشباح الناجين

    عن سجون الوجوه وأشباح الناجين

    صور العنف في أعمال الفنان حسين ثامر بدّاي:

    حيدر عودة

    على مدى أكثر من ثلاثين عاما كانت فيها أشباح الضحايا تتنقل، جيلا بعد جيل، بذكرياتهم المخبّأة بين ثنايا ظلال قصية، مع حقائبهم "المسافرة" أو "المهرَّبة" عبر الحدود أو "الناجية" من الغرق في البحار والمحيطات المظلمة، لكنها لم تنج من عذاباتها أبدا، فنَمَت في رؤى الفنانين وسكنت بين خامات أعمالهم الفنية، على سطوح لوحاتهم غفا غبار المعارك ودخان الحرائق وشرارها وتسللت لخزائنهم الحسية وغلفت مشاعرهم وتجمدت في عيونهم الحوادث، رسمت مواقفهم وأخفتت من صوتهم. لا يمكن نسيان الحروب ولا يجب نسيانها، لكن لا بدّ من التوصل لكيفية محو مشاهد الموت والقتال من ذاكرة المجتمع ومن ذكريات من عاشوها وتلوعوا بمآسيها؛ إنّ قسوة تذكرها تكبر ويزداد وقعها في النفس بمرور الزمن، لا تخفت أصوات المدافع ولا صراخ الجنود واستغاثاتهم المؤلمة ولا تتوقف أشباح أرواحهم المعذَّبة عن ملاحقة الناجين منهم، أينما ذهبوا وكيفما عاشوا، حتى تغدو أيامهم كوابيس طويلة. فالفنان ابن التجربة الحياتية العميقة والأسئلة الكبيرة، يتأثر بما حوله من وقائع، وتهزه الصراعات وترعبه الأحداث العظيمة، فهو ليس كالحِرَفي يكرر أعماله ويستنسخها، إنما يستشرف القادم ويخلق عمله برؤية مختلفة للإنسان وتصور عميق للعالم.
    تفاوتت بعض التجارب الفنية التي عالجت مواضيع العنف والحرب واختلفت في طرق التعبير وفي طبيعة المواد المستخدمة. من تلك التجارب، استوقفتني تجربة الفنان "حسين ثامر بدّاي"، المقيم في بلجيكا، حيث صوّرت وجوه الناجين من الحروب والنزاعات الكبرى، الخارجين بتشوهات جسدية وندوب نفسية عميقة ومعاناة اجتماعية؛ عبر لوحاته وأعماله المطبوعة ومنحوتاته، التي قدمها في بلجيكا خلال السنوات من 2012 وحتى 2022 ، ومن بينها معرضه المميز "جذور"، 2019 في مدينة لياج (Liège ) حيث عرضه في قبو قديم، إذ عمد على تأثيث المكان (القبو/ ملجأ) بطريقة مسرحية، وزّع فيه أعماله النحتية من الخشب والبرونز والفخار ووضع قربها ما يشبه نباتات بجذورها تحاول الانعتاق عنها، علّها تستطيع النّمو مجددا وتثمر أوراقها في الفصول. إلى جانب مجموعة تخطيطات ورقية وأخرى من القماش علقت على الجدران، بعضها رسمت مباشرة على أروقة القبو ومداخله، كأنه أراد إدخال المتلقّين في مناخ الحرب والمعارك، مُقَدِما لهم مشهدا من مشاهد الموت والعنف ليريهم التشوهات التي تصيب الوجه والجسد لناجين من الحروب، أو لخلق شعور أنهم بصحبة أشباح جنود منسيين، يستذكرون معهم معارك ماتوا فيها ويتخيلون نهايات معينة لحياتهم، أو مَنْ نجوا بجروح مرئية وأخرى غير مرئية، كأن الفنان يُشرك المتلقين معه في عرض مسرحي لا وجود لممثلين فيه، يتحركون بخفة أو يتألمون من شدّة الإصابة، فكانت المنحوتات الموزعة داخل القبو بديلا لهم، في محاولة لإحياء جذور الحياة مجددا خارج كتل الأجساد المعذَّبة، التي ترتجي خلاصا بعيد المنال.
    تغلبت الألوان الداكنة، كالأسود والرمادي على الوجوه المرسومة أو المطبوعة وعلى بعض الأعمال الفخارية، ما أضفى شعورا بالقتامة والقسوة نجح "حسين ثامر" بإشراك المتلقي في إيصال ما يعانيه أصحاب الوجوه المشوهة والأجساد المعاقة. كذلك أعطى التنوع في خامات الأعمال وفي طريقة اختيار المكان، كما في معرض "جذور"، بلجيكا/2019، كان قبوا قديما جاء مناسبا لفكرة المعرض، كما أن هناك الجانب الآخر من فكرة العوق/ التشوّه، هو: النفسي، الذي عادة ما يكون مخفيا، مثل لُغم لا يُرى حتى تسير عليه وينفجر. في الوقت نفسه، تذكرنا أعمال "بدّاي" بأعمال "إدوارد مانش وأرنست كيشنر" ولوحات الألماني "أوتو ديكس"، وعن الجانب الآخر من وجه الحرب؛ فديكس، الذي اشترك في الحرب العالمية الأولى طوعا، جسَّد في أعماله "المَشاهِد" التي عاشها وشاهد فضاعتها في المعارك بأسلوب تعبيري وساخر أحيانا، احتجاجا على الحرب، حاول من خلالها أن يوثق صور الناجين والمعاقين والمشوهين بسببها، كما يشير لإهمال المجتمع لهم ونظرتهم غير المكترثة.
    في معرضه الأخير المعنون "غياب الحضور"، 2022، الذي أقامه في كاليري "أغفيو" في مدينة "لياج" البلجيكية، اتخذ من "الوجه" المشوه والمصاب بسبب الحرب شكلا متكررا في لوحاته المرسومة مباشرة أو المطبوعة بطريقة "كرافيك"، فالوجه، عادة، يُظهِر "الأثر" للأفعال الخارجية والداخلية، لأنه مرآة الجسد ومقياس مشاعره التي يعاني منها أو يشعر بها، فقد تفتحت ألوان الأعمال في متجاورات من التضاد والهارموني، عززت ما يمكن أن نقرأه بـ"الأمل" الذي قد نَمى – ربما - من "جذور" معرضه السابق، كما لو أن "الناجين" من كل العالم بدأوا يفكرون بطريقة أخرى للإشارة لوجودهم وعرض مشاكلهم ورفع أصواتهم. هذا ما يمكن استنتاجه من الحضور الواضح للألوان: الأزرق، والأحمر، والأصفر، إلى جانب اللون الأسود، الذي هو محور الموضوع وخالق مزاج العرض والتلقي.
    يستعير "بدّاي" من الوجه في جميع أعماله - مرسوما ومطبوعا ومنحوتا ومفخورا - الشكل الأساسي لإبراز ثيمة العنف والتشوه، التي حاول معالجتها، سواء من خلال تنوع الخامات المستخدمة وتطويعها أو من خلال إعطاء بعدا نفسيا وفكريا، تلخص في كون العمل الفني فعلا احتجاجيا ضد الحرب والعنف والتشوه الجسدي والنفسي للإنسان أولا ونظرة المجتمع له ثانيا. من زاوية أخرى، رأى "بدّاي" في "القناع" الذي يصنعه الأطباء لإخفاء الجزء المتضرر من الوجه في فترة معينة تلت الحربين العالميتين، وجها آخر يضطر الشخص المشوه من إخفاء وجهه الأول خلفه والتعامل مع الآخر بارتباك وشعور غريب، لا تنظر الناس له، عادة، بالأمر الطبيعي، بل هو سجن للوجه وعزلة مفروضة تقصيه عن الآخرين بطريقة قاسية. يمكننا فهم إخفاء الرأس كانزواء عن مواجهة الواقع للشخص الذي يعاني من إصابة أو ضرر نفسي بليغ، لكيلا يرى العالم ولا يشعر بالواقع، فيراه عاريا أو شاذا. لذلك تكون الأوقات التي تلي الحروب هي الأصعب من الحرب نفسها والأعقد في فهمها وطرق التعامل مع ضحاياها ومساعدتهم، في تقبل الواقع وضرورة تنبيه المجتمع لمخاطر إهمال الضحايا وعزلهم اجتماعيا.
يعمل...
X