أمير علي
يقول الروائي الروسي ليو تولستوي إن السعادة فريدة من نوعها، لا يمكن التعبير عنها، وهي حالة موجودة خارج السرد. وإن البؤس هو ما يجعلك مثل أي شخص آخر. وفي مقدمة روايته "آنا كارنينا"، يذكر تولستوي أن العائلات السعيدة كلها متشابهة، لكن لكل أسرة تعيسة طريقتها الخاصة والفريدة في التعاسة.
حاولت السينما أن تُضفي على هذا التصور طابعها التجريبي والشخصي بهدف اعطاءنا نظرة أقرب حول العائلة والعلاقات والزواج والانفصال. وهنا نستعرض وجه التقارب والاختلاف في العلاقات العائلية والإنسانية وظروفها بين الشرق والغرب.
يقدّم أصغر فرهادي القاضي الديني في فيلمه بوصفه أحد وجوه السلطة الإيرانية المستبدة التي تنكر الواقع المعيشي الصعب في البلاد
في فيلمه "A Separation"، يقدّم المخرج الإيراني أصغر فرهادي معالجة بصرية لقضايا الزواج والانفصال في إيران من خلال قصة زوجين من الطبقة الوسطى، وهما نادر (بيمان المعادي) وسمين (ليلى حاتمي)، شرعا في إجراءات الطلاق في محكمة دينية إيرانية.
والسبب بسيط للغاية، إذ تريد سمين إخراج عائلتها من إيران، خاصة بعد الموافقة أخيرًا على طلب التأشيرة الذي طال أمده. لكن نادر يرفض ذلك لأن والده (علي أصغر شهبازي) كبير في السن ومصاب بمرض الزهايمر. وفي نهاية المطاف، تغادر سمين منزلها تاركة وراءها ابنتهما الوحيدة، وزوجها المحب الذي توسل إليها ألا تغادر، إلى منزل والديها في انتظار انتهاء عملية الطلاق.
وبعد تخليها عنهما، استأجر نادر امرأة فقيرة في منتصف العمر تُدعى رازية (سارة باييت) لرعاية والده. لكن العمل الإنساني يتحول إلى كارثة وجريمة في المنظور الديني الضيق الذي يُهيمن على المجتمع الإيراني. وقد بدأ الصراع يتشكل في الفيلم بعد اتهام نادر لرازية بارتكاب جريمة، وفي النهاية يتورّط نادر وسمين ورازية وحوجات في مسائل قانونية طويلة ومتعرجة.
إذا نظرنا إلى الفيلم عبر عدسة ضيقة، فيمكن اعتباره مجرد حكاية عن الانفصال بوصفه جزءًا من سلسلة أحداث مؤسفة ومتوقعة قد تحدث لأي زوجين. لكن الحكاية في الواقع عبارة سلسلة أوسع بكثير من الصراعات التي تتسع لتشمل مواضيع مختلفة تتراوح بين ما هو اجتماعي وقانوني وحتى ديني.
كانت المناظرة التي استمرت أربع دقائق بين قاضي المحكمة الدينية وبين نادر سومين حول زواجهما، مناظرة أولية تعد الجمهور بما لم يكن متوقعًا في الفيلم الذي تبلغ مدته 123 دقيقة. كما أن إدراج شخصيتين جديدتين في الفيلم، رضا وحجة، أضاف المزيد من الأجواء الغامضة والتعقيدات التي تتسم بها طبيعة الحياة في إيران، حيث يحاول الجانبان أن يُظهرا لبعضهما البعض أنهما في المنطقة الصحيحة، وأن لهما وجهات نظر مختلفة.
ومن الواضح أن الجمهور هو القاضي الرئيسي في هذا الفيلم، لكن أصغر فرهادي لم يجعل المهمة سهلة، إذ تصرف كمحامٍ يقدم أدلة مختلفة تؤكد آراء كل مشتبه به، دون الانحياز إلى أي من شخصيات الفيلم، وهو أمر من شأنه أن يجعل المشاهدين يغيّرون رأيهم باستمرار حول الشخصيات التي يجب التعاطف معها، خاصة أنه يقدّم في نهاية الفيلم سلسلة من الأدلة التي يمكن أن تظهر أن جميع الشخصيات في موقف الذنب نفسه، وأن مشاجراتهم ليس لها نقاط مهمة على الإطلاق، وأنهم إذا جلسوا معًا بهدوء، فسوف تنكشف جميع المشاكل التي كانت موجودة منذ البداية.
على العكس من فيلم فرهادي، يتسم فيلم المخرج الأمريكي نواه باومباخ "Marriage Story" بالهدوء. يعترف باومباخ بأن تجاربه الشخصية كانت عاملًا في صناعة العمل، فهو ابن لوالدين مطلّقين، كما مرّ بتجربة طلاق شخصية عام 2013 من زوجته الممثلة جينيفر جيسون لي بعد زواج استمر 8 سنوات، وأثمر عن طفل.
تُحوّل العادات والتقاليد التي تشكَّلت من خلالها أنظمة الحكم في الشرق العمل النبيل إلى جريمة فقط لأنه خارج العرف الاجتماعي
يبدأ الفيلم بحرارة وعذوبة، حيث يتحدث تشارلي (آدم درايفر) ونيكول (سكارليت جوهانسون) عن ولعهما ببعضهما البعض. من خلال هذا الوصف في الدقائق الأولى، نشعر بأن حياتهما الزوجية سعيدة للغاية، وأنهما يكملان بعضهما البعض، ويحاولان بناء عائلة جيدة لابنهما هنري.
ومع ذلك، فإنهما كلما فهما بعضهما أكثر، كلما أدركا أن هناك فجوة كبيرة تجعل حياتهما أكثر تعاسة. فكلاهما يدرك أنهما سيسقطان في هاوية الانفصال، حيث يتشقق إطار الحب الذي يبنيانه ببطء بشكل لا يمكن إصلاحه. وقد تحول الجو الدافئ إلى اللون الرمادي عندما قرر الاثنان الانفصال.
الأجزاء الأكثر إيلامًا في الفيلم تتمثل في طريقة التعامل مع الخصوصيات، والنظر إلى الأخطاء على أنها جرائم محتملة. كتب الناقد الاجتماعي الألماني تيودور أدورنو أن: "الطلاق، حتى بين الأشخاص الطيبين والودودين والمتعلمين، من المحتمل أن يثير سحابة غبار تغطي وتغير لون كل ما تلمسه"، وهي رؤية يوضحها باومباخ بدقة حية، كما يبين كيف أن "مجال العلاقة الحميمة" يتحول إلى سم خبيث بمجرد قطع العلاقة التي ازدهر فيها ذلك الحب.
وهنا نلاحظ الفرق بين دور الحكومات وكيفية تعاملها مع المواضيع المرتبطة بالعلاقات الشخصية. ففي "A Separation"، تناول فرهادي الرؤية الدينية لموضوع الانفصال، وقدّم القاضي بوصفه وجه السلطة الإيرانية المستبدة التي تنكر واقع الوضع المعيشي الصعب في البلاد، وتجلّى ذلك بوضوح عند سؤال القاضي الزوجة عن سبب رغبتها بالهجرة، وحرمانها من التعبير عن رأيها، ورفع الجلسة دون البت في القضية.
وتبدو هيمنة السلطة الدينية في إيران على أبسط التفاصيل واضحة رغم النزوع الفطري لمساعدة الآخرين، وهو ما يتضح عند سؤال رضية لـ"مكتب الإمام" عن إمكانية مساعدة والد نادر العجوز المريض في تنظيف نفسه بعد أن تبوّل لا إراديًا في ملابسه.
يبدو التفاوت بين المجتمعات التي تنتهي بها العلاقات الزوجية بسبب فقدان الشغف وموت العاطفة، وتلك التي يُشارك فيها المجتمع بقتل العلاقات ابتداءً من الدين وصولًا إلى العادات والتقاليد؛ كارثيًا ومثيرًا للسخرية في الوقت نفسه. فقد تم التعامل مع الخيانة الزوجية في الغرب بوصفها حدثًا طبيعيًا يمكن التغاضي عنه، وهو أمر غير مقنع تمامًا. بينما تتعمق المشاكل في الشرق لأسباب تكاد تكون مضحكة، إلا أن العادة والطبع يتفوقان على المنطق وصوت العقل.
تتشابه الأحداث في الفيلمين لناحية الفكرة العامة، لكنها تختلف باختلاف المجتمع، فقد جسّد كلٌ من فرهادي وباومباخ في فيلميهما وجه المدينة ودور السلطة التي تعتمد في الأساس على تحويل كل شيء لصالحها، حتى في القضايا الإنسانية والعلاقات الزوجية، والضحية هم الأولاد.
ألقى فرهادي وباومباخ في فيلميهما الضوء على دور السلطة في هدم العلاقات الزوجية والإنسانية
ويمكن ملاحظة الشكل السطحي الذي تدور حوله السلطة في أوروبا لتحقيق المصلحة الشخصية دون النظر في ما يمكن حله بأبسط الطرق وأقلها تكلفة، بينما نرى العادات التي تشكَّل من خلالها النظام في الشرق قادرة على تحويل حتى العمل النبيل إلى جريمة فقط لأنه خارج العرف الاجتماعي.
كما يمكن أيضًا ملاحظة الانتصار لكل ما هو مادي في الغرب على حساب أي شيء آخر. بينما ينتصر فرهادي للمعنى وللعاطفة الشرقية حتى لو كانت هذه العاطفة تجعل الحياة أكثر صعوبة، فعند تجريد الإنسان من مشاعره سيصبح العالم أكثر توحشًا