رائد وحش
تشير وفاة الفنّان حاتم علي إلى عدة نواحٍ تسترعي الانتباه والتبصّر، منها أن الناس الذين جعلوه حاضرًا على صفحاتهم في الأيام الأخيرة، باكين إياه كما لم يُبك أحدٌ من قبل، هم من يعطي مكانته رسوخها النهائي، لكن ذلك لا يمنع من أن نسأل: لو لم يمت حاتم علي منفيًّا غريبًا، في عمر مبكر جدًّا على موعد الرحيل، هل كان ذلك سيحدث؟ هل ستظل المحبة هي نفسها؟
لو لم يمت حاتم علي منفيًّا غريبًا، في عمر مبكر جدًّا على موعد الرحيل، هل كان ذلك الاحتفاء العظيم به سيحدث؟
في الحقيقة، وعلى الرغم من أهمية المشهد العظيم الذي تشاركنا فيه كلنا، لم يجرِ تكريم حاتم علي على صفحات المنصات الإلكترونية أبدًا، إنما تلك أحزان علنية على شخصية تمثّل الجانب الجميل الذي ننتمي إليه في وطنٍ ضائعٍ اسمه سوريا، وتلك صرخات بُكاةٍ على ذكرياتٍ شخصية تخصهم، كان الراحل جزءًا منها بالطبع لأنّ أعماله تقع في منطقة التشارك في الحياة اليومية، بين أفراد العائلات أو الجيران أو الأصدقاء، أولئك الذين تصبح المشاهدة عندهم، ورفاق تلك المشاهدة ومكانها، بعد كثير من الوقت، جزءًا لا يتجزأ من المشهد الفردوسيّ المفقود للزمن الجميل.
مات خلال هذه السنوات فنانون كثيرون، لكن ما حدث مع حاتم علي لم يحدث مع الجميع، أقلاء من حصلوا على احتفاء جماعي كهذا، منهم الشاعر أمجد ناصر.
قلت إن الوفاة تشير إلى أشياء كثيرة، منها الاتفاق على مكانة الراحل الكبيرة، لكن هل كان ذلك سيحدث لو أن هذا الفنان ليس صاحب مشروع، قضى حياته في إنمائه وتطويره بالمراكمة عملًا بعد آخر؟ وهل كان هذا سيحدث لو أن حاتم علي لم يكن يُشبه السواد الأعظم من الناس من حيث النشأة والتكوين؟ ولو لم تمثّل سيرته الشخصية قصةَ صعود لفتى من قاع الفقر وبؤس أحياء نازحي الجولان السوري المحتل، المهملة والمرذولة بشكل مقصود من الدولة؟
ما من شكّ أن ذلك النحيل، المتوسط القامة، ذا الوجه المألوف، يعيد إلى الأذهان مآثر العصاميين، ويشعل فينا الإعجاب بشخصيته الطموحة المُكَافحة التي لا ترضى بغير إرغام الزمن على الرضوخ والاستجابة لطلباتها، وفي الوقت نفسه هو مثال الفنّان الذي يقيس نجاحه بتطور أعماله ذاتها، لا بحصولها على رضا جمهور المشاهدين الذي يتعاطى معها في كثير من الأحيان كمجرد وجبة مشاهدة، يمكن أن تحل محلها أي وجبة أخرى.
لا تأتي قوة حاتم علي من علاقته من الكاميرا، أو من رؤيته البصرية للعمل الدرامي، ففي مرات قليلة جدًّا قدّم الرجل مغامرات بصرية، كما في مسلسله الاجتماعي المعاصر "على طول الأيام"، الذي جعل فيه الشاشة تنقسم إلى جزءين عند مكالمات العاشقين الرئيسيين في القصة، وتنقسم أيضًا من أجل رصد حالة كل منهما في لحظة واحدة، ثم راحت تنقسم مرات أخرى لترينا ما يجري في القصة التي نتابعها مع جزء لاحق يُصوّر حياة الشوارع في دمشق. أما في مجمل أعماله فظلت الكاميرا مجرد منبر أو منصة تجري عليها الأحداث. وسوف نلمس في كثير من الأعمال الهامة ضعفًا إخراجيًّا، من حيث غلبة اللقطات العامة، وكذلك في مشاهد المعارك، وأحيانًا ستكون هناك أخطاء فادحة. على سبيل المثال، في مسلسل "ربيع قرطبة"، في الفترة التي تتحدّث عن معركة الزلاقة، المعركة التي يتحالف فيها المعتمد بن عبّاد الأندلسي مع زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين المغربي، من أجل محاربة الممالك الكاثوليكية في شمال شبه الجزيرة الإيبيرية، سنرى مشهد المعركة شديد البؤس، يقوم على عدد قليل جدًا من الجنود. لا نشكّ في أن ذلك عائد إلى أسباب إنتاجية، أو حتى ثمة من سيقول إن هناك من هم متخصصون في إدارة تصوير المعارك وليس بالضرورة أن يكون حاتم نفسه. ربما، لكن أمر قبولها في متن المسلسل النهائي عائد إلى موافقته. أما ضعف الإنتاج فيمكن التحايل عليه بطريقة فنية ما، كون إحدى كبرى مهمات المخرج أن يجد حلولًا فنية. طبعًا مشكلة المعارك نفسها تحضر بقوة أكبر في معارك مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، خصوصًا في ثورة 1936، وحرب 1948، حيث نرى إطلاق النار والتفجيرات أقرب إلى مفرقعات نارية، وكم ستكون مضحكة تلك اللقطات لولا قوة القصة ومتانة الرؤية التاريخية، والانفجار الهائل لطاقات الممثلين.
بخصوص الأخطاء الكبيرة، هناك خطآن يحصلان في مسلسل "صقر قريش" تباعًا، الأول حين يكون عبد الرحمن الداخل (يؤديه جمال سليمان) يعبر الصحراء باتجاه مصر بصحبة تابعَيه بدر وأبي شجاع. فجأةً، وسط الصحراء، يظهر على الشاشة عامل الصوت حاملًا الميكرفون، وخلال لحظات سريعة ينظر إليه جمال سليمان. الخطأ الثاني يأتي مع دخول المجموعة إلى مصر، وحين يذهبون إلى السوق لأجل شراء طعام نسمع أصوات الباعة تنادي على بضائعها بالعربية الفصيحة، إلا أن صوتًا غريبًا ناشزًا يعلو وهو ينادي باللهجة العامية السورية!
سوف يزول ضعف تصوير المعارك مع المسلسل الديني "عمر" الذي مكنته ميزانيته الهائلة من جلب فيلة، وتصوير المعارك بمواصفات هوليوودية. يبقى أن ما يحتسب لهذا المسلسل أنه يُظهر وجوه الصحابة، من أمثال أبي بكر الصديّق وعمر وعثمان وعلي، للمرة الأولى على الشاشة.
ما أريد قوله إن قوة حاتم علي تكمن في رؤيته العامة وإحساسه الخاص بأهمية مواضيع معينة، ومن ينظر إلى أعماله الكبرى يرى أن كلًّا منها ناقش قضايا وأرسل حولها رسائل عديدة، فثلاثية الأندلس، على الرغم من اهتمامها التاريخي بقصة صعود حضارة وسقوطها، إلا أنها تركز على الدكتاتورية المتجسدة في شخصيات أهم من حكموا تلك البلاد: عبد الرحمن الداخل، عبد الرحمن الناصر، محمد ابن أبي عامر، وغيرهم، وتعتبر أن الطغيان هو أكبر المقدمات للسقوط ومن ثم الطرد.
ثلاثية الأندلس، على الرغم من اهتمامها التاريخي بقصة صعود حضارة وسقوطها، إلا أنها تركز على الدكتاتورية المتجسدة في شخصيات أهم من حكموا تلك البلاد
الأمر نفسه نجده في مسلسل سابق على ذلك هو "الزير سالم"، إذ إننا رغم اختلاف الكاتب (وهو ممدوح عدوان هنا، وفي ثلاثية الأندلس وليد سيف) ورغم اختلاف مكان وزمان الحكاية، لكن الرسائل تبقى هي ذاتها، وما سنراه في تلك السيرة ليس فقط الحكاية الملحمية للأبطال، بل سيرة الطغيان التي أودت بالمملكة الطموحة التي بناها كليب بن مرّة إلى حرب لا تبقي ولا تذر.
لا يمكننا ادعاء الإحاطة بمنجز الراحل في سطور قليلة، لكن هذه دعوة لقراءته قراءة منصفة، بعيدًا عن المشهد الاحتفالي الضروري بلا شك، لأنه من دون الحب لا تبقى قيمة لشيء على الإطلاق، لكن الاحتفال الذي يركز على العاطفي فقط سيحجب القيم الفنية والفكرية. ما نحتاجه فعلًا هو قراءة نقدية من دون نكران مكانة حاتم علي الهامة التي أسّسها على رؤيته القائمة على السعي لصناعة دراما عربية، دراما تلامس أرواح أناس في مساحات شاسعة، فيما غرق الآخرون في البحث عن خلطات النجاح المضمونة في صنع درامات محلية.