محمود حسن
أبدى الفنان الكبير خالد تاجا (1939 - 2012)، في أكثر من مناسبة، رغبته الشديدة في لعب شخصية الملك لير؛ تلك الشخصية الشكسبيرية المفعمة بالشعر والدراما، والمُشبعة بالتحولات والمشاعر، من ملك عظيم إلى عجوز بائس ذليل تتقاذفه أيادي الخسة والجحود، ويأكله الندم على ضياع الحكم. هذا الحلم الذي راود ممثلًا بحجم خالد تاجا، يعكس الكثير من فطنته وفرادة اختياراته، مثلما يعكس الطريقة الخاصة التي يحاول أن يرسم من خلالها مسيرته المهنية والفنية، ونظرته إلى فن الممثل، وإلى البحث الفلسفي والاجتماعي الملازم لعملية خلق الشخصية وتصويب اتجاهها.
لم يُكتب للفنان الكبير أن يلعب هذه الشخصية المركبة التي كان يبحث من خلالها عن تتويج لمسيرته الحافلة بالشخصيات، التي حُفرت في الذاكرة السورية والعربية، وجعلت منه ممثلًا بمقاييس عالمية لا تقل ولا تختلف عن كبار الممثلين في السينما والمسرح والتلفزيون في العالم.
خلّص خالد تاجا الشخصية الدرامية من سماتها التربوية التوعوية من خلال جدية البحث عن النموذج الإنساني الحي لتلك الشخصية في سياقها الاجتماعي الحقيقي
وعلى الرغم من أن الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش قد أثنى على أدواته وموهبته، وأطلق عليه لقب أنتوني كوين العرب، لكن لم يحدث أن علّق الفنان الراحل على هذا اللقب. وأشعر، وأنا أراجع مسيرته الفنية، وكم الشخصيات المتنوعة والمتناقضة في اختلافها التي جسّدها، أنه لم يرق له أن يوضع في سياق التشبيه.
ومع أن درويش محق في وصف فرادة أدواته كممثل، وبأن مقاييس هذه الأدوات عالمية وليست محلية، لكن اللقب ينطوي على وضع الممثل في سياق التشبيه لا في سياق الندية. فالموهبة الفذة التي امتلكها خالد تاجا يجب ألا تُقرأ من خلال الإمكانيات، بل تقرأ بذاتها ولذاتها. فذات الموهبة، في سياق مختلف من الإمكانيات الإنتاجية العالمية، سوف تُظهر أن خالد تاجا ليس مجرد نسخة عربية من فنان عالمي، بل هو ند على مستوى الأدوات والموهبة، وحتى الذهنية.
يُمكننا أن نفهم أن تشبيه خالد تاجا بأنتوني كوين تحدوه النية الطيبة والإمعان في الثناء، لكنه يبقى فهمًا شائعًا بين الأوساط الثقافية العربية التي كانت مأخوذة بالمقارنات والنمذجة للتجربة الغربية وإسقاطها على السياق الفني والثقافي العربي، ولو سُئل تاجا عن رأيه باللقب فعلى الأرجح أنه سيحترم نية درويش، لكنه سيرفض المقارنة والتشبيه، مثلما رفض الممثل المصري الكبير محمود حميدة، تشبيهه بـ روبيرت دي نيرو وقال إنه ممثل ينتمي إلى السياق السينمائي العربي والمصري، وفق إمكانيات هذا الوسط. ولو كان في أميركا، سيبقى محمود حميدة في سياق مختلف، لذلك فهو لا يشبه أحدًا ولا يحبذ أن يتم تشبيهه بأحد، ففي الأمر انتقاص وذم للموهبة.
وأرى أن خالد تاجا، رغم أنه لم يقل ذلك، لكنه ينتمي حتمًا إلى هذه الذهنية في النظر إلى أدواته وموهبته. ويمكننا نحن أيضًا أن ننظر بذات الطريقة ونراجع مسيرته الفنية كممثل في ضوء الندية لا في ضوء التشبيه. لو لم تكن هذه القراءة هي الأقرب لشخصية خالد تاجا، لما ظهر اسمه في قائمة أفضل 50 ممثل في العالم حسب مجلة "Time" الأميركية عام 2004.
إذًا، ما الذي يجعل من خالد تاجا ذلك الممثل الاستثنائي؟ تلك الظاهرة نادرة الحدوث في الوسط الدرامي السوري منذ تشكّله؟ ما الذي جعله واحدًا من أهم 50 ممثلًا حول العالم؟ رغم اقتصار نشاطه على الدراما المحلية، وبعض التجارب السينمائية القليلة، وبمشاركات عربية وعالمية محدودة وتكاد لا تُذكر، ربما باستثناء بعض التجارب البسيطة في الأردن؟
إن خالد تاجا، ومنذ دخوله عالم التمثيل في بطولة فيلم "سائق الشاحنة"، وهو أول فيلم من إنتاج "المؤسسة العامة للسينما"، كان ممثلًا سابقًا لعصره، كما أن أسلوبيته في الأداء مهّدت الطريق لخروج الدراما السورية ككل من مصيدة التمثيل المفاهيمي، هذا الأسلوب المتشابك بشدة مع مفاهيم الخير والشر، والمرتبط دومًا بالرسالة الأخلاقية للعمل ككل.
في هذه المدرسة، تبدو الشخصيات الشريرة واعية لشرها، وتُعَالج بتبسيط أدائي يُسهِّل مرور المضمون والمقولة إلى المتلقي، بينما عمل تاجا ومنذ البداية على تأصيل النموذج الاجتماعي في الأداء، مما يمد الشخصية بملامح حياتية، ويزيد في أبعادها النفسية والسلوكية، عوضًا عن البعد الأخلاقي الذي كان متحكمًا في العملية الفنية. لم يساهم هذا فقط في تطوير الذهنية تجاه فن الممثل، بل لفت النظر إلى ضرورة أن تخرج الكتابة الدرامية من محبسها الأخلاقي، وتنفتح أكثر تجاه التجربة الإنسانية الحية، وقاد ذلك إلى تطوير تقنيات الحوار، ومنح الشخصية حياتية أكثر.
تطوّرت عملية كتابة السيناريو، وانحاز العمل كتابة وإخراجًا وتمثيلًا نحو الفعل أكثر من القول، واستطاع تاجا من خلال عمله كممثل فقط، ودون أن تكون له مساهمات في الكتابة والإخراج، من تقريب الشخصية الدرامية من المجال العاطفي للمتلقي، فعلًا وانفعالًا وتفاعلًا، وخلّص الشخصية الدرامية من سماتها التربوية التوعوية، من خلال جدية البحث عن النموذج الإنساني الحي لتلك الشخصية في سياقها الاجتماعي الحقيقي.
عمل تاجا منذ بداياته على تأصيل النموذج الاجتماعي في الأداء ومدّ الشخصية بملامح حياتية تُقرِّبها من المشاهد
وبينما كان ياسر العظمة ينظر إلى المشاهد في نهاية كل لوحة غامزًا إياه ليدرك المغزى، وبينما كان مسرح الشوك بصورته المتلفزة، مستغرقًا في نسج المقولات وابتداع الإسقاطات السياسية، كان خالد تاجا منصرفًا أكثر إلى التفكير بملامح شخصياته الخارجية وعالمها الداخلي أكثر، قافزًا فوق الأنماط الاجتماعية الجاهزة، كاسرًا حصار المقولة للشخصية الإنسانية.
يُمكن ملاحظة ذلك بشدة في انخراطه السريع والمنسجم مع الجيل التالي لجيله، وانتمائه ذهنيًا لهم أكثر من انتمائه لجيل المؤسسين، على الرغم من أنه واحد منهم. ذلك الجيل الذي أتى بعد جيل المؤسسين من أمثال دريد لحام ونهاد قلعي ورفيق سبيعي وعمر حجو وغيرهم، وصار خالد تاجا محسوبًا بشكل أكبر على جيل بسام كوسا وأيمن زيدان وعباس النوري. هذا الجيل الذي نجح في إدخال المفاهيم الأكاديمية بشكل أكثر عمقًا في صناعة الدراما السورية، والذي يرى في فن الممثل وتطويره اللبنة الأولى في بناء دراما حقيقية ناجحة وذات مصداقية. ولا شك أن تعميق الفهم تجاه فن الممثل لا بد له، لكي ينجح، من تمكين فنون الكتابة الدرامية، خاصةً الكتابة للصورة، أي الدراما التلفزيونية المتسلسلة.