دعاء رمزي
مع الحاجة إلى 1000 سنة ضوئية للخروج من مجرة درب التبانة وتصويرها من الخارج، ومع حقيقة أن أسرع آلة أطلقتها ناسا في الفضاء هي مسبار فويجر وان عام 1977 الذي لم يقطع طوال هذه السنوات إلا 23 مليار كيلو متر بما يعادل 21 ساعة ضوئية تقريبًا، وأن أمامه 18 ألف سنة ليُكمل سنة ضوئية واحدة فقط، فهذا أدى إلى تشكيك الكثيرين في الصور التي التقطتها ناسا لمجرة درب التبانة مؤخرًا وخصوصًا أنها قالت إن تلك الصور هي للمجرّة من الخارج، فكيف التقطت هذه الصور مع كل الحقائق السابقة؟
فإذا كان من المتصور والمنطقي بالنسبة لنا أن نستطيع تصوير المجرات الخارجية نتيجة التليسكوبات الحديثة شديدة التطور والموزعة في الفضاء، فإنه من الصعب للغاية تصور أن يتم قطع كل هذه المسافة، بل إنه مستحيل تمامًا في الوقت الحالي، خصوصًا أن مسبار فويجر المُشار إليه من المتوقع أن تنتهي بطاريته النووية عام 2036، وقد نجح بالفعل في التقاط آلاف الصور المذهلة للفضاء والكواكب ولكن ليس لمجرة درب التبانة من الخارج.
فكيف تؤكد ناسا أن الصور المنتشرة أخيرًا هي لمجرتنا، وكيف تمكنت من تصويرها على الرغم من عدم توفر تكنولوجيا، معلنة أو سرية، لإتمام هذه المهمة؟
تقطيع الصور وجمع المعلومات ومقارنة البيانات
لم تدعي ناسا مُطلقًا أنها أطلقت أي آلة في الفضاء الخارجي نجحت في عبور مجرة درب التبانة إلى الخارج، ولكن هذا مع ذلك لا يتعارض مع إمكانية أن تكون الصور التي شاهدناها هي بالفعل لمجرتنا من الخارج.. فكيف هذا؟
في الواقع إذا تخيلت أنك في منزلك من الداخل وترغب في التقاط صورة بانورامية له فهذا يمكن أن يتم بمهارة عن طريق التقاط صورة لكل جزء في المنزل وأنت في مكانك ثم تركيبها من جديد لتحصل بالفعل على صورة مجسمة تمامًا وبانورامية دون أن تتحرك من مكانك.
وهذا ما فعلته ناسا...
فمع مجموعة من التلسكوبات شديدة القوة مثل هابل وشاندرا وسبيتزر وجيمس ويب، التي لا تتوقف جميعها عن التقاط صور للمجرة طوال الوقت وباستخدام أطوال موجية ضوئية مختلفة ومع استخدام تقنيات أخرى لدراسة أماكن الكواكب البعيدة في مجرة درب التبانة وخارج مجموعتنا الشمسية والتمكّن من رؤية الغبار والغاز البعيد وتقدير الأماكن من حوله، فإن تلك الصور شديدة الغزارة والتنوع ومتباينة الدقة كانت قادرة بالفعل على منحنا صورة أقرب ما تكون للدقة لمجرة درب التبانة من الخارج.
لكن ما الدليل على جدوى هذه التقنية في تصوير المجرة بأكملها؟ فلم يخرج أحد من المجرة ليؤكد لنا صحة هذا التصور. في الواقع الدليل على جدوى ودقة هذه التقنية هو أنها ليست تقنية جديدة على الإطلاق بل ليست حتى من ابتكار ناسا وعمرها يصل إلى عدة قرون!
تقنية تقطيع الصور ليست من ابتكار ناسا
فمنذ عهد الإغريق وتحديدًا في القرن الثاني الميلادي ظهر كلوديوس بطليموس الذي عاش سنوات طويلة في الإسكندرية وتمكّن من وضع ملاحظات قيّمة للغاية بشأن مواقف النجوم ومواقيت الخسوف والكسوف، وكانت نظرياته مرجعًا للكثير من علماء الفلك الأوروبيين والعرب حتى مطلع القرن السابع عشر الميلادي.
فمع أن بعض نظرياته لم تكن دقيقة مثل قوله بثبات الأرض، وأن الكواكب تدور حولها، إلا أنه فيما يتعلق ببعد الأرض عن الشمس وعن الكواكب كانت حساباته دقيقة إلى حد كبير على الرغم من عدم خروجه من الأرض.
كما نجح العرب منذ عام 829 ميلادية وتحديدًا بعد بناء مرصد الشماسية في بغداد من تطوير الكثير من النماذج الفلكية والتعرف على مواقف النجوم بطريقة ثَبتت دقتها الشديدة فيما بعد، أيضًا مع عدم الخروج نهائيًا من كوكب الأرض.
أما بعد هذا ونتيجة ابتكار الأقمار الاصطناعية والتليسكوبات الفضائية والقادرة على السفر لمليارات الكيلومترات في الفضاء والتقاط صور شديدة الدقة فلم يعد الأمر غير قابل للتصور، بل إنه يحدث حتى بالنسبة لتاريخ وأماكن مجهولة على الأرض نفسها.
فلم يكن هناك أحد من البشر على الإطلاق في زمن الديناصورات مثلًا، وكل ما لدينا عنها هو أحافير تم تجميعها على مدى مئات السنوات، وباستخدام التقنيات الحديثة والتي تتطور كل ثانية أمكننا رؤية الديناصورات التي انقرضت فعليًا قبل نزول الإنسان على الأرض بملايين السنوات.
شكل مجرة درب التبانة من الخارج
دون تلسكوب تُمكن رؤية نحو 6000 نجم من سطح الأرض، وقد تمكّن القدماء من رصد الكثير من مشاهدات النجوم وخصوصًا في أوقات صفاء السماء تمامًا، وعلى الرغم من التلوث وثقب الأوزون إلا أنه يمكن حتى العصر الحديث مشاهدة آلاف النجوم في أوقات متفرقة من العام من سطح الأرض وبالعين المجردة.
وتعد الشمس واحدة من مئات المليارات من النجوم التي تدور في مكان كوني شديد الضخامة يُطلق على مجرة درب التبانة، وقد أثبتت الكثير من الصور التي تم التقاطها للنجوم المحيطة بالشمس أن مجرة درب التبانة على شكل حلزوني ولها عدة أذرع يختلف العلماء في تحديدها بدقة حتى الآن فمنهم من يقول 4 ومنهم من يقول ستة.
وتقع شمسنا على واحدة من تلك الأذرع وعلى بعد 25 ألف سنة ضوئية من مركز المجرة، فحتى لو سافرنا بسرعة الضوء، التي تبلغ 300 ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، فسوف يستغرق الأمر منا 25 ألف سنة للوصول إلى منتصف مجرة درب التبانة.
واسم مجرة درب التبانة ظهر منذ الحضارة الإغريقية حيث تروي الأساطير اليونانية أن الآلهة هيرا رشّت الحليب عبر السماء وكوّنت النجوم، ومع تأثر معظم حضارات العالم القديم بالحضارة اليونانية تم تثبيت الاسم، ولكن المجرة تُعرف في أماكن أخرى من العالم بأسماء مختلفة مثل النهر الفضي في الصين ومثل العمود الفقري لليل في جنوب إفريقيا وغيرها.
وتعدّ مجرة درب التبانة من المجرات شديدة الضخامة في الكون، فهي تحتوي وفقًا لما اكتشفه العلماء حتى الآن على مليارات النجوم، في حين مجرات أخرى لا تحتوي إلا على الملايين، وشكلها الحلزوني من الأشكال المنتشرة في الفضاء ولكنه ليس الأكثر شيوعًا حيث يعد شكل المجرة البيضوي هو الأكثر انتشارًا مع وجود عدد أقل من المجرات غير منتظمة الشكل.
عدا عن شكلها.. حقائق مخيفة عن مجرة درب التبانة
إذا كانت صور ناسا قد أثارت المزيد من فضولك عن مجرة درب التبانة وترغب في التعرف إلى الكثير عنها، فإليك بعض الحقائق التي قد تبدو مخيفة قليلًا.
الثقب الأسود الهائل في المنتصف
ذكرنا أن مجرتنا الشمسية تقع على أحد الأذرع الحلزونية للمجرة وعلى بعد سنوات ضوئية طويلة من المركز وهو ليس مجرد غبار، ولكنه عبارة عن ثقب وحشي كبير تبلغ كتلته أربعة ملايين ضعف كتلة الشمس، ولم يتمكّن العلماء حتى الآن من تصوير هذا الثقب الهائل حيث إنه مخفي تمامًا بين سحب كثيفة من الغبار والغاز، ولكن مع تتبع مدارات النجوم وسُحب الغاز تمكّن العلماء من تحديد مركز المجرة واستنتاج كتلة الوزن الكوني الثقيل المخبأ خلف هذه الستارة الكثيفة من الغاز.
عمرها مقدر بأربعة مليارات سنة
قدّر العلماء عمرًا افتراضيًا لمجرة درب التبانة بنحو 4 مليارات سنة، حيث من المتوقع اصطدامها بأقرب جاراتها وهي مجرة أندروميدا، حيث تندفع المجرتان تجاه بعضهما البعض بسرعة 250 ألف ميل في الساعة، وعلى الرغم من عنف الارتطام إلا أن العلماء يقولون إنه قد لا يكون كارثيًا للغاية وإن الأرض يمكن أن تنجو منه.
يمكن رؤية إحدى أذرع مجرة درب التبانة من سطح الأرض
فمنذ العصور القديمة للغاية لاحظ الناس وجود ذراع ضخمة تشق السماء بقوة في بعض الأوقات، ويمكن رؤيتها حتى الآن عند ظهورها إذا كنت في الصحراء ليلًا، ويرجح الكثيرون أن هذا الخط الهائل من النجوم ما هو إلا إحدى أذرع درب التبانة التي تظهر عندما تكون الأرض في موضع جيد لرؤيتها.
المجرة ذات شكل شبه مسطح
في حين أن عرض مجرة التبانة في المتوسط يقدره العلماء بنحو 100 ألف سنة ضوئية، إلا أن سُمكها لا يتعدى 1000 سنة ضوئية، ومع اتساعها الهائل فإنها قد تبدو مسطحة إلى حد بعيد مع أنّ هناك بعض التشوه.
إن الحقائق والمعلومات الغريبة عن مجرة درب التبانة لا تزال تثير فضول الكثير من العلماء، ومع وجود مليارات النجوم حولنا فإن التساؤلات حول وجود حيوات أخرى تتضاعف بشدة وتثير فضول العلماء أكثر بكثير من أي وقت سابق.