"يخاف الأفراس".. رواية تكتب حقيقة التونسيين عارية كما هي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "يخاف الأفراس".. رواية تكتب حقيقة التونسيين عارية كما هي

    "يخاف الأفراس".. رواية تكتب حقيقة التونسيين عارية كما هي


    صلاح البرقاوي يطلق رحلة إلى دهاليز الذوات والمسكوت عنه منذ قرون.
    الأحد 2023/09/10
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    أزمة الجسد والوجود (لوحة للفنان عاطف معطالله)

    يمكن للرواية أن تذهب بنا بعيدا إلى الماضي أو تفكك الحاضر وتتنبأ بما سيحدث، لكن ليست رحلتها الزمانية المشوقة هي ما يجعل منها عملا عابرا للزمن والقراء بأصنافهم، بل الفكرة، الرواية في نهاية الأمر

    فكرة، تجربة ثقافية، قارئها الذي دخلها ليس هو نفسه الذي يخرج منها، بما تتركه فيه من أثر، وهذا ما تنبه له بشكل ملحوظ الكاتب التونسي صلاح البرقاوي.

    لنتأمل للحظة في التجارب الأدبية التي كان لها حظ النجاح والرواج ولو بعد حين، سنكتشف قاسما مشتركا بينها كلها، أيا كان جنسها، إنها نجحت في أن تتحول إلى تجارب ثقافية، ولم تبق حبيسة الذات أو اللغة وبلاغتها، أو التقنيات وحزمها.

    لِنرَ مثلا تجارب مثل الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث الذي أعاد صياغة أساطير الهنود فاتحا إياها على عوالم مثيرة من الذات والتاريخ والبيئة المحيطة به، لنر مثلا خورخي بورخيس الذي استعاد في قصصه حياكة تاريخ البشر مستفيدا من “ألف ليلة وليلة” بشكل كبير، أثر استفاد منه أيضا ماركيز وهو ينشئ عوالمه اللاتينية بين مزارع الموز وحلبات صراع الديكة والأزقة الترابية التي عبدها الجنود.
    تجربة ثقافية


    الرواية تسير في خطيّة زمنية، يكسرها الاسترجاع أو الاستباق، مع الراوي المهيمن وهو نفسه بطل الرواية هادي بازينة

    لنر مثلا ميلان كونديرا واستعادته الرائعة لتاريخ التشيك الشيوعية، وفتحه رواياته على آفاق تعليمية مبهرة كفيلسوف مفاهيم حقيقي، لنرى مثلا نجيب محفوظ الذي بنى عالمه على بيئة مصرية تحولت إلى مثال عالمي بروائحها ونسائها ودسائسها وعلاقاتها، لنذكر مثلا محمود درويش وسعدي يوسف أو سركون بولص الذين حول كل منهم تفاصيل فلسطين والعراق إلى مناخات كونية، منفتحين على حضارات أخرى، وعلى الذات في تجربتها الحياتية بدقة عالية يحسبها البعض سهولة.

    التجارب كثيرة لكن ما يجمعها هو أنها غاصت عميقا في بيئتها، لا من باب التوثيق بل من باب الاستعادة الواعية، فحاكمت تاريخها وأعادت الاعتبار للهامشي منه، لذا فقراءة هذه الأعمال ما هي في النهاية إلا تجربة يشترك فيها الحسي العاطفي مع الفكري للخروج بأثر، وكم أحب تسمية الكتب بالآثار، لا المتحفية وإنما بما تخلفه من أثر في قارئها.

    ما نقصده بالتجربة الثقافية ليس التعليمية أو بث المعلومات التي باتت متاحة على الإنترنت، وليس التفكير نيابة عن القارئ، وليس استعادة التاريخ والتوثيق، وغيرها من أساليب الحذلقة التي ينتهجها بعض الكتاب تجاه القارئ، التجربة الثقافية ببساطة هي أن تجعل النص من لحم ودم، وأن تحركه على مستويات قراءة عدة، نص لا يكتفي بما يقوله بل يهمه ما في الخلفية مما يقال. يحرك عناصره ليقول الفكرة من خلف جمالياته الأسلوبية واللغوية والفنية.

    وقد بنى صلاح البرقاوي روايته “يخاف الأفراس” على تلك الخلفيات، إذ تأخذنا الحكاية المشوقة بشخصياتها في رحلة أبعد إلى التاريخ العام والشخصي للبطل هادي بازينة وبقية الشخصيات التي يروي بلسانه عنها، وتأخذنا إلى رحلة أبعد من التاريخ، رحلة إلى دهاليز الذوات والمسكوت عنه منذ قرون، من الحيوات الجنسية والعاطفية والميولات والحماقات والخيالات والعلاقات المحرمة وغيره مما نكابد عادة لإخفائه بالملابس والصمت. إن بطل البرقاوي في النهاية ما هو إلا نحن، شخص يمثل كثيرين، ممن طوحت بهم الحداثة وأعطبهم الماضي بخرافاته وعاداته وكل خفي منه.
    شخصيات معطوبة



    صلاح البرقاوي يفضح علاقاتنا المختلة بأجسادنا ويكشفها بشكل عميق من خلال ما يصيب بطل روايته من أزمات


    تسير الرواية في خطيّة زمنية، يكسرها الاسترجاع أو الاستباق، مع الراوي المهيمن وهو نفسه بطل الرواية هادي بازينة، ابن الدشرة الذي يحكي ما يشبه سيرته وسيرة دشرته وأبنائها، شخصيات متعددة أغلبها متخيل، ولكن تدخل في الأحداث شخصيات حقيقية وأحداث حقيقية من تاريخ تونس، فنجد مثلا الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وصولا لاحقا إلى الشهداء الفاضل ساسي في ما عرف بثورة الخبز ونبيل بركاتي المعارض الذي مات تحت التعذيب في زمن نظام بن علي، وغيرهم كثيرون.

    يحكي بازينة سيرة الدشرة وحكاياتها الخفية، يحكي عن حماقات الطفولة وتمرد المراهقين وأفعالهم التي يجهدون لإخفائها وهم كبار لاحقا، مثل ممارسة الجنس مع البهائم وتجريب الذكورة في صبي الكتاب مصطفى، أو تجريب الأنوثة في الصبيان الصغار مثلما فعلت سالمة مع هادي قبل أن تتزوج الجزار، يحكي العلاقات السرية التي تحاك في الدشرة، حيث يهيمن الذكور على كل شيء ولا تجد النسوة سوى حفلات البكاء في المآتم للبوح بصراخ مكلوم.

    صورة هادي بازينة عن دشرته وطفولته ليست تلك النوستالجيا الحزينة، بل تتخللها نظرة الساخر، نعم لا يمكن إلباسها كلها لبوس السخرية أو المرارة، إنما يمكننا القول إنها نظرة شاملة حاولت أن تأتي على كل الزوايا والظلال المخفية وهو يعري مكان طفولته لعله يكتشف سببا لما أصابه من عطب.

    نمر مع هادي إلى خروجه من الدشرة ودخوله إلى الجامعة في تونس، مسيرة لا يؤطرها بزمن واضح، لكننا نفهم من سياق الأحداث أنها الثمانينات من القرن العشرين، أواخر حكم الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، وما شهده من تقلبات عاصفة، بدأت بثورة الخبز وانتهت بالانقلاب عليه من وزيره الأول زين العابدين بن علي.

    أحداث سياسية مشحونة عايشها هادي خاصة داخل أسوار الجامعة، وحول حجرة سقراط (وهي مكان حقيقي) في الكلية حيث يلتقي المناضلون لإلقاء الخطب وبث الوعي السياسي والتحريض على التحركات الاحتجاجية وحتى على الثورة والمجاهرة برفض النظام والدعوة إلى إسقاطه، وصولا إلى شوارع مثل شارع الحبيب بورقيبة وشارع باريس، حيث كان الالتحام مع قوات البوليس، وهما شارعان حقيقيان أيضا.



    ما يحرك الراوي لحكاية كل ذلك هو لقاؤه بزهرة الدشراوي الذي بدأت به الرواية وأوحى لقرائه بأن هذا اللقاء سيغير حياته من بعد، زهرة الفتاة المتمردة التي اشتبك في عراك مع شقيّين لأجلها، ستصبح الحلم الملاحق، يلاحقها هادي من حجرة سقراط إلى أروقة الكلية إلى الشارع، ولكن عبثا، بعد أن يناله منها البرود والجفاء.

    من خلال زهرة يعري هادي حقيقة المناضلين، فصديقها الزعيم ليس سوى وصولي وانتهازي، وهي صورة مكررة في نسخ لا يمكن عدها، الكثير ممن يدخلون الجامعة التونسية مناضلين وقادة وزعماء ثوريين، يخرجون منها موظفين في الدولة أو حتى لدى الحزب الحاكم، وينقلبون بشكل يثير السخرية أحيانا، وكلنا في النهاية عشنا تلك المراهقة السياسية بشكل من الأشكال، زمن الأيديولوجيا والأفكار والأحلام التي يخونها الجميع في النهاية لمصالحهم الذاتية.

    من ناحية أخرى استغل صلاح برقاوي رحلة هادي من الدشرة إلى المدينة والجامعة، لإثارة العلاقة القديمة والمتجددة التي مازالت تحكم الريف بالمدينة، صور مغلوطة تماما عن بعضهما البعض، يتخيل القادم من الدشرة المدينة “بازار” نساء مفتوح ومساحة حرة ومجالا لممارسة الأفكار والتصورات، بينما يتصور أهل المدينة سكان الريف أجلافا بلا ثقافة ولا ضوابط، صور نمطية للغاية لكنها ما تزال سارية المفعول في المجتمع التونسي وإن بتغييرات طفيفة.

    الصور المغلوطة هذه هي التي دفعت هادي إلى خنق الموظف الذي معه لاحقا رافع الشريف، وهو مثال الموظف الكسول الذي يستغل علاقاته بالحزب الحاكم ليمارس نفوذه. والصور المغلوطة هذه هي التي دفعت هادي إلى محاولة كشف الحقيقة كما هي عارية بلا خجل، حقيقة الريف والمدينة، محاولا هتك ستار الصمت والإخفاء والزيف والكذب، لعله يداوي جراحه وجراح مجتمع كامل يحيا ويموت دون أن يقول حقيقته أو يجرؤ على التفكير فيها، الصمت والإخفاء هما السيدان على كل شيء وكل الذوات في مجتمع المدينة والدشرة.

    لا يخشى هادي من تعرية الحقائق وهو يتجاوز زهرة، يتناساها، ويتخرج ويدخل عالم الوظيفة شأنه شأن أصدقاء الجامعة، حبيب المولاهي وعفيف الفجاري، حبيب رفيق غرفته المتوازن والمفكر والحكيم في أغلب تصرفاته فأر الكتب الذي كون ثقافة واسعة، أما عفيف فصديق أسوار الجامعة البشوش الذي لا يهمه من العالم سوى معاكسة النساء والظفر بهن.

    أحداث وشخصيات الرواية تتحدى الصمت والإخفاء السيديْن على كل شيء وكل الذوات في مجتمع المدينة والدشرة

    تتواصل الصداقة في جلسات الحانة مع النادل سيكا، وتتحول الحكايات لتتنصل من الانفعال السياسي الذي كان يشوب البطل، وتدخل في مجالات أخرى أقرب إلى الهواجس، وخاصة تلك التي نستقيها من علاقات هادي بالنساء، النساء اللواتي حاول من خلالهن عبثا أن ينسى زهرة، نساء ليل، وأخريات لهن علاقة أكثر تشعبا بأجسادهن، مثل عائشة القادمة هي الأخرى من دشرة والتي تستغل جسدها لبلوغ مآربها، فنالت من خلاله شهادة الفلسفة وكان يمكنها مواصلة شهادة الدكتوراه من خلاله أيضا، لكنها تقع في حب هادي، علاقة مثيرة تنتهي بزواج هادي من زهرة.

    نجد شخصيات أخرى مثل الناصر روقارة وهو بوليس يعمل قوادا ببعض نساء الليل اللواتي يحكمهن الخوف من بطشه، مثل بية الفتاة المغلوبة على أمرها والمطرودة بسبب شهوتها إلى عالم الليل الموحش، من خلاله يفضح الراوي شكل النظام البوليسي الذي كان قائما في زمن بن علي، ولكنه يعود إلى نشأة الناصر هذا، ويفكك طفولته ليفهم سر الحقد الدفين الذي يحمله شخص يتحول بمرور الزمن والأحداث إلى رجل قبيح بطنه تحاول الفرار من جسده وأسنانه سوداء ولا يخلف فرصة للتنكيل بغيره، وهو ما سيمارسه مع هادي نفسه إذ يبتزه ويفضحه بعد تدبير لقاء حميمي له.

    كلها شخصيات لا مثالية فيها، بل هي نماذج من مجتمع المدينة المختلط، من موظفين وأساتذة ونساء ليل وغيرهم، ومن أجداد آباء تستحضرهم الذكرى دون إثقالهم بالأمجاد، شخصيات حقيقية تكشف حقيقة المجتمع وحقيقة أعطابه التي يخفيها.
    العقل هو الجسد



    تأبى السنوات أن تبعد زهرة عن هادي، لذا ومن حظه تكون هي مديرته الجديدة في العمل، وتنشأ بينهما علاقة خجولة ظلت سنتين على تردد، قبل أن يتزوجا وتنقلب الرواية إلى مجال أكثر عمقا في حفرياتها النفسية والجسدية.

    يمكنني تقسيم الرواية إلى جزأين، ما قبل الزواج وما بعده، ما قبل بما فيه من حكاية للذات متداخلة مع التاريخ الذي يأخذ الخلفية، وما بعد وهي أيضا حكاية الذات في علاقة أساسية بالجسد، وتعرية لعلاقاتنا الكاذبة بأجسادنا في مجتمعنا المديني أو في عائلاتنا وفي القرى، علاقات لم يغير من طابعها الزائف المكان، بل تناسلت وتشابهت وتناسخت، علاقات يحكمها الخوف والريبة، الفتاة التي يحرس الجميع ما بين فخذيها، والتي تحاصرها العادات والعائلة والدين محولين إياها إلى ما يشبه القربان، والفتى الذي يكبت ذكورته فيسقط إما ضحية غيره، أو ينشأ على خلل الجسد يتلوه خلل في النفس، وهو لا يجد الإجابات عن سؤاله: كيف جئت إلى هذا العالم؟ سوى الصمت.

    إذن علاقاتنا بأجسادنا أولا هي علاقات مختلة كما تكشف الرواية، وكما نكتشف بشكل أعمق من خلال جلسات هادي مع طبيبه النفسي لعله يصل إلى حل لمرضه، الذي يصر الطبيب على أنه ليس مرضا، يعود هادي لجرد ماضيه من جديد بحثا عن السر، يفتح أكثر سراديبه المجهولة والمخيفة ليكتبها ويخرجها للضوء، يقرأ ماضيه بجرأة قلما واجهناها، ماضيه الجسدي بالأساس، يستمر في الحفر أبعد، وصولا إلى سؤال غريب ربما: هل زهرة عذراء؟ سؤال يوضح لنا مدى الاهتزاز النفسي الذي قد يواجه أحدنا، بين أفكاره التي يتبناها والتصورات القديمة التي تظل رابضة في الداخل دون أن يلغيها فكر أو تجربة. تصورات عن العلاقات والآخر والجسد والحياة، تدعي حداثة هي الأخرى معطوبة لأنها لم تواجه النشأة من جذورها لتقويمها.
    نخرج من الرواية متسائلين بشكل ملح هل لدينا مدينة حقيقية، ليس بمفهوم المباني والبنى التحتية، بل بالمفهوم المدني والفكري؟

    تتواصل رحلة هادي إلى أن يخون زوجته، ومن ثم يقع له الحادث الذي يذهب معه إلى غيبوبة يفيق منها، علاقته بزوجته تنهار، هو لا يدري إن كان فعلا يحبها، ولكنه يحبها، كل النساء الأخريات ما هن إلا للرغبة، أما زهرة فهي امرأة أخرى، ونأسف إن كان التشبيه سيثير حفيظة البعض رغم بلاغته، فإنه يضع الفرق واسعا بين الحمير والأفراس. وتشتد الدوامة على هادي إلى درجة أنه يقف على الشرفة ويحاول الانتحار، إلى أن يبدأ الاعتراف من جديد. يعترف لزهرة بكل شيء.

    بنيت الرواية على خطية زمنية كما أسلفنا، لكن الاسترجاعات أو الاستباقات أبعدتها عن الرتابة، ومن ثم رغم غياب الأصوات وهيمنة هادي على السرد، فإن صوته شهد تحولات أتقن الكاتب في تمثيلها خاصة في تنقلاته بين ماضيه وحاضره أو روايته حكاية أحدهم أو إحداهن.

    وتحضر في الرواية الكثير من الأغاني الشعبية والحوارات بالدارجة، كما تحضر مقولات هامة نجدها مثلا للشاعر المكسيكي أوكتافيو باث أو حتى لسياسيين وفلاسفة وعلماء اجتماع وغيرهم، ويحسب للكاتب عدم انخراطه كما يفعل كتاب كثيرون في حشد الأسماء لأعلام وأفلام وكتب وغيرها من تخمة لا تسعى سوى أن تقول “أنا أعرف” وهو ما يسقط النص في باب التعليمية الفجة والتي تنفر القارئ المعاصر.

    نخرج من الرواية متسائلين بشكل ملح هل لدينا مدينة حقيقية، ليس بمفهوم المباني والبنى التحتية، بل بالمفهوم المدني والفكري؟ هل لدينا ريف حقيقي للإنتاج وتحكمه علاقات غير تلك القائمة على السر والمخاتلة وحياكة القصص والخرافات والادعاءات في الخفاء؟ أي علاقة لنا بأجسادنا؟ وإذا كانت علاقتنا بأجسادنا بهذا الكذب والزيف فكيف يمكن أن تنشأ لنا علاقات سوية بالأفكار؟ ألم يقل نيتشه “الجسد هو العقل الأكبر”؟

    ShareWhatsAppTwitterFacebook
يعمل...
X