على السوسيولوجيا اليوم أن تتخلى عن فكرة المجتمع
السوسيولوجيا تولد في اللحظة نفسها التي تبعد عنها فكرة المجتمع وتبتعِد عنها، وتقتصر على دراسة العلاقات الاجتماعية.
الأحد 2023/09/10
ShareWhatsAppTwitterFacebook
العلاقات الاجتماعية بديل المجتمع
“لم نعد ننتمي إلى مجتمع، إلى طبقة اجتماعية، إلى أمة؛ ما دامت حياتنا تتحدد في جزء منها بالسوق العالمية، وفي جزء آخر تنغلق في عالم من الحياة الشخصية، والعلاقات المابين شخصية والتقاليد الثقافية”، و”ليست السوسيولوجيا دراسة للعقلنة ولنفعية المؤسسات الاجتماعية فحسب، بل يتمثل موضوعها الرئيسي في الصراع بين الذات الفاعلة والمنظومات، بين الحرية والسلطة”، آلان تورين (Alain Touraine).
لم تشتهر السوسيولوجيا بقدر اشتهارها بـ”علم الظواهر الاجتماعية”، “علم النظام الاجتماعي”، “علم الاجتماع”… بل بـ”علم المجتمع”. لاسيما في الأدبيات الكلاسيكية، القاموسية مِنها والأكاديمية، المدرسية منها والتخصصية.
إلى وقت ليس بعيد لم يكن ينظر إلى السوسيولوجيا إلا بوصفها علما بالمجتمع وإلى المجتمع، هو المنطلق وهو المنتهى، إلى درجة أضحت فيها السوسيولوجيا علما للعلوم الاجتماعية. لكن سرعان ما سيتبدد هذا التقليد خاصة مع السوسيولوجيات المعاصرة من ناحية ومع التحولات التي مست التشكيلات المجتمعية وأشكال الاجتماع البشري، غربيا وعربيا، من ناحية أخرى.
◙ لا يمكننا اليوم الحديث عن المجتمع ككلية مفقودة في ذاتها، سواء كموضوع للسوسيولوجيا أو كبراديغم للفهم السوسيولوجي. والحال أن المجتمع نفسه انفجر في العلاقات الاجتماعية
ليس من السهولة بمكان التعامل مع فكرة المجتمع في ذاتها، لأن أي تعامل مع هذه الفكرة هو تعامل مع موضوع السوسيولوجيا وهويتها الإبستمولوجية بصفة خاصة، ومع المجال الإبستمولوجي للعلوم الاجتماعية بصفة عامة. ومن هذا المنطلق وجب التمييز هنا بين المجتمع كمعطى واقعي مجتمعي كما هو في الواقع الملموس من جهة، والمجتمع بوصفه فكرة وعلما (وعلوما) وموضوعا، باعتباره بناء مفاهيميا ونموذجا ذهنيا، عِلميا كان أو فلسفيا، من جهة أخرى.
هنا يحق لنا أنْ نتساءل: هل فكرة المجتمع فكرة ضرورية فعلا؟ هل مازال بإمكاننا التعامل مع المجتمع كموضوع للسوسيولوجيا؟ أم أن الوقت قد حان لتفكيك فكرة المجتمع ذاتها وتفجيرها، مع إحلال فكرة العلاقات الاجتماعية محلها؟
في مقاله الموسوم بـ”هل فكرة المجتمع، فكرة ضرورية؟”، يجيب آلان تورين عن سؤاله هذا، الذي جعل منه وسما وعنوانا لمقاله هذا، بالنفي.
والحال أن السؤال نفسه يسائِل مفهوم المجتمع ذاته، فيما إذا كان ضروريا التعامل معه باعتباره منظومة، مؤسسة، مجالا عاما، وعقلا، وباعتباره رجلا (رجل سياسة ودولة)، في مقابل التعامل مع الفاعل (أو الفاعلين بالجمع) بوصفه امرأة (كعالِمة نفس)، مجالا خاصا، عاطفة جياشة، وبوصفه لانظاما. فلطالما أنتج المعنى الكلاسيكي لمفهوم المجتمع فصلا قطعيا بين المنظومة والفاعل، وهو فصل يشبِه إلى حد ما ذلك الفصل بين الحياة العامة والحياة الخاصة، أو بين الرجل والمرأة. فالسياسة هنا منسوبة إلى الرجل، في مقابل علم النفس الذي ينسب إلى المرأة.
◙ وجب التمييز هنا بين المجتمع كمعطى واقعي مجتمعي كما هو في الواقع الملموس من جهة، والمجتمع بوصفه فكرة وعلما (وعلوما) وموضوعا
إن الفاعل الاجتماعي بالنسبة إلى المجتمع المنظومة أو النسق ليس أكثر من امرأة بالمعنى التاريخي المجتمعي البطريركي، كجزء لا يتجزأ من الطبيعة، التي تحكمها الأحاسيس والعواطف والانفعالات، وتحركها الأهواء. إنه ليس أكثر من اللانظام الذي ينبغي أنْ يفرض عليه النظام، ويخضع لهذا النظام. إنه بمثابة المادة الخام التي ينظمها ويحتكمها القانون. ذلك القانون الذي تشكل المنظومة، بوصفها المجتمع عينه، روحا له. هذا هو المعنى الذي ظل سائدا عن فكرة المجتمع، ليس في الفكر الاجتماعي فحسب، بل في السوسيولوجيا الحديثة (والحداثية)، إنْ لم يكن في ممارستنا السوسيولوجية الحالية، أو في ممارسة سوسيولوجية بعينها، خاصة في عالمنا العربي.
ألم يحن الوقت بعد لإعادة النظر في هذا الفصل التراتبي الذي يقوم عليه المعنى الكلاسيكي لفكرة المجتمع، وإعادة النظر في الإعلاء من قيمة المنظومة على حساب تهميش الفاعلين؟
لقد حان الوقت بالنسبة إلى سوسيولوجيينا لإعادة النظر في هذا الفصل الذي يقوم عليه المعنى الكلاسيكي لفكرة المجتمع، وإعادة النظر في الإعلاء من قيمة المنظومة على حساب تهميش الفاعلين. إذ لم يعد ممكنا اليوم النظر إلى المجتمع كمنظومة خالصة. وذلك أن المجتمع حسب كاتبنا لم يعد مبدأ وحدة وتوحيد، بل هو نتيجة صراعاته المجتمعية ونتيجة التوجهات الثقافية الكبرى التي هو مجالها ومدارها. فهو ليس ماهية أبدا ولا ينبغي التعامل معه سوسيولوجيّا على هذا الأساس، إنه حدث.
ونتيجة لذلك “لا يمكن أنْ نفهم الفاعل المجتمعي من خلال المجتمع الذي ينتمي إليه، بل يجب الانطلاق من الفاعلين المجتمعيين ومن الصراعات القائمة التي تجعل بعضهم في مواجهة البعض الآخر والتي ينتج المجتمع نفسه من خلالها. وذلك حتى نفهم كيف تنشأ مقولات الممارسة”.
◙ ليس من السهولة بمكان التعامل مع فكرة المجتمع في ذاتها، لأن أي تعامل مع هذه الفكرة هو تعامل مع موضوع السوسيولوجيا وهويتها الإبستمولوجية بصفة خاصة
لعل تصور تورين للمجتمع في علاقته بالفاعلين الاجتماعيين، فكرة وموضوعا، ليس هامشا معزولا (أو جزيرة معزولة) عن متنه السوسيولوجي بصفة عامة، وإنما هو سيرورة معرفية لنفس الدرب السوسيولوجي الذي يرسم معالمه باستمرار في كل عمل ونص مِن أعماله وأبحاثه ودراساته وكتبه. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى الأسس الإبستمولوجية التي تقوم عليها سوسيولوجيته، التي يمكن تحديدها في التاريخوية (l’historicité)، منظورا إليها لا كما التاريخانية (النزعات التاريخية) المعهودة التي تشترط الوجود البشري والمجتمعي بشروط ومحددات تاريخية تطورية حتمية ولا كما تقدِمها فلسفات التاريخ والفكر الاجتماعي والسياسي عموما، وإنما منظورا إليها باعتبارها النماذج الثقافية التي ينتج بها مجتمع ما ذاته، وبوصفها إبداعا لتجربة تاريخية بعينها.
إن تاريخوية مفكرنا لا تحدد المجتمع إلا بقدرته على الفعل في ذاته، من خلال الصراع الاجتماعي المتجسد في العلاقات الاجتماعية: بين المنظومة والذات الفاعلة (Sujet). وذلك الإبداع -إبداع التجارب التاريخية- لا يكون إلا من خلال الفاعلين الاجتماعيين، أو من خلال العلاقة المتوترة بين المجتمع (كعقلنة) والذات الفاعلة (كتذويت): العلاقات الاجتماعية.
فمنذ كتاباته الأولى عن العمال والحركات الاجتماعية، مرورا بكتبه “من أجل السوسيولوجيا” و”عودة الفاعل” و”نقد الحداثة” و”براديغم جديد من أجل فهم عالم اليوم”… وصولا إلى “نهاية المجتمعات” و”القرن السياسي الجديد” و”دفاعا عن الحداثة” و”ماكرون من خلال تورين”، يعمل وينشط مفكرنا في نفس الدرب: سوسيولوجيا تاريخوية (وتاريخوية سوسيولوجية). مما يجعل من سوسيولوجيته سوسيولوجيا لاوضعانية؛ لاكونتية، ولادوركايمية. إنها سوسيولوجيا مغايرة، أو لنقل تورينية.
إنها سوسيولوجيا تأويلية محايثة للتحولات المجتمعية والثقافية التي مست الكيانات الغربية منها واللاغربية؛ محايثة، كفعالية، لما يسميه تورين بـ”المجتمعات المبرمجة”. سوسيولوجيا تقول بعودة الفاعل الاجتماعي، وإعادة الاعتبار للذات الفاعلة والتأويلات السوسيولوجية الثقافية (كما هو الشأن مع تأويلية ماكس فيبر)، في كل ممارسة (وتفكر) سوسيولوجية.
☚ ينشر المقال بالاتفاق مع "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية
إذن، لا يمكننا اليوم الحديث عن المجتمع ككلية مفقودة في ذاتها، سواء كموضوع للسوسيولوجيا أو كبراديغم للفهم السوسيولوجي. والحال أن المجتمع نفسه انفجر في العلاقات الاجتماعية. لهذا فلزاما على السوسيولوجيا اليوم أن تتخلى عن فكرة المجتمع هذه، التي هيمنت على الفكر الاجتماعي والسياسي من ناحية، وعلى السوسيولوجيات التوتاليتارية (أو الشمولية) من ناحية ثانية، لتحل محلها العلاقات الاجتماعية، ولا شيء غير العلاقات الاجتماعية. هي وحدها، قادرة على جعل الفاعلين والصراع القائم بينهم منطلقا لفهم مقولات الممارسة الاجتماعية، والمساهمة بشكل دائم في تحرير الفاعلين الاجتماعيين: الحركات الاجتماعية، التي صارت حركات ثقافية بالدرجة الأولى.
وفي هذا المِضمار كتب صاحب “عودة الفاعل” قائلا “علينا أنْ نناضل من أجل تحرير الفاعلين الاجتماعيين والعلاقات الاجتماعية، لكن مع العلم بأن هذا الموقف، الذي هو موقف مرغوب فيه ومحبب من الناحية السياسية أو الأخلاقية، ليس لازما إلا من حيث أنه يساعدنا على خلق مناهج البحث التي تلائم تصورنا الجديد للوقائع الاجتماعية”.
وهكذا، فإن السوسيولوجيا تولد في نفس اللحظة التي تبعد عنها فكرة المجتمع وتبتعِد عنها، وتقتصر على دراسة العلاقات الاجتماعية. إن المجتمع نفسه لم يعد شيئا آخر غير “مجال علاقات اجتماعية بين فاعلين اجتماعيين”. ومعنى ذلك أن المجتمع انفجر في العلاقات الاجتماعية. وعلى هذا النحو فإن السوسيولوجيا اليوم، هي “سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية”. إنها “علم العلاقات الاجتماعية”.
السوسيولوجيا تولد في اللحظة نفسها التي تبعد عنها فكرة المجتمع وتبتعِد عنها، وتقتصر على دراسة العلاقات الاجتماعية.
الأحد 2023/09/10
ShareWhatsAppTwitterFacebook
العلاقات الاجتماعية بديل المجتمع
“لم نعد ننتمي إلى مجتمع، إلى طبقة اجتماعية، إلى أمة؛ ما دامت حياتنا تتحدد في جزء منها بالسوق العالمية، وفي جزء آخر تنغلق في عالم من الحياة الشخصية، والعلاقات المابين شخصية والتقاليد الثقافية”، و”ليست السوسيولوجيا دراسة للعقلنة ولنفعية المؤسسات الاجتماعية فحسب، بل يتمثل موضوعها الرئيسي في الصراع بين الذات الفاعلة والمنظومات، بين الحرية والسلطة”، آلان تورين (Alain Touraine).
لم تشتهر السوسيولوجيا بقدر اشتهارها بـ”علم الظواهر الاجتماعية”، “علم النظام الاجتماعي”، “علم الاجتماع”… بل بـ”علم المجتمع”. لاسيما في الأدبيات الكلاسيكية، القاموسية مِنها والأكاديمية، المدرسية منها والتخصصية.
إلى وقت ليس بعيد لم يكن ينظر إلى السوسيولوجيا إلا بوصفها علما بالمجتمع وإلى المجتمع، هو المنطلق وهو المنتهى، إلى درجة أضحت فيها السوسيولوجيا علما للعلوم الاجتماعية. لكن سرعان ما سيتبدد هذا التقليد خاصة مع السوسيولوجيات المعاصرة من ناحية ومع التحولات التي مست التشكيلات المجتمعية وأشكال الاجتماع البشري، غربيا وعربيا، من ناحية أخرى.
◙ لا يمكننا اليوم الحديث عن المجتمع ككلية مفقودة في ذاتها، سواء كموضوع للسوسيولوجيا أو كبراديغم للفهم السوسيولوجي. والحال أن المجتمع نفسه انفجر في العلاقات الاجتماعية
ليس من السهولة بمكان التعامل مع فكرة المجتمع في ذاتها، لأن أي تعامل مع هذه الفكرة هو تعامل مع موضوع السوسيولوجيا وهويتها الإبستمولوجية بصفة خاصة، ومع المجال الإبستمولوجي للعلوم الاجتماعية بصفة عامة. ومن هذا المنطلق وجب التمييز هنا بين المجتمع كمعطى واقعي مجتمعي كما هو في الواقع الملموس من جهة، والمجتمع بوصفه فكرة وعلما (وعلوما) وموضوعا، باعتباره بناء مفاهيميا ونموذجا ذهنيا، عِلميا كان أو فلسفيا، من جهة أخرى.
هنا يحق لنا أنْ نتساءل: هل فكرة المجتمع فكرة ضرورية فعلا؟ هل مازال بإمكاننا التعامل مع المجتمع كموضوع للسوسيولوجيا؟ أم أن الوقت قد حان لتفكيك فكرة المجتمع ذاتها وتفجيرها، مع إحلال فكرة العلاقات الاجتماعية محلها؟
في مقاله الموسوم بـ”هل فكرة المجتمع، فكرة ضرورية؟”، يجيب آلان تورين عن سؤاله هذا، الذي جعل منه وسما وعنوانا لمقاله هذا، بالنفي.
والحال أن السؤال نفسه يسائِل مفهوم المجتمع ذاته، فيما إذا كان ضروريا التعامل معه باعتباره منظومة، مؤسسة، مجالا عاما، وعقلا، وباعتباره رجلا (رجل سياسة ودولة)، في مقابل التعامل مع الفاعل (أو الفاعلين بالجمع) بوصفه امرأة (كعالِمة نفس)، مجالا خاصا، عاطفة جياشة، وبوصفه لانظاما. فلطالما أنتج المعنى الكلاسيكي لمفهوم المجتمع فصلا قطعيا بين المنظومة والفاعل، وهو فصل يشبِه إلى حد ما ذلك الفصل بين الحياة العامة والحياة الخاصة، أو بين الرجل والمرأة. فالسياسة هنا منسوبة إلى الرجل، في مقابل علم النفس الذي ينسب إلى المرأة.
◙ وجب التمييز هنا بين المجتمع كمعطى واقعي مجتمعي كما هو في الواقع الملموس من جهة، والمجتمع بوصفه فكرة وعلما (وعلوما) وموضوعا
إن الفاعل الاجتماعي بالنسبة إلى المجتمع المنظومة أو النسق ليس أكثر من امرأة بالمعنى التاريخي المجتمعي البطريركي، كجزء لا يتجزأ من الطبيعة، التي تحكمها الأحاسيس والعواطف والانفعالات، وتحركها الأهواء. إنه ليس أكثر من اللانظام الذي ينبغي أنْ يفرض عليه النظام، ويخضع لهذا النظام. إنه بمثابة المادة الخام التي ينظمها ويحتكمها القانون. ذلك القانون الذي تشكل المنظومة، بوصفها المجتمع عينه، روحا له. هذا هو المعنى الذي ظل سائدا عن فكرة المجتمع، ليس في الفكر الاجتماعي فحسب، بل في السوسيولوجيا الحديثة (والحداثية)، إنْ لم يكن في ممارستنا السوسيولوجية الحالية، أو في ممارسة سوسيولوجية بعينها، خاصة في عالمنا العربي.
ألم يحن الوقت بعد لإعادة النظر في هذا الفصل التراتبي الذي يقوم عليه المعنى الكلاسيكي لفكرة المجتمع، وإعادة النظر في الإعلاء من قيمة المنظومة على حساب تهميش الفاعلين؟
لقد حان الوقت بالنسبة إلى سوسيولوجيينا لإعادة النظر في هذا الفصل الذي يقوم عليه المعنى الكلاسيكي لفكرة المجتمع، وإعادة النظر في الإعلاء من قيمة المنظومة على حساب تهميش الفاعلين. إذ لم يعد ممكنا اليوم النظر إلى المجتمع كمنظومة خالصة. وذلك أن المجتمع حسب كاتبنا لم يعد مبدأ وحدة وتوحيد، بل هو نتيجة صراعاته المجتمعية ونتيجة التوجهات الثقافية الكبرى التي هو مجالها ومدارها. فهو ليس ماهية أبدا ولا ينبغي التعامل معه سوسيولوجيّا على هذا الأساس، إنه حدث.
ونتيجة لذلك “لا يمكن أنْ نفهم الفاعل المجتمعي من خلال المجتمع الذي ينتمي إليه، بل يجب الانطلاق من الفاعلين المجتمعيين ومن الصراعات القائمة التي تجعل بعضهم في مواجهة البعض الآخر والتي ينتج المجتمع نفسه من خلالها. وذلك حتى نفهم كيف تنشأ مقولات الممارسة”.
◙ ليس من السهولة بمكان التعامل مع فكرة المجتمع في ذاتها، لأن أي تعامل مع هذه الفكرة هو تعامل مع موضوع السوسيولوجيا وهويتها الإبستمولوجية بصفة خاصة
لعل تصور تورين للمجتمع في علاقته بالفاعلين الاجتماعيين، فكرة وموضوعا، ليس هامشا معزولا (أو جزيرة معزولة) عن متنه السوسيولوجي بصفة عامة، وإنما هو سيرورة معرفية لنفس الدرب السوسيولوجي الذي يرسم معالمه باستمرار في كل عمل ونص مِن أعماله وأبحاثه ودراساته وكتبه. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى الأسس الإبستمولوجية التي تقوم عليها سوسيولوجيته، التي يمكن تحديدها في التاريخوية (l’historicité)، منظورا إليها لا كما التاريخانية (النزعات التاريخية) المعهودة التي تشترط الوجود البشري والمجتمعي بشروط ومحددات تاريخية تطورية حتمية ولا كما تقدِمها فلسفات التاريخ والفكر الاجتماعي والسياسي عموما، وإنما منظورا إليها باعتبارها النماذج الثقافية التي ينتج بها مجتمع ما ذاته، وبوصفها إبداعا لتجربة تاريخية بعينها.
إن تاريخوية مفكرنا لا تحدد المجتمع إلا بقدرته على الفعل في ذاته، من خلال الصراع الاجتماعي المتجسد في العلاقات الاجتماعية: بين المنظومة والذات الفاعلة (Sujet). وذلك الإبداع -إبداع التجارب التاريخية- لا يكون إلا من خلال الفاعلين الاجتماعيين، أو من خلال العلاقة المتوترة بين المجتمع (كعقلنة) والذات الفاعلة (كتذويت): العلاقات الاجتماعية.
فمنذ كتاباته الأولى عن العمال والحركات الاجتماعية، مرورا بكتبه “من أجل السوسيولوجيا” و”عودة الفاعل” و”نقد الحداثة” و”براديغم جديد من أجل فهم عالم اليوم”… وصولا إلى “نهاية المجتمعات” و”القرن السياسي الجديد” و”دفاعا عن الحداثة” و”ماكرون من خلال تورين”، يعمل وينشط مفكرنا في نفس الدرب: سوسيولوجيا تاريخوية (وتاريخوية سوسيولوجية). مما يجعل من سوسيولوجيته سوسيولوجيا لاوضعانية؛ لاكونتية، ولادوركايمية. إنها سوسيولوجيا مغايرة، أو لنقل تورينية.
إنها سوسيولوجيا تأويلية محايثة للتحولات المجتمعية والثقافية التي مست الكيانات الغربية منها واللاغربية؛ محايثة، كفعالية، لما يسميه تورين بـ”المجتمعات المبرمجة”. سوسيولوجيا تقول بعودة الفاعل الاجتماعي، وإعادة الاعتبار للذات الفاعلة والتأويلات السوسيولوجية الثقافية (كما هو الشأن مع تأويلية ماكس فيبر)، في كل ممارسة (وتفكر) سوسيولوجية.
☚ ينشر المقال بالاتفاق مع "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية
إذن، لا يمكننا اليوم الحديث عن المجتمع ككلية مفقودة في ذاتها، سواء كموضوع للسوسيولوجيا أو كبراديغم للفهم السوسيولوجي. والحال أن المجتمع نفسه انفجر في العلاقات الاجتماعية. لهذا فلزاما على السوسيولوجيا اليوم أن تتخلى عن فكرة المجتمع هذه، التي هيمنت على الفكر الاجتماعي والسياسي من ناحية، وعلى السوسيولوجيات التوتاليتارية (أو الشمولية) من ناحية ثانية، لتحل محلها العلاقات الاجتماعية، ولا شيء غير العلاقات الاجتماعية. هي وحدها، قادرة على جعل الفاعلين والصراع القائم بينهم منطلقا لفهم مقولات الممارسة الاجتماعية، والمساهمة بشكل دائم في تحرير الفاعلين الاجتماعيين: الحركات الاجتماعية، التي صارت حركات ثقافية بالدرجة الأولى.
وفي هذا المِضمار كتب صاحب “عودة الفاعل” قائلا “علينا أنْ نناضل من أجل تحرير الفاعلين الاجتماعيين والعلاقات الاجتماعية، لكن مع العلم بأن هذا الموقف، الذي هو موقف مرغوب فيه ومحبب من الناحية السياسية أو الأخلاقية، ليس لازما إلا من حيث أنه يساعدنا على خلق مناهج البحث التي تلائم تصورنا الجديد للوقائع الاجتماعية”.
وهكذا، فإن السوسيولوجيا تولد في نفس اللحظة التي تبعد عنها فكرة المجتمع وتبتعِد عنها، وتقتصر على دراسة العلاقات الاجتماعية. إن المجتمع نفسه لم يعد شيئا آخر غير “مجال علاقات اجتماعية بين فاعلين اجتماعيين”. ومعنى ذلك أن المجتمع انفجر في العلاقات الاجتماعية. وعلى هذا النحو فإن السوسيولوجيا اليوم، هي “سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية”. إنها “علم العلاقات الاجتماعية”.