الأقلمة في الصين.. دراسات عبر ثقافية تتوسل اللغة الإنجليزية
الدراسات الصينية تحسب على النقد الأنجلوأميركي باعتمادها الإنجليزية، لكنها في المقابل تعمق الوعي النقدي بأهمية أقلمة الموروث الصيني.
الأحد 2023/09/10
فهم موروث الصين السردي
منذ مطلع القرن الحادي والعشرين ودراسات الأقلمة تشهد صعودا ملحوظا وبوتيرة نوعية في أغلب الجامعات الغربية، لا من ناحية التوجه نحو الدمج بين التخصصات فحسب، بل أيضا من ناحية الانفتاح بالبحث العلمي على جامعات آسيوية في الصين واليابان وماليزيا وهونغ كونغ وأتمتة العمل معها باعتماد اللغة الإنجليزية لغة موحدة للبحث العلمي.
ولا يفهم من هذا الانفتاح البحثي أن الغرب تصالح مع الشرق، فالعقدة الاستشراقية لا تزال قائمة بين شرق الأرض وغربها، وإنما هي الرغبة في مضاهاة الغرب الأقصى ممثلا بالولايات المتحدة للغرب الأدنى ممثلا بأوروبا عامة وروسيا وفرنسا خاصة. ومحصلة المضاهاة واحدة وهي فرض الغرب هيمنته على الشرق وبمختلف الوسائل.
هيمنة الأنجلوأميركية
تؤكد مؤشرات هذا الوضع التوسعي بالانفتاح والأتمتة، فاعلية اللغة الإنجليزية في أمركة العالم مستقبلا لتكون هي لغة البحث العلمي من ناحيتين: الأولى جعل اللغة الإنجليزية سمة جامعة بين المؤسسات البحثية الغربية ومثيلاتها في الشرق وخاصة الصين، التي لها إرث حضاري عريق وغني يفيد الواقع البحثي الحالي على مختلف الصعد. والثانية هي العمل بالمبدأ الفوكوي القائل بعلاقة السلطة بالمعرفة، فتكون الولايات المتحدة هي قطب الرحى الذي عنه تصدر العلوم وفيه تصنع النظريات وتتقولب المدارس والتوجهات.
◙ اليوم تشهد مساعي الصينيين في مجال دراسات الأقلمة خطوات نوعية واثقة وملحوظة تفتح آفاقا كبيرة لتطوير آليات البحث النقدي القائم على فكرة الجمع بين التخصصات وتجاوز الجغرافيات ودمج الجهود البحثية
وعلى الرغم من السياسات الثقافية المتبعة في صناعة هذا الوضع التوسعي فإنه يظل غير شامل لكل بلدان الشرق ولا يغطي كل القطاعات الحياتية، بل هو متمحور حول دول ذات حضارات عريقة كالصين واليابان ومرتكز على أكثر المجالات أهمية، ومنها مجالا الفن والأدب وفيهما قطع الباحثون الأنجلوأميركيون أشواطا مهمة في دراسة علوم السرد ما بعد الكلاسيكية التي استقطبت الكثير من الباحثين غير الغربيين إما بتوفير منح بحثية سخية أو بأتمتة الفرق وعمل الدورات وإنشاء المراكز والمخابر يشترك فيها أكاديميون من شرق آسيا والشرق الأوسط.
وقد حقق الباحثون الصينيون خلال العشرين سنة الماضية تقدما باهرا على مستويي النظرية والممارسة؛ أولا في علم السرد الصيني، وثانيا في دراسات الأقلمة الصينية التي لاقت ترحيبا واضحا من لدن باحثين كثيرين ساهموا في التعريف بها والاشتغال على مناهجها وموضوعاتها.
وعلى الرغم من أن لغة التأليف في دراسات الأقلمة الصينية هي إنجليزية، فإنها استطاعت إعادة قراءة التراث الأدبي الصيني ومعه القصص والروايات المعاصرة، هذا من جانب ومن جانب آخر أفادت هذه الدراسات من الانفتاح والأتمتة في عولمة الأدب الصيني أي جعله عالميا، تدليلا على ما في تراثه من أصالة وثراء وتوكيدا للهوية الوطنية وجذبا لأنظار الدارسين والباحثين نحو هذا الأدب بكل ما فيه من أنظمة وتمثيلات، تنفع في تحريك عجلة علوم السرد ما بعد الكلاسيكية وتدفع بها إلى الأمام.
واليوم تشهد مساعي الصينيين في مجال دراسات الأقلمة خطوات نوعية واثقة وملحوظة تفتح آفاقا كبيرة لتطوير آليات البحث النقدي القائم على فكرة الجمع بين التخصصات وتجاوز الجغرافيات ودمج الجهود البحثية، وهو أمر على جانب كبير من الأهمية كونه يخلخل مركزية النظرية السردية التي ما عادت محصورة بالغرب، بل هي مخصوصة بأكثر الآداب غنى وأكثرها عراقة.
وتتنوع دراسات الأقلمة الصينية من ناحيتي الرؤى المبتكرة وتعدد التخصصات عبر الثقافية كالتاريخ والجغرافيا والإعلام والسينما والسرد والشعر والمسرح والموسيقى. وهي إذ تحسب على النقد الأنجلوأميركي كونها تتخذ من علوم السرد ما بعد الكلاسيكية قاعدة لها وتعتمد اللغة الإنجليزية في تأليفها ونشرها، فإنها في المقابل تعمق الوعي النقدي بأهمية أقلمة الموروث الصيني القديم والحديث والمعاصر، وحقيقة موقعه بين آداب الأمم القديمة منها والحديثة.
ونظرا إلى سعة دراسات الأقلمة الصينية سنقتصر في رصد بعض إنجازاتها البحثية على السرد. والغالب على دراسات الأقلمة السردية أنها تجمع بين السرد والتاريخ من جهة والسرد والموسيقى والمسرح والسينما من جهة أخرى. ومن الاتجاهات التي تتخذها أقلمة السرد الصيني ما يأتي.
إنجازات بحثية
◙ الباحثون الصينيون حققوا خلال العشرين سنة الماضية تقدما باهرا على مستويي النظرية والممارسة
أول الإنجازات البحثية لدراسات الأقلمة الصينية دراسة الشخصية الخرافية أو الأسطورية أو الملحمية ومن خلال تتبع تطورها التاريخي والتحولات التي مرت بها وانتقالاتها عبر الحدود والتأثيرات التي تركتها في الآداب الأخرى قديما وحديثا. ومن ذلك مثلا شخصية الطير، إذ لا تكاد تخلو منها حكاية أو أسطورة صينية، ومن الدراسات التي تناولت هذه الشخصية دراسة جوليا باتشيني الموسومة بـ”التباين السردي وأقلمة الحوافز في الموروث القصصي القديم: المنظور في قصة الهدية – الطير في المصادر الصينية المبكرة والعصور الوسطى” (2014)، وفيها درست الباحثة تطور التناول الفني لهذه الشخصية تاريخيا من خلال الأقلمة بين النظرية السردية ودراسة الفلكلور لفهم كيف انتقلت وأثرت في الآداب الأخرى مع وصف العلاقات وطبيعة النظام وفحص التماثل في البنيات السردية لمجموعة من الحكايات والقصص التي عرفها الموروث الشعبي الصيني.
ومن الشخصيات التي لها أهمية تاريخية في أقلمة السرد الصيني شخصية القرد وحولها دار كتاب “تحولات القرد: أقلمة وتمثيل على الملحمة الصينية” (2018) لهوغ مي صن. وتقوم فكرة الكتاب على عرض التمثيلات المتنوعة لشخصية “Monkey King” الملحمية وتطورها عبر التاريخ وتأثيرات هذه التمثيلات على الفهم الصيني الذاتي للهوية الوطنية أولا وتطورها على مدار ألف عام داخل الإمبراطورية الصينية ثانيا، وثالثا كيف عبرت حدود الأدب الشعبي الصيني إلى شعوب العالم المختلفة في شكل روايات وأوبرا وأفلام ووسائط رقمية متعددة فكانت تارة متمردة وتارة أخرى محتالة.
ثاني الإنجازات فتح ورش بحثية وإقامة دورات دراسية تصب في باب أقلمة السرد الصيني، ومن ذلك الدورة المعنونة بـ”الحكايات الصينية الكلاسيكية والأقلمة الحديثة” سنة 2020، بإشراف البروفيسورة الصينية شاوهوا جو من جامعة كارلتون الأميركية، وهدفها تطوير قابلية الطلاب لفهم الأقلمة في نقد الأساطير والقصص الصينية الموظفة داخل وسائل الإعلام والاتصال الرقمية المختلفة.
وصممت شاوهوا جو لهذا الغرض منهجا دراسيا خاصا، يسلط الضوء على تنوع الحكايات الصينية بحسب سياقاتها التاريخية والثقافية وكيف أثرت كتابتها وإعادة كتابتها في الآداب المختلفة ودور الوسائط الرقمية المتعددة والمتباينة في إعادة سرد هذه الحكايات وما طبيعة التعديلات التي جرت عليها.
ثالثا نجد دراسة وظيفة السينما في أقلمة الأدب الصيني الحديث والمعاصر على مستويين: مستوى تحليل أبعاد توظيف القصص أو الروايات وبخاصة غير الواقعية داخل الأفلام، ومستوى اقتباس لقطات أو مشاهد من أفلام وتوظيفها في القصة القصيرة أو الرواية، والغاية معرفة ما يطرأ على كتابة السيناريوهات من تعديلات أو تباينات يوجبها الإخراج الفيلمي وتقنياته السينمائية كالمونتاج والتوليف أي الانتقال بين اللقطات والمؤثرات الصوتية والبصرية في تصوير الأبعاد الجسدية للشخصية وكيفية دمجها بالأساليب والتقنيات السردية كالمحاكاة الساخرة والترميز وتبئير الصوت ووجهة نظر السارد، من أجل معرفة مدى محافظة الإخراج الفيلمي على مكونات القصة أو الرواية، وهل يوسع التصوير السينمائي للغة جسد الشخصية وتعبيرات وجهها واستعمال اللقطات الخاصة والعكسية من جماهيرية القصة ويساعد في تعزيز المشاركة الوجدانية معها؟ أم أن صورة السارد ومزاجه ومقوماته الخيالية تضيع خلال عملية الدمج بين تقنيات السينما والعمل السردي؟
ويعد هذا الاتجاه الأكثر اهتماما من لدن الباحثين في أقلمة السرد الصيني، والهدف منه فهم التحويرات التي تضيفها الأفلام إلى الخيال السردي داخل القصص والروايات الصينية المنشورة خلال القرن العشرين من جانبين: جانب صانعي الأفلام، وجانب الكتاب الذين يكتبون سيناريوهات، ويدمجون فيها بين تقنيات السينما وتقنيات السرد.
◙ على الرغم من السياسات الثقافية المتبعة في صناعة هذا الوضع التوسعي فإنه يظل غير شامل لكل بلدان الشرق ولا يغطي كل القطاعات الحياتية، بل هو متمحور حول دول ذات حضارات عريقة كالصين واليابان
وسنختار للتمثيل على ما تقدم عينتين دراسيتين: الأولى بعنوان “الأدب الصيني وأقلمة الفيلم” (2016) لسيو شانغ وفيها أكد المؤلف أن للأدب الصيني تاريخا طويلا من الأقلمة، وساهمت الإصلاحات السياسية وظهور حركات أدبية وسينمائية جديدة خلال ثمانينات القرن الماضي في التحفيز على التبادل المبتكر بين الأدب والفنون الأخرى كالسينما والإعلام.
والدراسة الثانية هي “رحلة إلى الغرب: أقلمة عبر ميديوية للحكايات الصينية الخرافية” (2022) للباحث زياو هو، وتقوم فكرة الأقلمة على فيلم “رحلة إلى الغرب” وهو خيالي كوميدي، عرض عام 2013 وأنتجه ستيفن تشو وأخرجه تشاو وديريك كوك، وقصته مقتبسة من رواية صينية كلاسيكية مشهورة، وتنسب إلى الصيني وو تشنغ وتعود إلى القرن السادس عشر الميلادي في عهد أسرة مينغ وتحمل العنوان نفسه ولها شعبية في شرق آسيا.
ومما توصل إليه الباحث أن هذه الرواية مرت بتاريخ طويل من الأقلمة، لكن عرضها في شكل فيلم استدعى جملة تحويرات عبر الوسائط الرقمية للشبكة العنكبوتية، مما يلقي ضوءا نقديا على مسألة الأصول وعلاقة المصدر في قدمه بالأقلمة في حداثتها وقضية الملكية الفكرية للثقافة الصينية مما له علاقة بحقوق الطبع والنشر من ناحية نسخ المحتوى أو إرسال عبر البريد الإلكتروني إلى مواقع متعددة ومدى ضمان دقة النسخة المنشورة عن النسخة الأصلية… إلخ.
رابعا: نجد دراسة المسرح بحثا في الأصول التي فيها للصين عمق تاريخي وفني وكيف تأقلمت الأوبرا الصينية مع الأوبرا الأوروبية وأسباب هذا التأقلم الثقافية والسياسية، ومن ذلك الدراسة الموسومة بـ”أقلمة شكسبير في الأوبرا الصينية ” (2018) لتشو نينغ وفيها قدم صورة بانورامية للكيفية التي بها تطور المسرح الموسيقى الصيني من شكله التقليدي المسمى “Xiqu” ذي الأساليب والتمثيلات والتقنيات الصوتية الخاصة إلى شكل الأوبرا الصينية المعاصرة التي أفادت من تقنيات المسرح الشكسبيري وعرفت في أواخر القرن التاسع عشر كظاهرة ثقافية أثارت اهتمام فناني المسرح الصيني التقليدي وبخاصة الشباب.
نادية هناوي
الدراسات الصينية تحسب على النقد الأنجلوأميركي باعتمادها الإنجليزية، لكنها في المقابل تعمق الوعي النقدي بأهمية أقلمة الموروث الصيني.
الأحد 2023/09/10
فهم موروث الصين السردي
منذ مطلع القرن الحادي والعشرين ودراسات الأقلمة تشهد صعودا ملحوظا وبوتيرة نوعية في أغلب الجامعات الغربية، لا من ناحية التوجه نحو الدمج بين التخصصات فحسب، بل أيضا من ناحية الانفتاح بالبحث العلمي على جامعات آسيوية في الصين واليابان وماليزيا وهونغ كونغ وأتمتة العمل معها باعتماد اللغة الإنجليزية لغة موحدة للبحث العلمي.
ولا يفهم من هذا الانفتاح البحثي أن الغرب تصالح مع الشرق، فالعقدة الاستشراقية لا تزال قائمة بين شرق الأرض وغربها، وإنما هي الرغبة في مضاهاة الغرب الأقصى ممثلا بالولايات المتحدة للغرب الأدنى ممثلا بأوروبا عامة وروسيا وفرنسا خاصة. ومحصلة المضاهاة واحدة وهي فرض الغرب هيمنته على الشرق وبمختلف الوسائل.
هيمنة الأنجلوأميركية
تؤكد مؤشرات هذا الوضع التوسعي بالانفتاح والأتمتة، فاعلية اللغة الإنجليزية في أمركة العالم مستقبلا لتكون هي لغة البحث العلمي من ناحيتين: الأولى جعل اللغة الإنجليزية سمة جامعة بين المؤسسات البحثية الغربية ومثيلاتها في الشرق وخاصة الصين، التي لها إرث حضاري عريق وغني يفيد الواقع البحثي الحالي على مختلف الصعد. والثانية هي العمل بالمبدأ الفوكوي القائل بعلاقة السلطة بالمعرفة، فتكون الولايات المتحدة هي قطب الرحى الذي عنه تصدر العلوم وفيه تصنع النظريات وتتقولب المدارس والتوجهات.
◙ اليوم تشهد مساعي الصينيين في مجال دراسات الأقلمة خطوات نوعية واثقة وملحوظة تفتح آفاقا كبيرة لتطوير آليات البحث النقدي القائم على فكرة الجمع بين التخصصات وتجاوز الجغرافيات ودمج الجهود البحثية
وعلى الرغم من السياسات الثقافية المتبعة في صناعة هذا الوضع التوسعي فإنه يظل غير شامل لكل بلدان الشرق ولا يغطي كل القطاعات الحياتية، بل هو متمحور حول دول ذات حضارات عريقة كالصين واليابان ومرتكز على أكثر المجالات أهمية، ومنها مجالا الفن والأدب وفيهما قطع الباحثون الأنجلوأميركيون أشواطا مهمة في دراسة علوم السرد ما بعد الكلاسيكية التي استقطبت الكثير من الباحثين غير الغربيين إما بتوفير منح بحثية سخية أو بأتمتة الفرق وعمل الدورات وإنشاء المراكز والمخابر يشترك فيها أكاديميون من شرق آسيا والشرق الأوسط.
وقد حقق الباحثون الصينيون خلال العشرين سنة الماضية تقدما باهرا على مستويي النظرية والممارسة؛ أولا في علم السرد الصيني، وثانيا في دراسات الأقلمة الصينية التي لاقت ترحيبا واضحا من لدن باحثين كثيرين ساهموا في التعريف بها والاشتغال على مناهجها وموضوعاتها.
وعلى الرغم من أن لغة التأليف في دراسات الأقلمة الصينية هي إنجليزية، فإنها استطاعت إعادة قراءة التراث الأدبي الصيني ومعه القصص والروايات المعاصرة، هذا من جانب ومن جانب آخر أفادت هذه الدراسات من الانفتاح والأتمتة في عولمة الأدب الصيني أي جعله عالميا، تدليلا على ما في تراثه من أصالة وثراء وتوكيدا للهوية الوطنية وجذبا لأنظار الدارسين والباحثين نحو هذا الأدب بكل ما فيه من أنظمة وتمثيلات، تنفع في تحريك عجلة علوم السرد ما بعد الكلاسيكية وتدفع بها إلى الأمام.
واليوم تشهد مساعي الصينيين في مجال دراسات الأقلمة خطوات نوعية واثقة وملحوظة تفتح آفاقا كبيرة لتطوير آليات البحث النقدي القائم على فكرة الجمع بين التخصصات وتجاوز الجغرافيات ودمج الجهود البحثية، وهو أمر على جانب كبير من الأهمية كونه يخلخل مركزية النظرية السردية التي ما عادت محصورة بالغرب، بل هي مخصوصة بأكثر الآداب غنى وأكثرها عراقة.
وتتنوع دراسات الأقلمة الصينية من ناحيتي الرؤى المبتكرة وتعدد التخصصات عبر الثقافية كالتاريخ والجغرافيا والإعلام والسينما والسرد والشعر والمسرح والموسيقى. وهي إذ تحسب على النقد الأنجلوأميركي كونها تتخذ من علوم السرد ما بعد الكلاسيكية قاعدة لها وتعتمد اللغة الإنجليزية في تأليفها ونشرها، فإنها في المقابل تعمق الوعي النقدي بأهمية أقلمة الموروث الصيني القديم والحديث والمعاصر، وحقيقة موقعه بين آداب الأمم القديمة منها والحديثة.
ونظرا إلى سعة دراسات الأقلمة الصينية سنقتصر في رصد بعض إنجازاتها البحثية على السرد. والغالب على دراسات الأقلمة السردية أنها تجمع بين السرد والتاريخ من جهة والسرد والموسيقى والمسرح والسينما من جهة أخرى. ومن الاتجاهات التي تتخذها أقلمة السرد الصيني ما يأتي.
إنجازات بحثية
◙ الباحثون الصينيون حققوا خلال العشرين سنة الماضية تقدما باهرا على مستويي النظرية والممارسة
أول الإنجازات البحثية لدراسات الأقلمة الصينية دراسة الشخصية الخرافية أو الأسطورية أو الملحمية ومن خلال تتبع تطورها التاريخي والتحولات التي مرت بها وانتقالاتها عبر الحدود والتأثيرات التي تركتها في الآداب الأخرى قديما وحديثا. ومن ذلك مثلا شخصية الطير، إذ لا تكاد تخلو منها حكاية أو أسطورة صينية، ومن الدراسات التي تناولت هذه الشخصية دراسة جوليا باتشيني الموسومة بـ”التباين السردي وأقلمة الحوافز في الموروث القصصي القديم: المنظور في قصة الهدية – الطير في المصادر الصينية المبكرة والعصور الوسطى” (2014)، وفيها درست الباحثة تطور التناول الفني لهذه الشخصية تاريخيا من خلال الأقلمة بين النظرية السردية ودراسة الفلكلور لفهم كيف انتقلت وأثرت في الآداب الأخرى مع وصف العلاقات وطبيعة النظام وفحص التماثل في البنيات السردية لمجموعة من الحكايات والقصص التي عرفها الموروث الشعبي الصيني.
ومن الشخصيات التي لها أهمية تاريخية في أقلمة السرد الصيني شخصية القرد وحولها دار كتاب “تحولات القرد: أقلمة وتمثيل على الملحمة الصينية” (2018) لهوغ مي صن. وتقوم فكرة الكتاب على عرض التمثيلات المتنوعة لشخصية “Monkey King” الملحمية وتطورها عبر التاريخ وتأثيرات هذه التمثيلات على الفهم الصيني الذاتي للهوية الوطنية أولا وتطورها على مدار ألف عام داخل الإمبراطورية الصينية ثانيا، وثالثا كيف عبرت حدود الأدب الشعبي الصيني إلى شعوب العالم المختلفة في شكل روايات وأوبرا وأفلام ووسائط رقمية متعددة فكانت تارة متمردة وتارة أخرى محتالة.
ثاني الإنجازات فتح ورش بحثية وإقامة دورات دراسية تصب في باب أقلمة السرد الصيني، ومن ذلك الدورة المعنونة بـ”الحكايات الصينية الكلاسيكية والأقلمة الحديثة” سنة 2020، بإشراف البروفيسورة الصينية شاوهوا جو من جامعة كارلتون الأميركية، وهدفها تطوير قابلية الطلاب لفهم الأقلمة في نقد الأساطير والقصص الصينية الموظفة داخل وسائل الإعلام والاتصال الرقمية المختلفة.
وصممت شاوهوا جو لهذا الغرض منهجا دراسيا خاصا، يسلط الضوء على تنوع الحكايات الصينية بحسب سياقاتها التاريخية والثقافية وكيف أثرت كتابتها وإعادة كتابتها في الآداب المختلفة ودور الوسائط الرقمية المتعددة والمتباينة في إعادة سرد هذه الحكايات وما طبيعة التعديلات التي جرت عليها.
ثالثا نجد دراسة وظيفة السينما في أقلمة الأدب الصيني الحديث والمعاصر على مستويين: مستوى تحليل أبعاد توظيف القصص أو الروايات وبخاصة غير الواقعية داخل الأفلام، ومستوى اقتباس لقطات أو مشاهد من أفلام وتوظيفها في القصة القصيرة أو الرواية، والغاية معرفة ما يطرأ على كتابة السيناريوهات من تعديلات أو تباينات يوجبها الإخراج الفيلمي وتقنياته السينمائية كالمونتاج والتوليف أي الانتقال بين اللقطات والمؤثرات الصوتية والبصرية في تصوير الأبعاد الجسدية للشخصية وكيفية دمجها بالأساليب والتقنيات السردية كالمحاكاة الساخرة والترميز وتبئير الصوت ووجهة نظر السارد، من أجل معرفة مدى محافظة الإخراج الفيلمي على مكونات القصة أو الرواية، وهل يوسع التصوير السينمائي للغة جسد الشخصية وتعبيرات وجهها واستعمال اللقطات الخاصة والعكسية من جماهيرية القصة ويساعد في تعزيز المشاركة الوجدانية معها؟ أم أن صورة السارد ومزاجه ومقوماته الخيالية تضيع خلال عملية الدمج بين تقنيات السينما والعمل السردي؟
ويعد هذا الاتجاه الأكثر اهتماما من لدن الباحثين في أقلمة السرد الصيني، والهدف منه فهم التحويرات التي تضيفها الأفلام إلى الخيال السردي داخل القصص والروايات الصينية المنشورة خلال القرن العشرين من جانبين: جانب صانعي الأفلام، وجانب الكتاب الذين يكتبون سيناريوهات، ويدمجون فيها بين تقنيات السينما وتقنيات السرد.
◙ على الرغم من السياسات الثقافية المتبعة في صناعة هذا الوضع التوسعي فإنه يظل غير شامل لكل بلدان الشرق ولا يغطي كل القطاعات الحياتية، بل هو متمحور حول دول ذات حضارات عريقة كالصين واليابان
وسنختار للتمثيل على ما تقدم عينتين دراسيتين: الأولى بعنوان “الأدب الصيني وأقلمة الفيلم” (2016) لسيو شانغ وفيها أكد المؤلف أن للأدب الصيني تاريخا طويلا من الأقلمة، وساهمت الإصلاحات السياسية وظهور حركات أدبية وسينمائية جديدة خلال ثمانينات القرن الماضي في التحفيز على التبادل المبتكر بين الأدب والفنون الأخرى كالسينما والإعلام.
والدراسة الثانية هي “رحلة إلى الغرب: أقلمة عبر ميديوية للحكايات الصينية الخرافية” (2022) للباحث زياو هو، وتقوم فكرة الأقلمة على فيلم “رحلة إلى الغرب” وهو خيالي كوميدي، عرض عام 2013 وأنتجه ستيفن تشو وأخرجه تشاو وديريك كوك، وقصته مقتبسة من رواية صينية كلاسيكية مشهورة، وتنسب إلى الصيني وو تشنغ وتعود إلى القرن السادس عشر الميلادي في عهد أسرة مينغ وتحمل العنوان نفسه ولها شعبية في شرق آسيا.
ومما توصل إليه الباحث أن هذه الرواية مرت بتاريخ طويل من الأقلمة، لكن عرضها في شكل فيلم استدعى جملة تحويرات عبر الوسائط الرقمية للشبكة العنكبوتية، مما يلقي ضوءا نقديا على مسألة الأصول وعلاقة المصدر في قدمه بالأقلمة في حداثتها وقضية الملكية الفكرية للثقافة الصينية مما له علاقة بحقوق الطبع والنشر من ناحية نسخ المحتوى أو إرسال عبر البريد الإلكتروني إلى مواقع متعددة ومدى ضمان دقة النسخة المنشورة عن النسخة الأصلية… إلخ.
رابعا: نجد دراسة المسرح بحثا في الأصول التي فيها للصين عمق تاريخي وفني وكيف تأقلمت الأوبرا الصينية مع الأوبرا الأوروبية وأسباب هذا التأقلم الثقافية والسياسية، ومن ذلك الدراسة الموسومة بـ”أقلمة شكسبير في الأوبرا الصينية ” (2018) لتشو نينغ وفيها قدم صورة بانورامية للكيفية التي بها تطور المسرح الموسيقى الصيني من شكله التقليدي المسمى “Xiqu” ذي الأساليب والتمثيلات والتقنيات الصوتية الخاصة إلى شكل الأوبرا الصينية المعاصرة التي أفادت من تقنيات المسرح الشكسبيري وعرفت في أواخر القرن التاسع عشر كظاهرة ثقافية أثارت اهتمام فناني المسرح الصيني التقليدي وبخاصة الشباب.
نادية هناوي