كريم العراقي شاعر الأغنية العابرة للأوطان
الرقة التي صنعت لغة ثالثة.
الثلاثاء 2023/09/05
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أبوظبي رحبت بالشاعر وكانت آخر محطاته
يموت الشاعر وتبقى الأغنية. ولكن أي شاعر وأية أغنية؟ حين يكون الشاعر مصدرا لانبعاث ظاهرة غنائية فإن أغنيته ستخلق مزاج عصرها الإنساني.
كان كريم العراقي الذي خطفه الموت قبل أيام قليلة قد صنع ظاهرته التي لا تشبه أية ظاهرة شعرية أخرى. لم يكن شاعرا عاميا بالمعنى الضيق للكلمة بل كان أكثر من ذلك.
منذ البدء لم يكن راغبا في أن ينضم إلى حشود الشعراء الذين اصطفوا وراء مظفر النواب. لقد شق طريقه وسط صخب الأصوات لتمضي كلماته إلى قلوب الملايين بصفاء.
صانع الوجدان العراقي
كل أغنية كتبها العراقي صنعت جزءا من شهرة مطربيها. تلك أغنية لا تُنسى. كم من الأغاني التي كتبها حظيت بحب مستمعيها؟ ما من أغنية كتبها تشبه أخرى. في كل ما كتب كان جديدا بالرغم من غزارته.
سيكون علينا أن نتحدث عن مئات الأغاني وعشرات المطربين الذين تسابقوا من أجل أن تكون لهم حصة في ما يكتب.
كانت طريقه سالكة إلى مقدمة المشهد فوقف في وقت مبكر من مسيرته الشعرية إلى جانب كبار الشعراء الذين صنعوا الوجدان العراقي مثل سيف الدين ولائي وزامل سعيد فتاح وكاظم الركابي. ولكنه كان مختلفا عن الجميع بلغته التي حرص أن تكون لغة ثالثة، لا هي فصحى ولا هي عامية. كانت البساطة المتخمة بترف العاطفة سره.
لمع نجمه عربيا فكتب لأشهر مطربات ومطربي الموجة الجديدة. لم يكتب قصائده رفيعة المستوى بعامية بلد بعينه. أعانته لغته الخاصة على أن يكون مفهوما في مختلف أنحاء العالم العربي.
أحبه الأطفال منذ أن كتب لهم أغنيته الأولى “يا شميسه”، وأحبه الكبار من خلال صوت كاظم الساهر في ما يقارب مئة أغنية كتبها منذ بدايات الساهر إلى أن تألق نجمه.
كان رفيق مسيرته الذي أضفى عليه طابعا متجددا.
سيتمكن كريم العراقي من ضبط خجله وتواضعه وهو يرى عواطف جمهوره وهي تمشي في جنازته. كل هذا الصدق الذي تجسد في رثائه عبر وسائل التواصل الاجتماعي هو انعكاس لصدقه الإنساني والجمالي وقد يُدهش حين يكتشف أن الأطفال الذين كبروا لا يزالون يرددون “جنة جنة جنة والله يا وطنه/ يا وطن يا حبيب/ يا بو قلب الطيب/ حتى نارك جنة”.
يوم كانت الثورة السورية سلمية عام 2011 رقص آلاف السوريين والسوريات في الساحات وهم يرددون تلك الأغنية التي كتبها العراقي من غير أن يتخيل أحد أنها ستكون شعارا ثوريا متمردا.
لغته على ألسن عديدة
ما من أغنية كتبها تشبه أخرى
ولد كريم عودة، الذي اختار أن يكون لقبه “العراقي” مع أول قصيدة نشرها وهو لا يزال في المدرسة الثانوية، عام 1955 في منطقة الشاكرية “كرادة مريم” ببغداد.
حصل على دبلوم علم النفس وموسيقى الطفل من معهد المعلمين. عمل معلما ثم مشرفا متخصصا في كتابة الأوبريت المدرسي.
عمل محررا في مجلة “فنون” وفي الوقت نفسه كان يكتب أغاني ومسرحيات للأطفال. صحيح أن تلك الأغاني أكسبته شهرة لم يتوقعها غير أنه كان يبحث عن المركب التي ستقل كلماته إلى الجمهور وتحافظ على قوة عاطفتها.
بدأ مع صلاح عبدالغفور في أغنية “تهانينا يا أيام” وسيتا هاكوبيان في “دار الزمان ودارة” وفؤاد سالم في “عمي يبو مركب” ورياض أحمد في “عرفت روحي أنا” ليقف عام 1981 مع حسين نعمة في شريط “تحياتي”. شكل ذلك الشريط نقلة في أسلوب نعمة الذي كان حزينا في كل مراحله السابقة.
كان كريم العراقي يثق بما يفعل غير أنه لم يكن متفائلا بردود الأفعال وهو يعرف ميل العراقيين إلى الحزن والنكد. لذلك حين أهداني الشريط قال لي “أرجوك. اسمعه بعاطفة مختلفة”. لم أكن في حاجة إلى تلك العاطفة المختلفة لأتأكد من أن ما أسمعه كان طرازا لم يألفه حسين نعمة نفسه غير أنه استطاع أن يؤديه بكفاءة صوته. لقد سالت لغة مختلفة على لسانه غير أنه عرف كيف يكسبها ليونة محببة. حين عبرت عن سعادتي بمنجزه وكنا جنديين صار يحدق بي كما لو أنه غير مصدق واحتضنني.
بعد ذلك بدأت رحلة العراقي مع كاظم الساهر حيث يقول “أنجز الساهر لي بصوته وألحانه عبر أكثر من ثلاثين سنة أكثر من 100 أغنية حتى صار الساهر هو صوت قصائدي”.
المنفي في المدن
“أشياء كثيرة تلهمني وليست محصورة في شيء واحد. أنا ابن الحدث فأينما أكون أستثمر المكان الذي أتواجد فيه وأخلق منه قصيدة. لا أخطط لكتابة نص أو أغنية. أنا أصنع من الحدث الذي يمر أمامي قصيدة. أنا صادق وأمين مع ما أعانيه. فلو راجعنا القصائد التي كتبتها مثل ‘المحكمة’ والتي تحولت إلى أغنية على لساني كاظم الساهر وأسماء لمنور تجدها قصة حقيقية منقولة من واقعي ومحيطي الذي أعيش فيه”.
من بغداد إلى تونس وبعدهما مالمو في السويد وأخيرا أبوظبي. تلك هي المدن التي عاش فيها واستلهم حكاياته معها غير أن المدن التي مر بها كانت كثيرة. وهو ما جعله يوزع قصائده على ألسنة كثيرة من مختلف أنحاء العالم العربي، ديانا حداد، فضل شاكر، عمر العبدلات، سميرة سعيد، محمد منير، أصالة نصري، صابر الرباعي وآخرون.
صداقة أبدية
لكن مسيرته مع العراقي كاظم الساهر كانت شأنا مختلفا. لقد حقق الساهر ما لم يحققه مطرب عراقي قبله، كما أن العراقي اخترق عبر لغته حدود المتداول. صارت اللهجة العراقية مألوفة بالنسبة إلى الكثيرين وهم يرددون “وين آخذك وين انهزم بيك/ بضلوعي لو بعيوني أخليك/ جابتك واتبسمت أمك/ وأنا على راسي شلت همك/ هي اللي عليها سمت اسمك/ وآنا العلي ابتلي بيك”.
في “ها حبيبي” وصل تعاونهما إلى قمته. لقد سمحت كلمات تلك الأغنية للساهر أن يؤدي أكثر مما يطرب. فهي حوارية نجح كاظم الساهر في الوصول إلى أعمق ما أراد الشاعر العراقي أن يصل إليه من مشاعر مكتظة بالندم.
شعر فصيح للبسطاء
إقرأ أيضا
كريم العراقي شاعر الذاكرة الفنية العراقية والعربية يرحل في أبوظبي
كتب كريم العراقي الشعر باللغة العربية الفصحى في مختلف مراحل حياته. اشتهرت أغنيته “الشمس شمسي والعراق عراقي” التي كتبها في وقت مبكر من مسيرته الشعرية. غير أنه كان يصر في اللقاءات التلفزيونية والندوات على قراءة ما يكتبه من شعر فصيح. وهو شعر لا يصل إلى مستوى ما كان يكتبه من شعر بلغته الخاصة التي تقف بين العامي والفصيح وكل قصيدة كتبها بتلك اللغة كانت مشروع أغنية.
أحب الناس البسطاء ذلك الشعر وكانوا يصرون على المطالبة بسماعه حين يلتقون العراقي.
حظي كريم العراقي بحب الناس البسطاء وكانت لحظة لقائه بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي أنقذه من الإعدام لا تفارق حياته. لقد وهبه سنوات ليعيش ويكتب ويكون الشخص الذي حلم بأن يكونه.
الرقة التي صنعت لغة ثالثة.
الثلاثاء 2023/09/05
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أبوظبي رحبت بالشاعر وكانت آخر محطاته
يموت الشاعر وتبقى الأغنية. ولكن أي شاعر وأية أغنية؟ حين يكون الشاعر مصدرا لانبعاث ظاهرة غنائية فإن أغنيته ستخلق مزاج عصرها الإنساني.
كان كريم العراقي الذي خطفه الموت قبل أيام قليلة قد صنع ظاهرته التي لا تشبه أية ظاهرة شعرية أخرى. لم يكن شاعرا عاميا بالمعنى الضيق للكلمة بل كان أكثر من ذلك.
منذ البدء لم يكن راغبا في أن ينضم إلى حشود الشعراء الذين اصطفوا وراء مظفر النواب. لقد شق طريقه وسط صخب الأصوات لتمضي كلماته إلى قلوب الملايين بصفاء.
صانع الوجدان العراقي
كل أغنية كتبها العراقي صنعت جزءا من شهرة مطربيها. تلك أغنية لا تُنسى. كم من الأغاني التي كتبها حظيت بحب مستمعيها؟ ما من أغنية كتبها تشبه أخرى. في كل ما كتب كان جديدا بالرغم من غزارته.
سيكون علينا أن نتحدث عن مئات الأغاني وعشرات المطربين الذين تسابقوا من أجل أن تكون لهم حصة في ما يكتب.
كانت طريقه سالكة إلى مقدمة المشهد فوقف في وقت مبكر من مسيرته الشعرية إلى جانب كبار الشعراء الذين صنعوا الوجدان العراقي مثل سيف الدين ولائي وزامل سعيد فتاح وكاظم الركابي. ولكنه كان مختلفا عن الجميع بلغته التي حرص أن تكون لغة ثالثة، لا هي فصحى ولا هي عامية. كانت البساطة المتخمة بترف العاطفة سره.
لمع نجمه عربيا فكتب لأشهر مطربات ومطربي الموجة الجديدة. لم يكتب قصائده رفيعة المستوى بعامية بلد بعينه. أعانته لغته الخاصة على أن يكون مفهوما في مختلف أنحاء العالم العربي.
أحبه الأطفال منذ أن كتب لهم أغنيته الأولى “يا شميسه”، وأحبه الكبار من خلال صوت كاظم الساهر في ما يقارب مئة أغنية كتبها منذ بدايات الساهر إلى أن تألق نجمه.
كان رفيق مسيرته الذي أضفى عليه طابعا متجددا.
سيتمكن كريم العراقي من ضبط خجله وتواضعه وهو يرى عواطف جمهوره وهي تمشي في جنازته. كل هذا الصدق الذي تجسد في رثائه عبر وسائل التواصل الاجتماعي هو انعكاس لصدقه الإنساني والجمالي وقد يُدهش حين يكتشف أن الأطفال الذين كبروا لا يزالون يرددون “جنة جنة جنة والله يا وطنه/ يا وطن يا حبيب/ يا بو قلب الطيب/ حتى نارك جنة”.
يوم كانت الثورة السورية سلمية عام 2011 رقص آلاف السوريين والسوريات في الساحات وهم يرددون تلك الأغنية التي كتبها العراقي من غير أن يتخيل أحد أنها ستكون شعارا ثوريا متمردا.
لغته على ألسن عديدة
ما من أغنية كتبها تشبه أخرى
ولد كريم عودة، الذي اختار أن يكون لقبه “العراقي” مع أول قصيدة نشرها وهو لا يزال في المدرسة الثانوية، عام 1955 في منطقة الشاكرية “كرادة مريم” ببغداد.
حصل على دبلوم علم النفس وموسيقى الطفل من معهد المعلمين. عمل معلما ثم مشرفا متخصصا في كتابة الأوبريت المدرسي.
عمل محررا في مجلة “فنون” وفي الوقت نفسه كان يكتب أغاني ومسرحيات للأطفال. صحيح أن تلك الأغاني أكسبته شهرة لم يتوقعها غير أنه كان يبحث عن المركب التي ستقل كلماته إلى الجمهور وتحافظ على قوة عاطفتها.
بدأ مع صلاح عبدالغفور في أغنية “تهانينا يا أيام” وسيتا هاكوبيان في “دار الزمان ودارة” وفؤاد سالم في “عمي يبو مركب” ورياض أحمد في “عرفت روحي أنا” ليقف عام 1981 مع حسين نعمة في شريط “تحياتي”. شكل ذلك الشريط نقلة في أسلوب نعمة الذي كان حزينا في كل مراحله السابقة.
كان كريم العراقي يثق بما يفعل غير أنه لم يكن متفائلا بردود الأفعال وهو يعرف ميل العراقيين إلى الحزن والنكد. لذلك حين أهداني الشريط قال لي “أرجوك. اسمعه بعاطفة مختلفة”. لم أكن في حاجة إلى تلك العاطفة المختلفة لأتأكد من أن ما أسمعه كان طرازا لم يألفه حسين نعمة نفسه غير أنه استطاع أن يؤديه بكفاءة صوته. لقد سالت لغة مختلفة على لسانه غير أنه عرف كيف يكسبها ليونة محببة. حين عبرت عن سعادتي بمنجزه وكنا جنديين صار يحدق بي كما لو أنه غير مصدق واحتضنني.
بعد ذلك بدأت رحلة العراقي مع كاظم الساهر حيث يقول “أنجز الساهر لي بصوته وألحانه عبر أكثر من ثلاثين سنة أكثر من 100 أغنية حتى صار الساهر هو صوت قصائدي”.
المنفي في المدن
“أشياء كثيرة تلهمني وليست محصورة في شيء واحد. أنا ابن الحدث فأينما أكون أستثمر المكان الذي أتواجد فيه وأخلق منه قصيدة. لا أخطط لكتابة نص أو أغنية. أنا أصنع من الحدث الذي يمر أمامي قصيدة. أنا صادق وأمين مع ما أعانيه. فلو راجعنا القصائد التي كتبتها مثل ‘المحكمة’ والتي تحولت إلى أغنية على لساني كاظم الساهر وأسماء لمنور تجدها قصة حقيقية منقولة من واقعي ومحيطي الذي أعيش فيه”.
من بغداد إلى تونس وبعدهما مالمو في السويد وأخيرا أبوظبي. تلك هي المدن التي عاش فيها واستلهم حكاياته معها غير أن المدن التي مر بها كانت كثيرة. وهو ما جعله يوزع قصائده على ألسنة كثيرة من مختلف أنحاء العالم العربي، ديانا حداد، فضل شاكر، عمر العبدلات، سميرة سعيد، محمد منير، أصالة نصري، صابر الرباعي وآخرون.
صداقة أبدية
لكن مسيرته مع العراقي كاظم الساهر كانت شأنا مختلفا. لقد حقق الساهر ما لم يحققه مطرب عراقي قبله، كما أن العراقي اخترق عبر لغته حدود المتداول. صارت اللهجة العراقية مألوفة بالنسبة إلى الكثيرين وهم يرددون “وين آخذك وين انهزم بيك/ بضلوعي لو بعيوني أخليك/ جابتك واتبسمت أمك/ وأنا على راسي شلت همك/ هي اللي عليها سمت اسمك/ وآنا العلي ابتلي بيك”.
في “ها حبيبي” وصل تعاونهما إلى قمته. لقد سمحت كلمات تلك الأغنية للساهر أن يؤدي أكثر مما يطرب. فهي حوارية نجح كاظم الساهر في الوصول إلى أعمق ما أراد الشاعر العراقي أن يصل إليه من مشاعر مكتظة بالندم.
شعر فصيح للبسطاء
إقرأ أيضا
كريم العراقي شاعر الذاكرة الفنية العراقية والعربية يرحل في أبوظبي
كتب كريم العراقي الشعر باللغة العربية الفصحى في مختلف مراحل حياته. اشتهرت أغنيته “الشمس شمسي والعراق عراقي” التي كتبها في وقت مبكر من مسيرته الشعرية. غير أنه كان يصر في اللقاءات التلفزيونية والندوات على قراءة ما يكتبه من شعر فصيح. وهو شعر لا يصل إلى مستوى ما كان يكتبه من شعر بلغته الخاصة التي تقف بين العامي والفصيح وكل قصيدة كتبها بتلك اللغة كانت مشروع أغنية.
أحب الناس البسطاء ذلك الشعر وكانوا يصرون على المطالبة بسماعه حين يلتقون العراقي.
حظي كريم العراقي بحب الناس البسطاء وكانت لحظة لقائه بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي أنقذه من الإعدام لا تفارق حياته. لقد وهبه سنوات ليعيش ويكتب ويكون الشخص الذي حلم بأن يكونه.