عن الفنان محمود صبري.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  •  عن الفنان محمود صبري.

    عن الفنان محمود صبري.
    .

    على الرغم من عدم ميلي إلى نشر نصوص طويلة في صفحتي بالفيسبوك، إلا أنني وبسبب رغبة من بعض الأصدقاء، انشر الأجزاء المتبقية من نص مقالي عن الفنان محمود صبري مع مجموعة من الصور التي كانت مرفقة معه.
    مع ضرورة مراجعة النص المنشور السابق لمن لم يقرأه فهو الجزء الاول من نص المقال، تحياتي
    .

    أكثر من مفهوم للواقعية
    محمود صبري من التشخيصية التعبيرية الى واقعية الكم
    .

    سؤال التيت غاليري
    .

    "هل يمكن للفن أن يغير المجتمع؟ هل يمكن للفن أن يغير العالم حقاً؟ هل يمكن للفن أن يؤثر على طريقة تفكيرنا وتصرفاتنا كأفراد وكمجتمع؟ كيف يحقق الفنانون التغيير في العالم اليوم؟"

    كانت هذه أسئلة وجهها متحف التيت غاليري في لندن الى الجمهور والفنانين، وهي بالتأكيد، من النوع البالغ الاهمية. وذلك بسبب مساسها بصلب الدور الذي يراد للفن أن يلعبه. فقد حاول الفنانون - وهم جزء مهم من الشريحة المثقفة في المجتمع - العمل على تغيير الوضع البشري نحو الأفضل من خلال اتجاهات مبتدعة عديدة تبنى اغلبها موقف نبذ الطابع غير العادل لحركة التاريخ فيما يخص علاقات الإنتاج وما تتضمنه من طرفي صراع هما: القوة المنتجة إزاء أصحاب وسائل الإنتاج. وما يتمخض من ذلك في صورة استغلال واضطهاد وحروب ونزاعات تؤثر تداعياتها على وعي الإنسان ووجدانه وطريقة تعامله مع العالم، وتشكل للتاريخ طبيعة حركته.
    وصف التيت غاليري الاتجاهات الطليعية في تاريخ الفن ب"الحركات التغييرية للمجتمع" وراح يستعرض الرؤى التي إجترحتها حركة الدادا وحركة فلوكسوس Fluxus واحداث باريس الثورية عام ١٩٦٨، وهذه الاخيرة بدأت بسلسلة من إضرابات طلابية ضد الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية والإمبريالية الأمريكية والمؤسسات الداعمة لها. وقد كان هدف تلك الإضرابات هو نبذ واقع الحال القائم لمعالجة الجوانب السيئة في البنية الاجتماعية والسياسية.
    .

    محاورات عن الفن والواقعية وافقهما التغييري
    .

    لم أشأ أن أجرب الاجابة على اسئلة التيت غاليري لوحدي، بل وجهتها الى الاستاذ الناقد سهيل سامي نادر والى الفنان العراقي يحيى الشيخ وأجريت معهما حوارات جاءت كما يلي:

    ما هي قدرات الفن على التغيير الاجتماعي والتاريخي ؟

    سهيل: الدور التغييري للفن قضية معقدة وتحتاج إلى نقاش واسع وضرب أمثلة. أنت تسألني عن (قدرات) الفن، وسؤالك يضمر بعض الشكوك. لعلّ علينا إعادة طرح المسألة. أتساءل أولا: هل يصوغ الفن هدفاً اجتماعياً صريحاً يقع خارج نسقه التعبيري؟ هل الفن يدعو للتغيير مثل أي حزب سياسي أو جماعة ضغط؟ هل يمتلك برنامجاً مضمراً أو صريحاً للتغيير في البيئة الاجتماعية والسياسية؟ لا أعتقد بوجود مثل هذا البرنامج؟ لكن إن وجد عند فنانين او جماعات فنية أو حركات فنية، في ظروف معينة، كظروف تحول اجتماعي أو حصول حدث علمي، فإنه بالمقابل لا يقدم براهينه إلا من خلال صياغات فنية – ثقافية، بما يجعله يندرج في تاريخ فني وثقافي من حيث التعريف. والتجربة العالمية تشير الى أن النتائج الفنية والثقافية لمثل هذه البرنامج، وتلك غير الخاضعة لأي برنامج، سرعان ما تخضع لجدل فني وثقافي، فتتغير أو تأوّل أو تغادر الميدان الفني. والحال يجري هذا تلقائياً في وسط فني ثقافي تمارس فيه أعمال التقييم والتعرف. قد توجد قوة اجتماعية ضاغطة في هذه الوضعية، لكن في حالات محددة معروفة. إن في تاريخ الفن أمثلة على هذا. إزاء ذلك أرى أن علينا أن نصف العلاقة ما بين الفن والمجتمع في سياق ثقافي وفني وليس في سياق أي هدف منظور أو غير منظور ذي وظيفة خاصة بالتغيير أو التطوير.
    والآن يمكن أن أذكر لك الحالة التي يخضع فيها الفن إلى توجيه سياسي واجتماعي بحجة دوره في ميدان التغيير الاجتماعي والثقافي، كما في الواقعية الاشتراكية. فهذا الاتجاه قدم توصيفات وملاحظات مهمة عن العلاقة ما بين الفن والمجتمع، إلا أنه صاغ برنامجا أيديولوجيا حوّل فيها الفن إلى خادم إيديولوجي ذليل. في بلدان تسود فيها الأنظمة الدكتاتورية والشمولية تتسق مطالب الحرية الفنية والثقافية مع نضال الناس من أجل حقوقهم الديمقراطية.
    لنقرر أن الفن نفسه يخضع للتغيير مثله مثل أي صنيع إنساني، بالقدر نفسه هو يسهم، بوسائله الخاصة، في تقديم اقتراحات جديدة في الرؤى والأفكار والذائقة، كما أنه يقدم تحفيزات جمالية وأسلوبية لخطوط إنتاجية في مختلف النواحي الثقافية والتعليمية في المجتمع. إنني لا أقلل من قيمة الفن ههنا بل أوضح ما يمكن أن يقدمه للحياة، من دون مبالغات، ولا تحويل الفن الى أداة أو برنامج، مفضلاً طرح هذه القضية في سياقات محددة.
    لندع الأفكار العامة الى تجارب ملموسة، فردية، تظهر فيها تغييرات غير متوقعة، بل وتعاكس بعض التوقعات المدعومة بقيم اجتماعية وثقافية سائدة.
    ثمة مثالان: محمود صبري وشاكر حسن آل سعيد. الاثنان فنانان تعبيريان تشخيصيان ابديا تضامنهما مع فقراء الريف والفلاحين، وكان من المتوقع أنهما سيواصلان هذا الخط. الأول يساري، انتظم بالحزب الشيوعي العراقي، وهاجر الى تشيكوسلوفاكيا لأسباب سياسية، وشاكر حسن كان متعاطفا مع فقراء بلاده. كما أنه من مؤسسي جماعة بغداد للفن الحديث التقدمية التي صاغت برنامج تأسيس فن عراقي يجمع ما بين الحداثة والتعابير المحلية. فجأة، في منتصف الستينات، وهما متباعدان، كما لو خضعا الى صدمة ثقافية، تحولا من التعبيرية ذات المضمون الاجتماعي الى تجربتين جديدتين بدتا للوهلة الأولى تجريديتين، تتقدمهما شروحات نظرية في إطار نقدي مع دعوة إلى فن جديد . ما الذي حدث؟ هل حدثت تغييرات في نظرتهما إلى العالم، أم كان العالم قد تغير وأظهرا استجابة اقتربت من اهتماماتهما؟ هل تغيرا في إطار أسلوبي استدعى تغييرات فكرية أم توصلا الى تجربة كاملة؟
    لقد وصفت التجربتين في مكان آخر، وأعود اليها هنا لتقديم مثال على تغير لم تتوقعه البيئة الثقافية المحلية، وهو مثال قريب من تجاربنا الحسية والثقافية المعروفة. المثير هنا أن محمود وشاكر تحدثا عن عمليات داخلية في الأشياء والمواد لا ترى في العين المجردة. الاثنان قدما صياغة كوسمولوجية بنتائج فنية مختلفة جدا. بالنسبة لمحمود صبري لجأ الى مختبر الميكروفيزياء، وقدم بيانا مدهشا بشأن واقعية الكم نجد مراجعه النظرية مشروحة عند علماء الفيزياء الكوانتا. الحقيقة لا أعرف كيف استقبلت هذه التجربة في تشيكوسلوفاكيا، واوربا، ولا أمتلك أي نص تناولها بالنقد والتحليل. في بيانه نجد تسويغا لتجربته تستند إلى ملاحظة ماركسية تقول إن أي نظرية يجب أن تفتح نفسها للتغيير عند أي تحول علمي، ويمكن تعميم هذا المبدأ على جميع فروع إنتاج الثقافة والفكر والفن. يرى محمود أن تجربته تستجيب لهذه الفكرة الثورية.
    ما اعرفه أن قوة هذه التجربة تكمن أولاً وأخيرا بما يوفره البيان العلمي الذي يقدمها ويشرحها، إلا أن نتيجتها الفنية والبصرية، وإن أظهرت ما لا نراه عادة، بما يقوي فضولنا، بدت غريبة، ذات طابع تنسيقي بلا لون ذاتي وعاطفي. إنها ابتكار معزول تحدد أفقه التجربة نفسها حتى أن دليله النظري لا يقودنا اليه على نحو مباشر. وفي الوقت الذي نجد فيه أن تطبيقات المايكروفيزياء شملت كافة أوجه الحياة وغيرت من حياة البشر تغييراً كبيراً، لم تصبح تجربة واقعية الكم تياراً فنياً، وظلت تجربة ذاتية لرجل ذكي.
    مختبر شاكر حسن هو الروح، ليست اللاشكلية التي دعا اليها من ابتكاراته، بل هي تيار اوربي انتقد الفن التشخيصي منذ عصر النهضة ودعا الى فن لا تشخيصي يمثل العمليات الداخلية للأشياء. البيان التأملي كان نسخة شبه اسلامية من دعوات اللاشكليين الاوربيين، وفيما بعد طور شاكر محايثته الفنية والنظرية، وأصدر بيانه الثاني باسم الواقع الذي كان قد تحول على يديه الى علامات واشارات، تراكم وتعرية، الحروفية والبعد الواحد .. الخ .
    ما الذي نفهمه من هذا التغير المفاجئ، ثم هذا اللقاء الغريب؟ وهو حقا لقاء بين شخصين انشغلا طويلا بتشخيصية ذات مضامين اجتماعية، وإذا بهما يبددان ما هو اجتماعي، ويذيبان الشخوص والأشياء ذات الأشكال والحجوم التي نمتلك عنها خبرة، مستبدلين إياها بكوسمولوجية تستخدم منهجين مختلفين تماما، وبعبارات مختلفة، وصوريا يبدو أنهما معنيان بما يجري داخل الاشياء أو ما تتركه عملية ما من آثار وعلامات.
    إنها ببساطة تجارب شخصية لعقول مفتوحة تتغير مع تغير العالم، مع تغير الحياة الداخلية وخبراتها، في عالم يتغير ويضع مصاعب جديدة إزاء الفكر والبصر والجسد.
    تقدمت هنا بمثالين عن تغيير لا يمكن توقعهما في حينها. وفي مكان ما أوحيت أن بعض التغييرات في الثقافة والفن نتجت عن فشل البيئة السياسية العراقية وانحطاطها. بالرغم من ذلك فإنك تستطيع ببساطة أن تراجع الفلسفة لتكتشف أن فكرة وجود شيء خارج الخبرة الظاهرة، أي يختفي، أو مختف، جوهر غامض، هي فكرة قديمة جدا. إنها تشكل لب كل ميتافيزيقيا.
    لكن هذا لا يعني أن هذين الفنانين يعيدان إنتاج هذه الفكرة الغامضة، فهما يدركان أنهما في حقل التمثيل وليس تمثيل ما لا يمثل!

    عمار: بعد مقارنتي لتجربة شاكر وصبري الخمسينية اكتشفت أن صبري كان منظما في الحزب الشيوعي، ما جعل عمله الفني يعالج تعبيريا ظاهرة الكدح والظلم والشهادة في أعماله، وقدم معالم عن حياة الفلاحين بالدرجة الأولى، وقد جُيّر لصالح الحركة الشيوعية. بالمقابل طرح شاكر نفس القضايا في أعماله الخمسينية، سؤالي أن صبري يساري حسم أمره وخياراته، وشاكر لم يحسم أمره، هل الأمر كذلك ؟

    سهيل: شاكر كان يساريا ايضا في بداياته. هو صرح لي بذلك. عدد كبير من الفنانين العراقيين كان متأثرا بالفكر اليساري. لكن قضايا الكادحين كانت جزءا من البرامج الوطنية للتغيير، وليست الوطنية حكراً على اليساريين والشيوعيين وحدهم. كانت فكرة التغيير تستحوذ على الكثيرين، وفي الفن يبدو أن تمثيل الفلاحين ومهاجري الريف كان موضوعاً مثيراً يوحي بالتعاطف والتضامن والرغبة في الإنقاذ. وعلى سبيل التذكير كان شاكر مولعاً بفن البساط الشعبي الفلاحي الزاهي الألوان، وصبري يحب رشاقة الريفيات، ما يعني أن تعاطفهما لا يظهر في الموضوعات التي تثير الكرب وحدها!

    عمار: لكن ماذا بشأن شكل العمل الفني وطريقة تلقيه؟ ألا تجد أن تماهي الجماهير العريضة مع الرسوم الشعبية أكبر؟ أشير مثلا الى صورة بنت المعيدي التي تجدها في المقاهي، فهذه الرسوم أكثر سطوة على الذائقة العامة؟

    سهيل: هناك بالطبع ذائقة شعبية، وهناك ما يشبه الهوة ما بين عامة الناس والمتعلمين والمثقفين. بوجه عام لا أرى من طرح هذه القضية الخروج منها باستنتاجات حاسمة بشأن دور الفن. الناس تضع لوحة بنت المعيدي في بيوتها، ومقاهيها، كذلك صورة الولد صاحب الدمعة، من دون معرفة قصتيهما، لكن وجود مثل هذه الأعمال توحي بقصص أو تولد مشاعر لها خلفيات قصصية. الناس تحب القصص. الناس بحاجة الى ما يطري حياتها، طفل جميل أو امرأة جميلة. هذا اعتيادي وموجود حتى في أوروبا. أليس كذلك؟ هناك أشياء في حياتنا لا تشكل مأثرة أو حجة، ليست قوية ولا ضعيفة، بل هي موجودة فقط.. موجودة ليس الا!

    عمار: أنا أيضا أعتقد أن هناك جمهوراً عريضاً في السويد وفي الدنمارك لديه نفس التفضيلات.

    عمار: أواصل معك فكرة التغيير، فمع انتصار البلاشفة، ولدت حركة البنائية الروسية التي كان لديها منظور اجتماعي تغييري في الفن. معالجة البنى في العمل الفني ليست هي نهاية المطاف وإنما العمل التغييري داخل المجتمع، كيف تنظر إلى ذلك ؟

    سهيل : قبل أن أصوغ رأيا بشأن البنائية الروسية ، أشير الى ولادة جماعة أدبية باسم البروليتير أو شيئا من هذا القبيل – حسب ذاكرتي- أحد ممثليها مايكوفسكي . لم يقف لينين ضدها لكنه قدم رأياً غريباً بشأن برنامجها الثوري القاضي بخلق أدب بروليتاري. قال إننا لا نمتلك أدباً بورجوازيا محترماً بعد فكيف نقفز الى الأدب البروليتاري؟. من الغريب أن لينين يستبطن هنا تجربة الادب الفرنسي وكأنه لا يوجد في روسيا أدبها العظيم المتمثل بغوغول وتولستوي ودوستويفسكي. ثمة تناقض لا أجد له تفسيرا إلا بالمدونات البيداغوجية السوفييتية التي حولت الماركسية إلا خطاطات توجيهية، فعلام تبحث روسيا عن خط انتاجي أدبي ذي مضامين اجتماعية بورجوازية على طريقة بلزاك وستاندال في حين أنها تخطت مرحلة الرأسمالية بقفزة؟. المشكلة كما أرى باطلة، فإذا لم يكن بالإمكان خلق أدب بروليتاري، فلأنه لا يوجد أصلا أدب بورجوازي صرف، أي يمكن وصفه بهذه الصفة عن ثقة، ولا سيما أدب القرنين التاسع عشر والعشرين. لقد بتنا نتحدث عن الأدب الإنساني، وفكرة الخطابات والحواريات والبنى الداخلية، وهي ممارسات نقدية من حيث التعريف، وليس إضفاء اديولوجية بواسطة برنامج.
    مثلما فشلت تجربة الأدب البروليتاري، جرت في المرحلة الستالينية تصفية كل تيار فني وثقافي يبدي استقلالاً فكرياً عن النظريات السوفيتية. إن المدرسة البنائية الروسية لم تسلم من هذا المصير.
    ميزة هذه المدرسة أنها هضمت بسرعة مضمون الثورة ليس كدعاوى وشعارات اديولوجية بل كحركة بناء للمجتمع، لأنها انبثقت من عملية بناء ثورية قائمة في كل الميادين: التصنيع، مكننة الزراعة، العمارة، بناء المساكن ، التخطيط وبناء مدن جديدة، المسرح والسينما والموسيقى والرسم والنحت والتصوير والتصميم والطباعة والاعلان واستخدام مواد جديدة، ومفاهيم الحداثة والتجريب. جرى في الاتحاد السوفيتي في السنوات الأولى عمل ضخم في أعمال البناء والأفكار الابداعية أرادت البنائية أن تكون التعبير الفكري عنه.
    في النهاية دعني أصارحك القول إن البنائية الروسية جدية جدا، بسبب مقارباتها العلموية العريضة وانعدام اللون العاطفي. وهي ليست ملامة على ذلك، لأنها نتاج انفجار!

    عمار: ألا ترى أن البنائية الروسية كانت معنية بالفكر الماركسي من جهة المادية الديالكتيكية .. أي البحث في العمليات الباطنية؟ صبري عالج فكرة الأطياف اللونية ذاهبا الى البحث عن ذلك الباطن غير المرئي، أي أنه تخلى عن الشكل الطبيعي الظاهري لصالح الشكل الباطن والعمليات الداخلية، ثم أنه قام بمنهج تراجعي كما فعل شاكر، لكن الأول كان ماديا في منهجه والأخير مثالياً صوفياً، أليس كذلك ؟

    سهيل: من المؤكد أن البنائية الروسية ولدت في وسط ثوري وبمصاحبة مشروع تغييري شامل تنفذه ارادة الملايين بقيادة حزب ثوري، وكانت تعتقد بنفسها أنها تترجم الفكر الماركسي في قضايا الثقافة والبناء وإعادة البناء. لست متأكدا من انتفاعها من المادية الديالكتيكية بالمعنى المباشر، كانت هذه المادية فكر السلطة السوفيتية، لكن كما تعلم لا يمكن بناء المصانع والعمارات بفكر المادية الديالكتيكية بل بالهندسة والميكانيكيا والمواد الانشائية والتصاميم المبتكرة. الأمر على هذا النحو دائما في علاقة الأفكار والمناهج الكبيرة بالحياة. الأولى تمنحك الرؤى وأدوات التحليل. لكنك من جهة التجربة التاريخية أنت تعرف النتيجة، فلقد اسقطت الستالينية الديالكتيك النظري والعملي، أعني أوقفت ما هو أساسي لحياة الفكر والثقافة والعيش السليم ألا وهي الحرية والتعددية والعدالة. إن البنائية رحلت إلى أوروبا الغربية، وهناك تبددت في مناخ آخر.
    التخلي عن الشكل الطبيعي لا علاقة له باستخدام مفاهيم جدلية أو ماركسية خاصة بطبيعة المادة. الماركسية تتحدث عن بنية الرأسمال كما تتحدث عن تاريخيته وتحولاته، وهكذا هو الحال دائما في فهمها للظواهر. ومفهوم المادة عندها أسيء فهمه حتى من الماركسيين. فالمادة ليست هي التي نصفها بالصلابة والامتداد، بل هي مفهوم، مقولة من مقولات الفكر. إن مفهوم العمليات الداخلية لا يحل محل الشكل، بل هو ما نعرفه في الفيزياء والكيمياء من تفاعل وتفكك واندماج. لم يستخدم صبري منهجا تراجعيا على طريقة شاكر، بل استخدم منهجا مختبريا في التحليل. وبالنسبة لشاكر تشكل تراجعيته وصفا لمنطقة اهتمامه: من الشكل الى الخط الى النقطة، ومن النطفة الى الحجيرة! اتذكر أنني عندما كتبت عنه استخدمت كلمة سديم وكنت افكر بالهيولي الفلسفي!
    لعلك تعلم أنني عقدت مقارنة بين شاكر وصبري، وفضّلت تجربة شاكر الصوفية على تجربة صبري العلموية.

    عمار: فضّلت شاكرا ؟

    سهيل: نعم، لأن صبري نقل مفهوماً علمياً الى حقل فني. قام بنقل أدوات عمل و مسطرة قياس ومفاهيم من حقل إلى آخر بتسويغات نظرية. هذا ما اسميه (تعالم). حين تطّلع على بيانه في واقعية الكم، ستجد أنه لخص المشكلة الفيزيائية بطريقة عظيمة ورائعة وذكية، لقد أنتج فكرة العمليات في المختبر، لكن النتيجة الفنية كانت بائسة.

    عمار: لماذا كانت بائسة ؟

    سهيل: لأن النتيجة ستتكرر دائما من حيث شكل البناء العام، كما أنها بلا لون عاطفي. هل تذكر تلك الأحزمة و الخطوط الملونة؟.

    عمار: هل نستطيع القول إن أعماله كانت بمثابة سبورة توضيحية لعملية فيزيائية داخلية ؟

    سهيل: الحقيقة أننا لا نعرف حقا ما جرى ويجري في المختبر الفيزياوي. والتجربة لا يمكن فهمها إلا من متخصص أو عارف في هذا الحقل. لكن الشرائط الملونة كما تعرف تتشكل من ظاهرات لونية تنتج من تحليل ذرة الماء أو ذرة الاوكسجين. (ثمة لوحة له بعنوان H2O )، والحال أخمن أن هذه الشرائط لا تنتظم تلقائياً كما تظهر في اللوحة بل إن الفنان يقوم بالتنسيق ما بينها. هل هي صورة لما جرى في المختبر؟ هل هي ايقون؟ كتبت عن شاكر بوصفه منتج ايقونات ذهنية، فحين يرسم معراجا، يقذف تدرجات لونية تشكل خطا يسبح في (سماء) اللوحة. عندما يقول بالتراكم يضع صبغة فوق أخرى، وعندما يقول بالحذف يحذف الصبغة.

    عمار: تقصد تحويل المحمول الفكري إلى صورة ؟

    سهيل: نعم، والسؤال : ما هو التنظيم الموجود في عمل محمود صبري؟ أصيغ السؤال بشكل آخر: إذا لم تكن تعرف النظرية، ماذا سترى؟

    عمار: سأرى شرشفاً !

    سهيل: أها، شرشف، أليس كذلك ؟ طيب، وحين ترى عملا لشاكر، ماذا ترى ؟

    عمار: أجد يداً تحاول أن تحقق تجليات روحه.

    سهيل: هنا يكمن الفرق.

    عمار: لكن دعني أقول لك ما يلي: محمود صبري استبعد في واقعية الكم عنصر الذات الى حد ما، لأنه موضوعي ويعرض حالة خارجية لا تمس وجدانه، اما شاكر وفي منظوره المتأخر فقد طرح شعار: الحلم بفن بلا فنان، ألم يقل هو ذلك؟

    سهيل: لكن ألا ترى بالنسبة لمحمود صبري إن الذات موجودة في خياراته والبيان الذي كتبه وتنفيذ العمل في نسق فني؟ إنك ترد المتكلمين الى أنفسهم وأنفسهم ليست هي الذات وحدها بل الوضعية التي تعمل معهم وضدهم. (من يتكلم هنا غيري؟ لكنك موجود معي!) وبالنسبة لشاكر أراه قد جانب الصواب، فمن وجهة نظر التاريخ يوجد الكثير من الفن بلا ذات، إن تاريخ الفن الشعبي هو تاريخ بلا أسماء، بلا حضور (هذه الكلمة تعني غياب الفاعل). أراد شاكر أن يختصر دور الفنان ويحوله الى (منسق) متأثرا بالبنيوية وفكرة موت المؤلف. لكني لاحظت أن شاكر مليء بالشوق لملاقاة الغائب. إن فكرة الندوب والشقوق والكسور والفطور هي ما يتركه ذلك الغائب الذي لا نراه. سمّه ما شئت: الطبيعة، الزمن، الله. ههنا تتجمع العناصر الدرامية العاطفية لشاكر. وههنا تكمن قوته: التكرار، العودة، تلوين التكرار والعودة!

    عمار: إن كشك العبدلي كان يمثل آخر تجليات مطمحه الفكري باتجاه تحقيق فن بلا فنان، كان يريد ان ينقل كشك العبدلي كما هو ويضعه في المتحف، لكننا نواجه هنا مشكلة: هل نحن فعلا بحاجة الى فن موضوعي تنتفي منه ذات الفنان ؟ هذا هو السؤال.

    سهيل: أنا قريب من الفكر الظاهراتي، ومقتنع أن الذات تُقيّم وتعيد تشكيل العمل الفني. إن عدم ظهور ذات الفاعل الفني لا يغيب متلقيه الذوات الذين يأولونه ويسقطون عليه الدلالات. حتى في الحقل العلمي من يقرر أن نتيجة علمية تحظى بقيمة موضوعية بالمطلق؟ ما الموضوعية؟ في حدود تجاربنا اليومية هي تقييم قابل للتفنيد!

    عمار: قرأت مرة نصا لألبير كامو يقول فيه ما معناه: حتى يجيء عمل فني ما بصيغة واقعية (موضوعية بمعنى آخر) كان لزاما على الفنان أن يعد منجزا تقريريا متوفرا على آلاف من المحددات التي تثبت وترسخ واقعيته. ليس الأمر يسيرا كما اعتقد، للحقيقة الموضوعية تمظهرات عديدة.

    سهيل: أنت تعرف أن الموضوعية العلمية تمر بإجراءات، العلم يستخدم مسطرة، أي أداة قياس، ويقوم بتجاربه في سياق إجراءات وتكرارات وتوقفات وإعادة تقييم، حتى يصل في النهاية إلى قرار يوصف بالموضوعية. لكن: من يقوم بهذا ويقرر؟ إنهم مجموعة علماء او عالم. إن تجربة علمية مؤكدة تحذف الذات التي نعرفها عن الكوجيتو (أنا أفكر ..) لكنها تفكر بلسان أنا مدربة تنأى عن الشطط والانحياز وأحكام القيمة والسهولة والتعصب والتفاهة، لكن في هذا العالم علينا أن نتوقع تدخل بعض التركيبات الإيديولوجية والسياسية التي تفسد القرارات الموضوعية. إن جميع الاتجاهات التي تعمل في الحقل الفني: البنيوية، ما بعد البنيوية، الحداثة، ما بعد الحداثة، تلتزم ببرامجها ونسقها الخاص، فضلا عن وجود أساليب مصاحبة لمثل هذه التيارات، أساليب تستخدم أدواتها التعبيرية الخاصة. أشعر أننا الآن في حقبة معقدة وصعبة، لدينا الآن عودات الى التعبيرية والى العديد من الأشياء، والآن أعتقد بأن الفن يمر بأزمة شديدة، بسبب التقنيات الجديدة وتعدد المواد والخيارات. هناك مثلا من يرسم بالكمبيوتر، لمكاثرة خياراته. أنت نفسك تختار بشكل ما هذه التقنية او تلك، وقد تفعل هذا من دون دافع داخلي. بسبب هذا تجدني لا أرغب في الإجابة على أسئلة بطريقة حاسمة. نستطيع طبعا أن نناقشها أكثر من أن نجد لها جواباً، إذ ليس لها جواب واحد، ولا اثنين أو ثلاثة. إنها تحتاج الى توضيحات، وهذه الأخيرة ليس لها خاتمة، باختصار هي مفتوحة. لنأخذ على سبيل المثال تجربتك انت، ماذا سنقول فيها إن أردنا أن نتحدث عنها ؟ قبل كل شيء أنت تنغمس بالفكر، وأنا أفضل أن لا تفعل ذلك كثيرا، لأنك رسام مجيد، لست بحاجة لأن تضع لنفسك برنامجا فكريا لترسم. أنت مهيأ للرسم. وعقلك يرى اشكالا أكثر مما يرى فكرا، لنقل أنه فكر بصري هذا الذي تجده بين يديك وعينيك وعقلك. هذا ما أحببته في أعمالك.

    عمار: أنا أشتغل عادة من خلال الاستعانة بالحدس.

    سهيل: أنا مهتم قبل كل شيء بما يظهر، بالنتيجة. إن ما يختفي يظهر على نحو ما، حتى لو استخدمنا فكرة مستحيلة. النتيجة! هذا ما فكرت به وأنا أتحدث عن ثورة تموز التي نعرف أنها حدث تغييري. ماذا كانت النتيجة؟ قلت إنها خراب كبير! في الفن النتائج السيئة لا تقتلنا!

    عمار: هل كان للشيوعيين العراقيين رؤية جيدة عن الماركسية ؟

    سهيل: فيما عدا كتابات فالح عبد الجبار، وهي كتابات متأخرة، لم يكتبوا لحد اللحظة كتابا واحدا عن المجتمع العراقي من منظور الماركسية. المؤلفات ظهرت من ماركسيين وتقدميين خارج الحزب، التقيت في التوقيف في خلف السدة بكادر شيوعي كنت أمازحه كثيرا، لأنه كان ساذجا جدا. سألته مرة: قل لي ماذا كنت تقرأ ؟ أجاب أنه لم يكن يخرج خارج المطبعة ولا دراية له بشيء في المحيط الاجتماعي والسياسي.

    عمار: هل كان هذا النموذج سائدا بكثرة ؟

    سهيل: طبعاً. لكن الا ترى إننا خرجنا من الموضوع على الطريقة العراقية؟!
    .

    حوار مع الفنان يحيى الشيخ
    .

    عمار داود: ما هي قدرات الفن على التغيير الاجتماعي والتاريخي ؟

    يحيى الشيخ: يمكن للفن من خلال التراكم المعرفي التاريخي ان يتحول الى نموذج جمالي يحتذى به، ولكنه لا يمتلك القدرة على تغيير حقيقي على الأرض في ساعتها... اللجان الشعبية التي ترأست كومونة باريس تشكلت من مثقفين وشعراء وفنانين وفلاسفة إلى جانب بسطاء الناس؛ لكنهم مارسوا فعلهم الثوري باعتبارهم عقول ثورية وليس لوحات وقصائد وروايات. خلف ظهورهم وهم يحكمون الشارع، كانت المقاصل تهوي على رقاب الفرنسيين، ولم يكن دورهم غير غض النظر، وربما كانوا يكتبون قصائد لعشيقاتهم. الفن منظومة معقدة ومتشابكة من العلاقات والأفكار لا تظهر نتائجها آنياً. وربما بعد قرون.

    عمار: إذا وقفنا معا تحت نصب الحرية لجواد سليم وعملنا استفتاء للمارة تحت النصب، ماهي توقعاتك حول أجوبة الناس ؟

    يحيى: لابد ان اجوبة من هم على درجة جيدة من الثقافة ستأتي بصورة اطراء للصيغة الاسلوبية للعمل في طرح فكرته، وحداثته، أما الغالبية الجائعة التي تبحث عن مصدر للخبز فلا يعنيها النصب غير مكان لظل وارف يقيهم شمس العراق الحارقة... في النهاية يمكن أن يشكل هذا العمل وغيره من الاعمال المهمة تراكما جماليا ومعرفيا يحفز ظهور وعي أفضل لدى الناس في المستقبل. ثورة تشرين التي جرت أهم أحداثها تحت نصب الحرية لم تتمكن من أن إجراء أي تغيير ملموس عدى انها شكلت ذاكرة مشاكسة للمنطق السياسي السائد، فكيف سيتمكن نصب برونزي من إجراء التغيير... الفن ممارسة اجتماعية ضمن سلسلة نشاطات تجري في مناخ شاسع ويظهر دوره كواحد من الأفعال التي بفعل تعقد خصائصه، يكون من الأفعال مؤجلة النتائج.

    عمار: هل تتفق معي بالمقابل أن الذائقة الشعبية في العراق والوطن العربي هي ميالة إلى الرسم الشعبي وتمثلاته المعروفة مثل: تضحية إبراهيم بابنه واستبداله بالكبش، ابنة المعيدي، صور الشخصيات البطولية كعنترة وأبي زيد الهلالي…

    يحيى: نعم هي أكثر تأثيرا بالوعي الشعبي، لسبب بسيط جدا وهو وجود خلفية سردية وراء العمل، وخلفية تاريخية متوارثة مثل أي نص متوارث تحبه الناس، ولهذا تجد أن الذائقة الشعبية تهتم بهذه الاعمال وتتعامل معها بأريحية وبود وحب تحتاجهما، لهذا تجد أن الغناء الشعبي أكثر انتشارا من أي لون آخر من الغناء والموسيقى، لا يتعلق هذا الامر بالمعرفة وانما بالمفهوم الجمالي المتوارث والذي احيانا لا يُفَسّر، بل هو مجرد نموذج ذائقي يحبونه ويفهمونه. كما للشعوب اقتصادها المادي المتوارث، لديها ثقافتها الشعبية المتوارثة والتي يستقتلون من أجلها. جرب أن تسيء لشخصية تاريخية حتى وان كانت خرافية ومختلفة، يعني هذا أنك تهدم تاريخ شعب.

    عمار: إذا رجعنا الى ما طرحته المادية الديالكتيكية حول اعتبار العالم في صيرورة دائمة بسبب كونه محكوما بعمليات داخلية في حركة دائمة وهي القوانين ذاتها التي تحرك مسارات التاريخ وتغيراته، ألا ترى معي أن فناني المجموعة البنائية الروسية قاموا بتأصيل هذه القوانين والعمل بموجبها في أعمالهم الاولى التي لم يرض بها النظام السوفيتي الناشئ آنذاك، مفضلا السمات التي وضعها للواقعية الاشتراكية ومعتقدا بأن لها القدرة على إحداث تغيير في المجتمع السوفيتي من خلال الطابع الإعلاني لها. ونبذوا أعمال البنائية باعتبارها لن تكون مفهومة من قبل الطبقة العاملة وطبقة الفلاحين ؟

    يحيى: لقد تجاهل السوفييت دور الثقافة في نقل الخبرة من اعلى الهرم الى قاعدته، أهملت الثقافة باعتبارها احدى قوى الإنتاج، وحولها البعض إلى قضية شعبوية بروليتارية. هناك قوى عمل ورأسمال وهذه هي المسائل التي تحرك المجتمع، التي تشتغل في تطور التاريخ، نسوا ان هناك ارث من المعرفة يشكل واحدة من القوى التي يمكنها تطوير الإنسان في المستقبل، ويمكنه تسخيرها في التحول التاريخي للمجتمع. الانسان لا يتوارث قوى الإنتاج بل الأفكار أيضا. الفكر الديني مثلا كان يشتغل كقوة فعالة اجتماعية تفوق قوته قوة الاقتصاد وقد قام رجال الدين عندنا ومن امامهم السياسيون بتشغيل هذا المحرك من جديد، لأنهم وجدوا فيه قوة لا تزال تعمل، وأنه يشكل قوة مادية تغييرية مؤثرة. أمامك العراق نموذجا ماديا صريحا. لقد حجم السوفييت دور البنائيين الروس مما ادى الى تغييبهم فقرروا الهجرة من الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي شكل خسارة كبيرة لتطور الفن فيه... الأفكار والمعلومات والمعرفة عموماً، بفعل تراكمها التاريخي تشكل قوى متوارثة تلعب دورا في البناء التاريخي المادي الى جانب قوى العمل الأخرى. الاقتصاد يكون المحرك الوحيد الفعال في التطور التاريخي الاجتماعي، عندما يحمل في صلبه افكار تحوّله من تراب الى ذهب.

    عمار: الذي حدث ايضا هو استحداث مفهوم (الرومانسية الثورية) وان الفن يشتغل مع الروح الشعبية، وأن الناس يجب أن تفهم ما يقوم به الفنان، وهي أمور لم تكن لتندرج في برنامج البنائية التي كانت في بعض وجوهها غير راغبة بالتعبير العاطفي الرومانسي في الفن، إذن لم تكن معنية بالروح ولا بالعاطفة، لقد كانت معنية بدراسة البنى والأنساق في العمل الفني وهو مبحث على درجة كبيرة من العلمية، إذ أنه كان يعتمد على التجربة واختبار المفردات الشكلية واللون، ومثال ذلك ما فعله كاندينسكي في دراسته عن النقطة والخط والمساحة وهي المفردات الرئيسة في تحقيق الأنساق الشكلية للعمل الفني. وكما نعلم فقد هاجر أغلب هؤلاء تاركين التجربة السوفيتية ورائهم. لكنني انتبهت الى ان ماليفيتش قام بمهادنة محيطه السياسي والسلطوي من خلال القيام ببعض (التحريف) في اعماله كي لا يقطع الخيط بينه وبين السلطة السوفيتية، لقد رسم فلاحين على الطريقة البنائية او (السوبرماتية) كما اسماها وبشيء من ملامح التكعيبية.

    يحيى: علينا الرجوع إلى أعمال "ديينيكا" فنان بطرسبرغ الأول، ستجد نفس الظاهرة، حيث أراد ان يتخلص من ورطة الثقافة الستالينية، فأقدم على تنفيذ موضوعات الحياة الرياضة، فرسم ابطال رياضيين وعمالقة رياضة، ليتملص من إملاءات ستالين، كما افنى جل سنواته في العمل الصحفي ورسوم الصحافة، عمل تخطيطات عن الكولخوزات، ورسوم الحيوانات بأسلوب تكعيبي (أبقار وكلاب ودجاج، فلاحات ودلاء حليب وبيادر علف وغيرها ) تماماً كما فعل الألماني هانس مارك، لكنه كان مقبولا بفعل قربه من الذائقة الشعبية، وبذلك أنقذ نفسه وعاش. للفن روح السحر التي توارثها من الكهوف الأولى ولا يمكن التغلب عليها.

    عمار: اعرف ظاهرة مشابهة هو ستشمينسكي البولندي في زمن الشيوعية البولندية… لقد قالت له السلطة المتجلية في شخوص من يعملون في مؤسساتها الثقافية إن هذا النمط الذي عمل به لا يتماشى مع ايديولوجيتها، لقد أنجز ستشمينسكي أعمالا ادخل فيها فلاحين نفذهم بطريقة تجريدية توحي بمباحثه التي هوجمت.

    يحيى: اتذكر استاذنا رومان ارتموفسكي الذي كان يتذمر من الشيوعية بكثرة وينتقدها بشجاعة، كان محمد مهر الدين الذي كان قد عاد لتوه من بولونيا، يناقشه في هذه الأمور وقد اتهمه بأنه يهودي لعدائه للنظام الاشتراكي الحاكم في بولندا... اعتقد ان مجيئه الى العراق كان هروبا من النظام الشيوعي في بولندا. نحن هنا ملتزمين بالحديث عن الجانب المادي للفن، بعيدا عن المحتوى الرومانسي له، لذلك ستجد أن الباوهاوس قدمت الجانب التطبيقي الذي لعب دورا مؤثراً في حياة المجتمع. لقد لعبوا دورا كبيرا في تغيير ذائقة الناس ماديا، لأنهم وضعوا العمل على المستوى التطبيقي، اما لوحاتهم وقطعهم الموسيقية وأعمالهم الأدبية فكانت في مكان بعيد عن الاستهلاك اليومي وربما غير مفهومة من عامة الشعب الذي استساغ واقتنى أعمالهم التطبيقية. الفن نشاط فردي حتى وهو تحت طائلة الحاكم، لا يؤتي ثماره في وقته مهما بلغ من قوة، او يتحول إلى دعاية شعبوية تزول مع زوال المستخدم.
    .

    حلم الانسان الجديد بين واقعيتين:


    1. الفن السوفيتي بين الرومانسية الثورية والواقعية البطولية
    .

    كانت الرغبة في وضع محددات صارمة للفن في الاتحاد السوفيتي، قد وقف وراءها ودفع باتجاهها صراع قوى عالمية متناحرة، وهي التي عبر عنها السياسي الشيوعي جدانوف في قراره بأن يعبر المثقف السوفييتي عن التزامه بالواقع في (صيرورته الثورية) وبطبيعة (التحول الأيديولوجي) وبالعمل على تلقين الناس بذلك، ضمن نزعة وصفها ب(الرومانسية الثورية) التي سيقوم الحزب الحاكم برعايتها والإشادة بطابعها البطولي المتجلي في حياة الطبقة العاملة. ما ادى بطبيعة الحال الى نبذ الطابع الشخصي التجريبي في الفن، حتى أن كل من تبنى هذا الطابع تعرض في النهاية إلى خطر الاضطهاد والتضييق الذي سرى تطبيقه حتى وفاة جوزيف ستالين عام ١٩٥٣.
    لقد كان المأمول من الواقعية الاشتراكية التي تم إعلانها عام ١٩٣٤، أن تكون النموذج الوحيد لخلق الفن الاشتراكي الحقيقي المقبول من الجماهير والمصنوع لها من جهة كونه فنا داعيا الى العمل وبناء الدولة الشيوعية لتوحيد روح الشعب مع روح الحزب، وهو ما عناه ستالين بمقولة (مهندس الروح) ناعتا بها الفنان السوفيتي الحقيقي والملتزم الذي سيتمكن من خلال العمل بها ومن خلال الحزب خلق (الإنسان السوفيتي الجديد).
    وعلى الرغم عدم وجود محدد اسلوبي نموذجي واحد وراء تلك الخطة، إلا أن النتيجة كانت ان استثمر الفنانون السوفيت تقاليد الأشكال الكلاسيكية في الفن. وليس هذا بالأمر الغريب، رغم عدم وجود نموذج واحد مفروض عليهم ليلتزموا به، فالأفكار التي جاءت من فوق، طالبت بتصوير او نحت الجسم البشري الصحيح والمعافى والوجه المبتسم والمفعم بالأمل لأجل تعزيز مفهوم الحياة المثالية ونشر فكرة (الإنسان السوفيتي الجديد). لكن مع بداية انتصار الثورة البلشفية كانت تزدهر حركة البنائية الروسية التي طورت الفن التجريدي ودعت الى قطيعة مع تقاليد الفن الماضي، الأمر الذي عزز صراعا ما بينها وبين الفنانين التقليديين الروس الذين لم يزالوا دعاة لنزعة التمثيل الواقعي للحياة. ولقد تم حسم هذا الصراع لصالح الاتجاه التقليدي تحت فترة استتباب حكم لينين. وفيها بدأت بوادر تشكل وهيمنة مفهوم الواقعية الاشتراكية وخصائصها. لقد أشار جورجي بليخانوف، المنظر الماركسي، الى ماهية المحدد الذي يجعل الفن مفيدا وهو اكتسابه طابعا اجتماعيا من خلال تعبيره وعرضه للأفعال والعواطف والأحداث ذات الأهمية في حياة المجتمع.
    وبحلول أوائل الثمانينيات، بدأت حركة الواقعية الاشتراكية تتلاشى. أي مع فترة حكم غورباتشوف (1985-1991) وإصلاحاته في البيريسترويكا. ومن الجدير بالذكر ان في مطلع التسعينات سعى الفنانون الروس الى استعادة سمات الواقعية الاشتراكية بطريقة نقدية و تهكمية.

    2. الرايخ الثالث والنقاء العرقي للإنسان الألماني
    .

    وبالمقابل، وفي موازاة زمنية للطرح السوفيتي، راح نظام الرايخ الثالث في مطلع الثلاثينات، ما بين عامي ١٩٣٣ و ١٩٤٥ يروج لنمط هو (بطولي رومانسي) مقابل النمط (الرومانسي الثوري) السوفيتي، فرضه عن طريق رقابة صارمة على اشكال المنتج الإبداعي مفضلا النموذج اليوناني والروماني الكلاسيكي، باعتبارهما من مراجع وملهمات الفن الآري، و الذين من خلالهما سيتمكن الاعلام الالماني الرسمي من ترسيخ وتجذير (المثال العرقي الالماني) في أذهان الجماهير. لقد تمخض ذلك عن فن ومعمار ونحت يتسم بالضخامة والتحرز من إسقاط الانفعالات الشخصية الذاتية، ومحملا بخصائص التوجه الرسمي الدعائي المتجلي في حالة مستدامة من التعبير عن القوة والصلابة والجمال والرفعة والكبرياء والشموخ. هي إذن ذات الرومانسية الثورية التي أعلنها جدانوف، والتي وقفت على الضد من ذلك الفن الروسي الذي مثلته النزعة البنائية الروسية. في حين وقفت النزعة الرومانسية الالمانية بدورها على الضد مما اسمته ب (الفن المنحط) في ألمانيا وهو الفن الحديث: التعبيري والوحشي والتجريدي… فن أميل نولده و كيرشنر وجماعة الفارس الأزرق وغيرها.

    ولم تسمح الثقافة الالمانية بعرض المأساة والألم الداخلي، وراحت تعلي من قدر الأعمال الفنية التي تروج لقيم النقاء العرقي، والتي تعلن بأن الحياة تسير من (الحسن الى الأحسن) بفضل النظام الألماني الرصين والحكيم ونجاح حزبه. وبالمقابل، سيمثل (البطل السوفيتي المثالي) ذلك الرخاء الملتزم بالطاعة وحب الوطن والنضال الوطني، والمؤمن بأن الحزب الشيوعي يسير بنجاح نحو مستوى معيشي رائع ورفاهية كبيرة.

    كان جسم الرجل الرياضي الألماني الخالي من العيوب هو التمثيل الأكثر شيوعاً للآري المثالي. أما مفهوم الانحطاط الفني، فهو من وجه نظر السلطة النازية نتيج اشتغالات العرق الأدنى. حيث يتم التعبير عن الإنسان المريض أو المشوه جسديا وخلقيا في أجواء ومناخات مضطربة. وكان حزب أدولف هتلر النازي يقمع الدادائيين ومنجزات الباوهاوس، أما الفنانون الألمان (الجيدون) فهم من كانوا في يغذون الدعاية من خلال تقديم صور مثالية كاذبة.

    وفي السنوات التي أحاطت بثورة 1917 البلشفية، كانت هناك العديد من الأصوات والحركات بين الكتاب والفنانين. تعمل في اتجاهات حداثية مثل البنائية والرمزية والتعبيرية والمستقبلية، لكن في عهد ستالين، الذي خلف لينين في عام 1924، تشددت السياسة ضد الفنانين. وتم تشجيعهم على العمل وفقًا لإرشادات الاشتراكية ورفض الفن التجريبي باعتباره "منحطًا".

    ولا شك في أن الفن النازي تماثل مع أسلوب الفن الدعائي السوفيتي في واقعيته الاشتراكية، وقد استخدم كلاهما مصطلح (الواقعية البطولية) لوصف كلا الأسلوبين الفنيين. حيث تم فيهما نزع الطابع (الفردي) لدى الإنسان لصالح وجود إنساني (عام) تتمثل فيه صفات خالدة مفترضة.
    وما يعزز ذلك هو ان النظرية النازية لم تكن ميالة الى الصراحة الفجة للواقعية، على الرغم من تفضيلها الأسلوب المطابق لنموذجه الواقعي. حيث كان على الفنان أن يخلق صورة مثالية للواقع الذي يتأمله.


    مصير الفنانين الألمان والسوفييت
    .

    أصبح الفنانون الألمان الطليعيون كحال أقرانهم من البنائيين السوفييت، يُصنفون على أنهم أعداء للدولة ويشكلون تهديدًا للثقافة الألمانية. ادى ذلك الى لجوء العديد منهم إلى المنفى: هرب ماكس بيكمان إلى أمستردام وهاجر ماكس إرنست الى فرنسا وانتحر ارنست لودفيج كيرشنر وقضى بول كلي سنوات عمره في منفاه بسويسرا. وبقي فنانون آخرون في الداخل. مجنبين انفسهم الضرر، بالهرب الى الريف كما فعل أوتو ديكس ليرسم مناظر طبيعية بأسلوب لا يستفز السلطات او بصنع الفن في الخفاء مثل أميل نولده وادغار انده وغيرهم، ممن منعوا فيما بعد من شراء مواد الرسم، أو من العمل في الجامعات، حتى ان منهم من تعرض لمداهمات مفاجئة من قبل الجستابو لضمان عدم إنتهاكهم الحظر المفروض على إنتاجهم للأعمال الفنية.
    وبالمقابل، كان السوفيت، بدورهم، يقسمون الثقافة وبضمنها الادب والفن، إلى قسمين: ثقافة تقدمية - أي شيوعية او يسارية - وثقافة بورجوازية رجعية، حتى تم تحجيم التجربة البنائية بسبب تصنيفها كحركة برجوازية بعد وفاة لينين واستلام ستالين للسلطة. وبسبب رفض البنائيون لاملاءات الدولة السوفيتية، وإصرارهم على عدم الإيمان بيوتوبيا فن الواقعية الاشتراكية، والعمل بدلا من ذلك مع الحياة اليومية الفعلية للإنسان السوفيتي، أفضى ذلك الى مضايقتهم، حتى فر عدد كبير منهم الى المنافي، وعلى الرغم من إيمان اغلبهم بالفكر الشيوعي الماركسي.

    ما الذي نستنتجه من هذه المقابلة ؟... أليس هو التشابه الكبير؟
    أما ما تبقى لنا من فرق - بالرغم من التطابق - فهو بلا شك، ما بين مفهوم صنع الإنسان السوفيتي (العالمي) الجديد، ومفهوم صنع الإنسان الألماني النقي العرق والجديد ايضا...والفرق مابين هذين المفهومين سيظل كبيرا وشاسعاً جداً.

    للاسف، كان العديد من مفكري القرن العشرين يأمل بنموذج لشيوعية تطهر ذاتها بدلا من أن تعدمها في عام ١٩٨٩... شيوعية، لا تعمل بالاستبداد الفردي واحتكار الثروة من قبل الطبقة الحاكمة، شيوعية تؤمن بعدالة توزيع الثروة وتعمل من أجلها، من منطلق اخلاقي وانساني.
يعمل...
X