المسرحية
قصة تكتب لتمثل . فطابعها المميز هو أنها أدب يراد به التمثيل الذي فيه الممثلون والملابس والمسرح والمناظر والبناء والنظارة . فكل هؤلاء عناصر منها تتألف المسرحية . وكلما انسجمت هذه العناصر وسارت الصورة الفنية الجديدة خطوة في مجرى تطورها فتحللت العناصر وتداخلت بعضها في بعض بحيث يتألف منها في النهاية صوت واحد متناسق النبرات كلما كان حظها كبيراً من التوفيق ، لان القوة المعبرة الكامنة في هذه العناصر بحكم طبيعتها هي التي تكون الرواية المسرحية ، والافعال الانسانية هي مجالها . فعليها أن تتجنب الخوارق التي تقتضي طبيعة غير طبائع البشر ، اذ ليس من شأنها أن تمثل الروحانيات أو فعل الطبيعة أو فعل الحيوان والطير . نعم قد يضطر الروائي الى ذلك أحياناً ، ولكن ان غالى بها وجعلها عنصراً اساسيـــة مقصوداً فقد وقع في الاسفاف . وكم من مسرحية فشلت لقلة العمل فيها وكثرة القول . فالمسرحية هي التي تمثل الفعل الانساني في مجتمع لا في خلاء ، ومن جانبه الاجتماعي الذي يؤثر في الفرد ويتأثر به الفرد. وقد يكون بين الفعل ورد الفعل صنوف من الروابط والعلاقات لا تقع تحت الحصر ، ولكنا نستطيع أن نحصر العلائق التي تصل فردين أو جماعتين في نوعين رئيسيين : علائق ود أو تفور .
والمسرح بما عليه من أشياء يميل الى أن يكون واقعياً يصور الحقيقة . ثم تجيء المناظر المرسومة والستائر فتزيد من هذه النزعة الواقعية ، لأن المسرحية بطبيعتها تعالج الشؤون الاجتماعية ، وتهتم بالحياة كما تبدو ظواهرها بغض النظر عن حقيقتها الكامنة وراء تلك الظواهر ، وتمثل السلوك الواضح ولا تعني بمبادىء الاخلاق الخافية وراءه ، وتقف عند تقاليد المجتمع وأوضاعه ولا تأبه بمشكلات الكون الكبرى بزمن محدود فلا يمكن أن تطول كالقصة وذلك وهي ليمكن تمثيلها . كما انها لا تتناول جزئيات الحوادث وتسلسلها بل تقتصر على ابراز المواقف في الحادثة وتقع بين هذه الحوادث فجوات تكبر أو تصغر . وهي مقيدة أيضاً بطريقة تعبير . بالاضافة الى قيود المسرح والممثل والنظارة كما قدمنا من قبل .
فهي والحالة هذه تخالف القصة . بجميع مجالها في الخيال ، كما تخالف الفيلم بعد امكان تصور مجالها في الواقع المحصور . فموضوعاتها واقعية مجالها الارض ، بل قطعة محدودة منها تكثر فيها الحركة الانسانية بقدر الامكان . فضلا عن أنها تحتاج الى . مهارة في الاستعاضة عن الجملة بالحركة ، وعن الخاطرة بالحادثة بدون تزوير ، لان النظارة تريد الحركة المحسوسة وتنفعل لها ، وتحتم فوق واقعية الحوادث أن يكون التعبير والحوار مطابقين لحال الابطال ونفسياتهم ومواقفهم وثقافتهم . كما تحتاج الى موهبة التنسيق والتقطيع بحيث تؤدي الى نهاية معينة طبيعية متمشية مع سير الحوادث .
والمسرحية تسمى ( ملهاة ) اذا كان العمل فيها هزلية منتزعاً من حياة العامة ، يهدف الى نقد عيوبهم لغرض اصلاح الفاسد وتقويم المعوج من عاداتهم وأخلاقهم . فهي تتخذ أهلها مسخرة للناس حين التمثيل الذي يبعث اللهو ويثير الضحك لتناوله الجهة الوضيعة من طبائع المجتمع ونقائص الحياة . وتقابل الملهاة المأساة ، وتتفارقان بأن الاولى مبدؤها حياة الانسان وضعفه ، وواسطتها التهكم والسخرية ، وغايتها اصلاح الداء بالداء . والثانية مبدؤها شعور الانسان ، وواسطتها التأثير ، وغايتها الرهبة .
فالمأساة اذن هي وهم تضمن جمعت بين الجد والهزل ، أو اقتصرت على الجد . تبعث في النفوس الهلع والرحمة وتغريها بالفضائل . تصور أشخاصها يصارعون الخطر المفزع والمصائب المفجعة . تؤدى عن طريق الالقاء ، خالطة المأساة بالملهاة ، مبرزة الموضوع الجدي في المعرض الفكه ، قابلة كل نمط من الاشخاص والاخلاق واللهجات ما دامت التأثير في المشاعر والقلوب . فهي لذلك تتطلب مؤلفاً قوي الاحساس عظیم الاسلوب يجمع بين التأثير والافادة والابتذال والرصانة والغرابة والبساطة مع اتزان التدرج وقوة التعقيد وبراعة الحل ، مما يغذي قلوبنا بالعواطف الرقيقة ويلهب فينا حب الخير .
فالمسرحية التي تنتهي بفوز البطل بزواج مثلا ملهاة ، وأما التي تنتهي بفشله ـ والفشل عادة يقتضي موته - فمأساة على ان العبرة ليست بالنهاية وحدها بل هي نتيجة لازمة للفصول السابقة كلها ، وفيها العقاب أو الثواب الذي يترتب على سلوك البطل في مجرى الرواية كلها ، فيكون موته نتيجة طبيعية لمجرى الحوادث . فمنذ بداية الرواية يضع المؤلف المسرحي عنصراً أو مجموعة عناصر تفعل فعلها وتسير سيرها المعقول المحكم حتى تنتهي الى الختام الطبيعي وهو موت البطل ، وهذا هو مقياس نجاح المأساة . أما الملهاة فلا تخلص الى مثل تلك النهاية ، وكذلك تقل فيها أهمية العوامل التي تتفاعل وتؤدي الى الخاتمة . . وهي اذ تختار دائما الحوادث السطحية التافهة وتترك للمأساة الحوادث العميقة الجادة ذات الشأن الكبير لا تعالج من الاشخاص الا عاداتهم التي قد تنفق أحياناً مع أوضاع المجتمع وقد تتعارض ، ولكنها لا تمس صميم الشرف والاخلاق ولا تصور منهم الا الجوانب التي تجعلهم مصادر شغب في المجتمع بدون أن تجعلهم بين المجرمين الآثمين . ففي هذا التعارض بين الصفات السطحية الخارجية للشخص ونظم المجتمع الذي تحيط به والمتغيرة العابرة يكون موضوع المهلاة .
فالعالم الذي تتحرك فيه الملهاة تسيره التقاليد ، وأما العالم الذي تتحرك فيه المأساة فتسيره القوانين الطبيعية التي لا تتخلف . وليس معنى هذا أن تخلو الملهاة الجد ، بل انها تصور الاشياء من ظواهرها المادية غير متعمقة فيما يكون وراء هذه الظواهر من عقائد عميقة . والمبادىء التي يخرج عليها بطل الملهاة هي التقاليد السائدة في جماعة ضاقت حدودها أو اتسعت . فتمتدح بذلك الخصال التي تعين على الحياة المستقيمة لنأخذ بها ، كما تقدح في الخصال التي تعرقل سيرها وتعوق مجراها النبتعد عنها، تاركة للمأساة بيان ما هو خليق منها بالتضحية والموت في سبيله . فهي غير باحثة عما يمكن لها أن تكون عليه ، ولا ما ينبغي أن تصير اليه . ومجال نبوغها أن توضح ضرورة الادراك الفطري السليم والاحتكام الى البداهة التي لا عوج فيها ولا التواء . لان من شأنها أن تبين للناس أسلوب العيش السعيد لا أن تعد الانسان للخلود بعد الموت . ومن ثم كان الحوار الفكه . أشد أدوات الملهاة أثراً في النفس ، لانه مجال لعرض الفكرة ومقارنتها بأضدادها وأشباهها مقارنة تبين على الفور أوجه الضعف والركاكة فيها . أما المأساة فتمثل فعل الفرد وهو في صراع مع بيئته . وليست غايتها عملية مجردة تبحث عن القوى النظرية والقوانين العامة التي تسير حوادث الحياة . فعظمة في قدرته على ايهام النظارة بفعل تلك القوة الخفية الجبارة ايهاماً لا يدع مجالا للشك بأنها صاحبة الحول والسلطان وهي التي تسير البطل في طريقه المحتوم .
تعليق