فنون التحرير
فن المقالات
كل منا يعرف ما هو المقال الذي يكتبه المحرر أو الأديب أو العالم المختص وغير المختص . فهناك المعلم والطبيب والزراعي والسياسي . وهنا وهناك كثير من العلوم والمعارف التي لا تحد ، وعدد وفير من أصحاب الاقلام المثقفين نطالع آراءهم في الصحف اليومية أو الاسبوعية أو غيرهما. فهذا يكتب في الادب، وذاك يكتب في الفلسفة والنقد، والآخر في التربية والاجتماع أو في التاريخ أو اللاهوت الخ من ذلك المكتوب نستطيع أن نسميه مقالاً صحفياً ؟ لقد أجابت على ذلك دائرة المعارف البريطانية حين قالت : «المقال ـ كفن أدبي ــ هـــو الانشاء المتوسط الطول يكتب بالنثر عادة ويعالج موضوعاً بعينه بطريقة مبسطة وموجزة ، على أن يلتزم الكاتب حدود هذا الموضوع ويكتب وجهة نظره هو . والمقال - كفن صحفي - يهتم بالتفاصيل ، على حين يهتم المقال - كفن أدبي - بمجرد القيم ).
ولا ريب ان الكتابة سهلة على المتعلم أياً كان نوع علمه وثقافته ما دام قد درس موضوعه ووضحت الافكار في رأسه . ولكن ما كل كاتب موفق ولا كل مقال بديع ، وليس اقبال القراء على انتاج مختلف الكتاب على سواء . كل ذلك يدلنا على أن للكتابة الصحفية مظاهرها الخاصة التي تتجلى في أسلوب الصحفي المتمرن النبيه الذي يكتب للناس وهو ينظر الى الحياة من جميع وجوهها لا وجهة نظره فحسب ، لانه يقدر ان هناك أصنافاً من البشر يختلفون بالمهن والميول والعادات والمنازع . فمنهم العامل والتاجر والموظف والغني والفقـ والمتعلم الراقي والوسط وشبه الجاهل ، فهو يكتب الى جميع هؤلاء . وما عليه كي يرضيهم الا أن يتحرى الأسلوب السهل المختصر الذي يتناسب وادراكهم مع تحقيق ما يعرض له من أسماء اماكن أو أشخاص أو أرقام أو تواريخ بالرجوع الى مصادرها الاساسية . ويلاحظ دائماً ان غرض كل انسان من القراءة هو الفائدة والتسلية فيتحاشى عرض ما يعكر صفوه أو يجهده بدون لذة ، كما يتحاشى أن يكون طريق عرضه للمقال باهتاً مملا . وسبيل ذلك أن يبتعد عن والمواعظ والمحاورات ، فيدخل موضوعه بدون لف أو دوران وبدون ذكر الاصطلاحات التي تغيب عن الكثيرين ، أو العبارات الغامضة المحيرة لعقول العاديين في الذكاء . بل يعبر بالتعبير السليم الذي يجعل القارىء يحس الحقيقة ويراها ويفهمها ، بعد أن تنضح الفكرة في رأسه هو نتيجة تفكيره وحصر ذهنه فيها وحل مشاكلها وتحليلها حتى في أوقات فراغه حين يسير أو يركب القطار أو ينتظر موعداً . فاذا تحدد غرضه أفهمه للناس معتنياً باجتذاب انتباههم وتشويقهم بحسن البداية والعرض وتحقيق الفائدة الناضجة التي تلتمس في الامثلة المتنوعة من مواكب الحياة .
ومن الامور المتفق عليها ان الاسلوب الطريف الموجز في عبارات بسيطة قصيرة كلها من صميم الموضوع ، وكذلك تقسيم المقال الى أقسام جزئية يعنون لها بفقرات واضحة مقتضبة ، ثم تحري العنوان الكبير بحيث يجتمع فيه القصر والقوة والافادة بالمراد مما سيعرض ، ثم مراجعة المقال مجموع الانتهاء منه للتهذيب والتنقيح ، كل ذلك له أثره الفعال في اصابة التوفيق . فالجمهور يهمه أشياء خاصة يتلقفها بتلهف الصحف والمجلات ، فيجب على الكاتب أن يغذيه بما يتطلبه من . النوع . كما انه يمقت أشياء أخرى ولا يلتفت الى الحديث عنها لانه مملول مبتذل ، كأن تصف له أشياء لا مناسبة لها أو أشياء معروفة لديه وصفاً لا أثر فيه للبراعة ورقة الخيال . ولذا يجب على كل كاتب في صحيفة أن لا يتعدى طاقته واختصاصه فيخوض في عويص الابحاث السياسية أو الدولية أو الفلسفية وسواها مما ليس له فيه المام . بل ليدعه لأهله شأنهم وشأن قرائهم المختلفين . لا سيما وان المقالة فكرة ، بل فكرة واعية قبل كل شيء ، وموضوع محدود الاطراف يحتوي قضية يراد التعمق في بحثها وتقديمها الى محبي ا الحقائق من أقصر طريق ، بحيث تجمع عناصرها وترتب على وجه يؤدي الى نتيجة معينة وغاية مرسومة من قبل البدء . فالانفعال الوجداني لا شأن له فيها ، وانما الشأن كل الشأن للامتاع الفكري فهو السمة التي تميز المقال الجيد الغث . وما دام الامر كذلك فلا بد لشرح الفكرة التي تريد ان تتناولها المقالة بالبحث من جمع الاسانيد ، واعتماد المنطق والمعقول وسعة الاطلاع مع التسلسل الذي يؤدي الى النتيجة التي نريد ان يقتنع بها القارىء بعد فراغه من مطالعة مجموع المقال .
ومن هنا نلمح الفرق بين المقال وبين البحث الطويل الذي لا يفي به الا الكتاب لانه يتناول الموضوع من جوانبه المتشعبة بتسلسل خاص . كل فصل فيه عبارة عن مقدمات لنتائج تندرج بالقارىء حتى تصل الى نهايتها في آخر الكتاب . فكل فصل فيه يعالج جزءاً من الفكرة ويتعاون في الفصول الاخرى في ايضاحها . اما المقالة فتعالج فكرة واحدة في الغالب يصل القارىء الى نتيجتها بعد أن يفرغ ، وقد الم بكل ما يريد أن يقوله الكاتب اليه .
ثم ان المقال نفسه أنواع كثيرة منها :
١ - المقال الافتتاحي : وهو المقال الرئيسي للجريدة التي تحرص دائماً على أن تكون جريدة رأي وخبر لا جريدة خبر فحسب. وهو المعبر عن سياستها وقوتها. ولكتابته أسلوب خاص يعتمد على شرح الخبر الضخم وتفسيره والاعتماد على الحجج المنطقية حيناً، والعاطفية حيناً آخر للوصول الى اقناع القراء . ويلاحظ فيه أولا البدء بالفكرة المثيرة للاهتمام ثم ايراد الحقائق والشواهد المؤيدة للفكرة ، ثم الاختتام بنتيجة يرتاح لها القارىء ويؤمن بها . كما يلاحظ أيضاً ان كاتبه اما أن يكون رئيس التحرير المسؤول أو غيره من الكتئاب الكبار كالمحامين والمشرعين والمعقبين والمقارنين ممن يعملون في الجريدة أو لهم صلة قوية بها . ويلتزم فيه مهما تعدد واختلف سياسة واحدة هي سياسة الجريدة الثابتة البعيدة عن الذبذبة والتلون . ولهذا نراه لا يذل بتوقيع كاتبه الا نادرا ، لانه منسوب الى ادارة الجريدة المسؤولة عن سياستها . ثم نشعر فيه بسلوك كاتبه مسلك الحيطة والحذر فيما يكتب حتى لا يعرض الجريدة التي يعبر عن رأيها للخطر الداهم .
فهو والحالة هذه أشبه بالقاضي العدل يجوز له أن يؤخر حكمه القضية المعروضة عليه حتى تتوفر له الادلة الكافية والبراهين الدامغة ليعتمدها في الاحداث والتجارب الجارية في الحاضر ، والذاهبة مع الماضي ، والمتوقعة في المستقبل . فهو يعالج في هذا المقال وبهذه الكيفية موضوعات الساعة ومشكلة اليوم ، مهتماً بالافكار التي تشغل أذهان الناس وقت صدور الجريدة ليروا فيها ما يشفي غليلهم ويضع لهم النقاط على الحروف ، معلقا على الحوادث الهامة وتصرفات الشخصيات البارزة وما يصدر عنها من أقوال وتصريحات ، معطياً فكرة عما بين سطور الاخبار ، مشيراً الرغبة في القراءة بضربه الامثال واستعانته بالحكم والشواهد والكلمات المأثورة ، واضفائه الخيال الجميل والمقارنات المعقولة ، ومحاولته تلخيص مجموعة من الافكار المختلفة في افتتاحية واحدة ، مستعيناً في ذلك بالوثائق والكتب المحفوظة في مكتبة الجريدة . فبذلك وحده يتمكن من مساعدة القراء على حل المشاكل الوطنية والاجتماعية الكبرى كنشر التعليم والتأمين الاجتماعي ، كما يساعدهم على فهم حقيقة الاخبار، وما يمكن أن يكون وراءها من تكهنات قد تنقلب الى حقائق في المستقبل القريب أو البعيد . وهو يعرض كل ذلك بأسلوب يتبسط فيه كثيراً لقارئه وكأنهما صديقان يتفهمان قضية واحدة مشتركة تهمهما معاً في توجيه السياسة التي تتبعها الدولة أو يتبعها المجتمع . ومن وراء هذا الاسلوب المبسط يوجه هؤلاء الناس ويلقي اليهم من طرف خفي بالمعلومات التي يشاء . وفي سبيل هذه الغاية يخاطبهم على قدر عقولهم ، ويزجي لهم كل ما فيه امتاع وتسلية حتى لا تبدو الافكار والآراء التي يعرضها جافة خشنة كالحجر الصلد . ولهذه الاعتبارات نرى أن كاتب المقال الافتتاحي ينبغي أن تتوفر فيه عدة صفات أهمها : أن يكون ذا حاسة صحفية دقيقة تساعده على تذوق الاحداث الداخلية والعالمية الجارية ، وفهمها وتوضيحها ، وذا شخصية اجتماعية مرهفة تمكنه من تفهم روح الجمهور الذي يكتب اليه ، مع ثقافة واسعة تمكنه من اسداء الحكم الصائب والرأي السديد وذاكرة تاريخية قوية تسعفه في ربط الحوادث الماضية بالحاضرة لاجراء المقارنات اللازمة التي يتكهن عن طريقها بالمستقبل وما يجري فيه من اوضاع . يقول جورج ملتون الصحفي المشهور : « ان المحررين لا يعرفون بالضبط ما يطلبه الجمهور ، ولكنهم يتكهنون به ، وعلى الصحيفة أن تبذل كثيراً من الجهد والوقت في سبيل التعرف على رغبات الجمهور ، وهذا ما يحدث الآن » .
٢ - العمود الصحفي : وهو يتسم دائماً بطابع صاحبه في التفكير والتعبير ، ولا تتجاوز مساحته عموداً صحفياً على أكثر تقدير . وهو يختلف عن المقال بصغر المساحة التي يشغلها من الصفحة بالنسبة اليه ، كما يختلف أيضاً بالنسبة للتوقيع . فالعمود الصحفي جرت العادة أن يوقع بالاسم الكامل ، أو بالاسم الاول فقط ، أو الحرف الأول من الاسم والكنية ، أو برمز من الرموز وهكذا . كما جرت العادة أن يحتل من اليسار أو في وسطها أو في غير الامكنة التي تختار الصحيفة واحدا منها ثم تلتزمه ، ويكون بعنوان ثابت وحجم متقارب في كل مرة ، كما في . ود ( ما قل ودل ) بجريدة الاهرام وعمود ( خاطر الصباح ) بجريدة الجمهورية . بخلاف
تعليق