هكذا ينتصر القلم الحر على الفساد
. . . وفي السجن اعترف تويد بالطريقة التي تمت بها سرقة اموال البلدية التي كان من أبرز اعضائها . هذه الاموال التي قدرت بما يتراوح بين خمسين مليون على الاقل الى مئتي مليون من الدولارات . والتي كانت ستقفز الى اكثر من الرقم لولا ان الصحافة الحرة كانت له ولعصابته بالمرصاد . وكانت الطلقة الاولى يوم استهلت جريدة «نيويورك تيمس » افتتاحيتها بالعبارات التالية : « يوجد في هذه المدينة ونحن لا نشعر أمير النجارين واسعد السمكرية واكثر المبيضين ربحاً في العالم كله . كل ذلك بفضل المحكمة الجديدة التي تنشئها البلدية ، والتي تعتبر صح ما تقوله الاوراق ، افخم محاكم الدنيا لانها تكلفت اثني عشر الدولارات » . وبعد ان سردت الصحيفة ما لديها من أرقام تبين ما انفق على هذه المحكمة ، وما خص كلا من المبيض والحداد والنجار ختمت مقالها الجرىء بهذه العبارة : « هذه هي الارقام عندما تتكلم وبعدها يصح لنا ان تتساءل : هل حكامنا أشراف أم لصوص ? » وكان الجواب الحاسم ان تهافتت الايدي والعيون تنهب هذا العدد الذي يحمل التساؤل نهباً ، حتى لم يبق في المدينة مواطن لم يذهب مع الصحيفة في تساؤلها الرهيب !
وامضت نيويورك نهارها صاخبة قلقة ، حتى اذا اقبل الليل هدأت وهي ترقب ان يأتيها الغد بأحد أمرين : تقديم المتهمين دفاتر الحسابات ليدفعوا عن انفسهم التهمة . أو اتخاذ السلطات ويريح القلوب . ولكن لم يكن هذا ولا ذاك . انما الذي كان في اليوم الثاني هو تحرك مندوبو الصحف يبحثون عن هؤلاء العمال السعداء الذين وافاهم الحظ بالربح الخيالي. ولكن ما وجدوه كان مدعاة للعجب: بيوت حقيرة ودكاكين منزوية في احقر شوارع المدينة الضخمة اما اربابها فقد ذابوا كالملح مخافة ان ينهتك عنهم الستر . وكان هربهم بمثابة برهان للجريدة فيما تدعيه . ولذا فقد اجتمع عدد كبير من اعيان المدينة وأثريائها ليبحثوا الموقف ، ويتخذوا الاجراءات الكفيلة بوقف الفساد الخطير . وهب الناس يطالبون بشنق السارقين . ولكن كل هذا لم يحرك احداً من رجال الأمن ليقود ولو واحداً من المتهمين الى السجن للتحقيق ، فضلا عن أن يقوده للشنق . فقد كان المسؤولون الكبار من من صنائع وليم تويد ، وهو زعيم عصابة من اللصوص .
نعم لقد كان سابقاً ابن صانع كراسي ، اشتغل زمناً طويلا في دكان ابيه ، ثم استطاع بجده وطموحه ان يعمل في احدى الشركات ، وان يتزوج ابنة صاحب الشركة كأول خطوة في طريق الثراء ، ثم سار بدون ان يقف . وفي نهاية المسير التفت اليه الناس فاذا بهم يرون فيه رئيس اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي في نيويورك ، ورئيس مجلس مراقبي حسابات البلدية واعمالها ، وعضو مجلس الشيوخ . فكيف يصلون اليه او الى احد مساعديه وحوله كل هذه الحواجز والحدود ! وقد اصبح بعد أن عين بنفوذه من أراد من حكام المدينة وكبار موظفيها - الحاكم المطلق فيها يتصرف بمرافقها هو واتباعه كيف شاء . فتزلفت اليه الشركات وضمته الى عضويتها بدون ان فيها بشيء . كما انشأ مطبعة احتكر فيها كل مطبوعات البلدية ، ومطبوعات الشركات التي اضحت تتنافس في ارضائه . اما المقاولون والمتعهدون فكان لا يوافق لهم على صرف اي مبلغ من المال الا اذا قدموا له ولعصابته عمولة قد تزيد على نصف ما يأخذون . والويل كل الويل لمن يأتي من هؤلاء او هؤلاء بشيء يخالف هوى تويد ، أو يضر بمصلحته في الكسب الغزير فيسبب غضبه عليه ! وأضحى مجموع سكان نيويورك يعلمون ان تويد لص كبير ، وأنه زعيم عصابة خطيرة ، ولكن هل من يستطيع الوقوف بوجه البركان؟ التي أنشئت لتحق الحق وتبطل الباطل وتدفع الضيم عن الشعب استطاع أن يشتريها بجدول صغير من نهر ثرائه العريض فتسكت عنه ، بل وتنقلب الى صديق حميم .
ولكن جريدة واحدة لم يستطع الطاغية شراءها ، جريدة تحترم شرف المهنة وتعتقد ان الربح المادي مهما بلغ قدره لا يساوي اليسير اليسير من الربح المعنوي . هذه الجريدة هي النيويورك تيمس التي أخذت على عاتقها وحدها أمر انصاف الناس من هذا اللص الكبير : فبدأت تهاجمه باستمرار . وحاول هو يعزو حملتها عليه مرة الى كونها مدفوعة من قبل الحزب الجمهوري منافسه في السياسة ففشل ، ومرة الى تأخر البلدية في تسديد قيمة اعلاناتها التي بلغت مبلغاً كبيراً الدولارات ففشل أيضاً ، وكتبت التيمس في الحملة الثالثة تطلب منه بعبارات ساخرة أن يبين لها الطريقة التي استطاع بها صاحب الملايين بعد ان كان هو وبطانته من المعدمين في سنوات لا يتجاوز عددها أصابع اليد . ثم تؤكد له أن الرأي العام يعتقد معها ان أمواله . أسيء استخدامها ، وأن مؤامرات فاسدة تجري وراء ظهره .
وظلت في نضالها هذا وحدها أكثر من عام ، وكأنها تنقر في جبل صلد . فالسلطات الحكومية بدأت تضغط عليها ، والشركات منعت اعلاناتها عنها ، والصحف التي اشتراها لويد بدأت تصوب نحوها ، حتى كان فيما قالته جريدة ( صان ) : ان رئيس تحرير النيويورك تيمس الحالي سبق أن طرد من جريدة ( التيمس الانجليزية ) لسوء سلوكه وعدم أمانته في الكتابة . وقد غرق أخيراً في فضيحة كبرى كلها تضليل ، وليس فيها من الحقيقة شيء . ينبغي أن تغير الصحيفة مسلكها وسياستها ، وتطرد هذا المحرر وتختار رجلاً متعلماً مكانه لتعود لهذه الصحيفة مكانتها ، والا فان قدرها المحتوم يتربص بها وينتظرها » . وأجابت النيويورك تيمس : « اننا لا نعلنها حرباً مخادعة ضد تويد وعصابته ، فنحن لا نريد الا الاصلاح ولا نبغي مغنماً خاصاً . اننا نريدها حرباً قوية جادة لا هوادة فيها ولا رحمة . وقد هددنا وأنذرنا أكثر من مرة ، ثم أوذينا لأننا جرؤنا على أن نقف باسم الرأي العام ضد عصبة اللصوص . ونحن على استعداد لأن نواصل الحرب التي بدأناها حتى يفتضح أمر اللصوص ، وتقبض عليهم في الغد القريب أو البعيد » ...
وهكذا استمرت الجريدة الجريئة في حملتها . فلجأ تويد الى تشكيل لجنة من رجال الاعمال في المدينة ليبعد . بواسطة تقريرهم المخادع الشبهة عن نفسه أمام الناس . ولكن الجريدة لم تدعه يتمكن من الباسه الباطل لبوس الحق ، بل طعنت في التقرير ووصمت أصحابه بالتحيز والارتجال والخيانة . وكان رد تويد هذه المرة وبعد أن أيقن أنه أمام خصم لا يقهر أن أخذ خفية لشراء الجريدة من أصحابها بمبلغ خمسة ملايين من الدولارات ليجتث المزعجات من أساسها . وكان على جورج جونز رئيس تحريرها أن يختار أحد أمرين : السلامة في التراجع عما هو ماض فيه ، أو الاستمرار حتى يواجه المصير المحزن فيما اذا انتقلت التيمس الى تويد . لا سيما وانه في كة ليس لديه فيها دليل ملموس حتى ذلك الحين .
ولكن العناية الالهية شاءت أن تنقذه في أحرج المواقف حينما دخل عليه يوم أحد منافسي تويد في الإنتخابات وقال لجونز : لقد كانت حرباً صعبة بالنسبة لكم . والقى الرجل مظروفاً ضم كشوفا كاملة لحسابات البلدية وهو يقول : لقد توصلت الى تعيين شخص أثق به في قسم المراجعة . وقد عثر على الدفاتر الخاصة للعصابة ، وتمكن من نقل قوائم الحسابات الخاصة والعامة كما هي . وأدرك جونز أن الحال قد تبدلت معه فعلاً بعد أن أصبح لديه الدليل . ومن ثم صدرت النيويورك تيمس تحمل هذا العنوان بالخط العريض : « ٨٠ في من دخل المدينة يسرقه اللصوص » . ثم وجهت التهمة بصورة علنية الى تويد وعصابته . ووعدت بأنها ستبدأ بنشر الكشوف التي لديها لدعم كل ما تدعيه .
وأحس تويد وجماعته حينئذ بأن شبح ا الفضيحة يدنو منهم بشكل مريع لا يدفع . فلجؤوا الى عرض مغر تتحلب له الأفواه . غير ان جونز ـ وان كان قد شده له بشكل لفت اليه نظر صديقه المحامي الذي تولى عرضه عليه بحضور أحد أفراد العصابة ـ أجاب بدون تردد وصورة الخمسة ملايين دولار وفكرة العيشة معها في أوربا عيشة الأمراء تدور في رأسه - : نعم هذا حقيقي ولكني سأعيش أميراً وأشعر بأنني وغد ونذل . ستظل التيمس تنشر الحقائق وفعلا طلعت جريدته في اليوم التالي تنشر الكشوف الرسمية فتهافت عليها سكان نيويورك . ورغم لم تتخذ السلطات الحكومية أي اجراء أو تحقیق مع تويد وبطانته الا بعد أن أمنوا شره بسقوطه في انتخابات سنة ۱۸۷۱ . وحينئذ تحرك المجلس الجديد وأصدرت النيابة أمراً بالقبض عليه وزجه في السجن .
فلله در امرسون اذ يقول : « يجب أن يكون الكاتب حراً وشجاعاً. حراً بكل ما في كلمة الحرية من معنى . وشجاعاً بحيث يستطيع الاحتفاظ بحريته » .
تعليق